فقد مضت سنة الأولين

د. نور الدين صلاح

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية

تابع المهتمون بالشأن السوري تصريحات الرئيس السوري الأخيرة لجريدة (الديلي تلغراف) وكنت ممن تابع هذه التصريحات بدقة وكنت متوقعاً لها ومنتظراً لها بفارغ الصبر لأنني أعتبرها علامة واضحة على الدخول في مرحلة جديدة وهي مرحلة التخبط والضياع والإفلاس وفقد البوصلة، هذه المرحلة تتسم بعدم التوازن والانفعالية والتناقض، وهي مرحلة ما قبل الانهيار مباشرة،إذ من الواضح أن الضعف قد دبّ في كل مفاصل النظام، ومن الواضح أن النظام لم يعد لديه شيء يقوله أو شيء يعطيه، ولقد سار في الحل الأمني إلى نهايته وفي التنكيل إلى أبعد مداه، ومن الواضح أنه لا يملك أي حل سياسي وقد رُمي له طوق النجاة ودُلي له حبل الخلاص عن طريق مبادرة الجامعة العربية لكنه لا يوجد لديه سياسياً ما يعطيه وها هو يمشي على طريق سلفه القريب (القذافي) وهذه سنة من سنن الله في الطغاة والظالمين يضلهم الله فيكررون نفس الأخطاء ويكررون نفس الدعاوى ويسوقون نفس الأكاذيب، ولقد خاطب الله نبيه في كتابه فقال مسلياً له (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) وأنا أقول للثورة الثورية ما يقال لك إلا ما قيل للثورات العربية من قبلك، ونستعرض ما قال الأسد لنجد ما يلي :

أولاً : الاعتراف بأنه ارتكب بعض الأخطاء في البداية، يقولها الرئيس بكل بساطة واستخفاف، لكن لم يقل لنا ما هذه الأخطاء ؟ ومن ارتكبها ؟ ومن المسؤول عنها ؟ ومن سيحاسبه عليها ؟ وهل هناك ثقة فيمن سيحاسب ؟ وهل هذه الأخطاء التي ارتكبت في البداية ما تزال مستمرة حتى النهاية ؟ وأين الشفافية في خطاب الإصلاح ؟

ثانياً : سلك هذا النظام نفس الأسلوب التقليدي فمن ذلك سياسية استعراض العضلات وتظاهر الموالين بما يسمى المسيرات المليونية (العفوية) هنا وهناك ونحن نعلم كيف تخرج وكيف يعد لها ولست بهذا الصدد، وقد رأينا القذافي يسيّر المسيرات والهتافات في الساحة الخضراء بطرابلس والبرامج التلفزيونية تتحدث عن البطولات بنبرة التحدي والعنفوان الثوري واتصالات المؤيدين، والشبيحة الإعلاميين وقد رأينا بعضهم مثل (شاكير) مارس الشعوذة والكهانة وبدأ بقراءة الطلاسم السحرية ووعد بتدخل الجان نصرة لآية الله (القذافي)، ثم مارس سياسة اللامبالاة بالخصوم فالأسد إلى يومنا هذا وقد مضى على الثورة قرابة ثمانية أشهر لم يعترف بها ونعتها بشتى الاتهامات (مندسون، سلفيون، عصابات مسلحة، عملاء وخونة، بندريون وحريريون، إخوانجية) إلى آخر ما هنالك من الاتهامات، وهؤلاء لا يعنون له شيئا، ولم يتورع الرئيس عن وصفهم بالجراثيم، والأزمة أصبحت وراءنا والأخطر قد ولى، وقد رأينا القذافي كيف وصف الثوار بالجرذان وغير ذلك من الأوصاف وكال لهم الاتهامات، ثم سياسة التهويل والحديث (الجيوسياسي) عن الصدع السوري الذي سيسبب (الزلزال المدوي بكل ارتجاجاته) وكأن الغرب لا يعلم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وهو المتتبع لكل تفاصيلها وبيده كل أوراقها، ونسي الأسد أن الذي نصّبه وبارك تتويجه في (جملوكية سوريا) هو الغرب، وهو الذي سكت على جرائمه وتستتر عليها، وهو الذي يعلم نقاط ضعفه وعنده مفاتيح تفكيك (البراغي) له، وهو يعلم أي (الأسد) علم اليقين أنه بقي كل هذه الفترة مع فساد نظامه وكل مساوئه ضمن صفقة وضمن توافق دولي زالت اليوم كل مبرراته وأسبابه، فعلى من يهوّل !!!!

وها هو الأسد يتحدث عن (القاعدة) بكل صراحة ووضوح ويتحدث عن (الإخوان) وأنه يقاتلهم من خمسين عاماً، هذا هو التخبط الذي تحدثت عنه، لم ينتبه سيادة الرئيس بكل ادعاءاته ورواياته التي سوّق بها هذه الأزمة أنه يعلن فشله الذريع، نظام لم يكن له أي إنجاز مدني وكان يتباهى ويتفاخر بإنجازاته الأمنية ها هو يعلن فشله بعد مرور ثمانية أشهر عن القضاء عن مجموعات مسلحة بكل جيشه وأجهزته الأمنية وشبيحته وميليشياته الحزبية والطائفية، وها هو بعد خمسين سنة كما يقول من حربه للإخوان وقد حكم عليهم بالقانون(49) بالإعدام وقد أعدم كثيراً منهم بالفعل وسجن الكثيرين وشرد الأكثرين، وها هو يثبت فشله على لسانه بالقضاء عليهم ويجعل محاربتهم من مبررات وجوده وقبول الغرب له ورضاهم عنه، وهو يكشف عن دوره الوظيفي بالمنطقة الذي كان يمارسه ويجعل الغرب يتغاضى عنه ويحرص عليه، ولم تعد هذه الفزاعة تخيف العرب، وهذه تونس أكبر دليل على ما أقول، فقد حذر (ابن علي) العالم وخصوصاً الغرب من فزاعة الإسلاميين، وها هو الغرب يرسل برقية (التهنئة) لحزب النهضة التونسي الذي ظهر بخطابه المعتدل الذي فند فيه الأكاذيب وأحبط الأراجيف، ومارس الأسد قبلها سياسة التهديدعلى لسان شبيحته الإعلاميين اللبنانيين كوئام وهاب ورفيق نصرالله وأنيس نقاش وهاهو (القنطار) ينضم إلى هذه الجوقة وكان حرياً به وقد عانى الظلم ومرارة وقسوة السجن عند الاحتلال الإسرائيلي أن يقف مع المظلوم وهو الشعب السوري وهو يعلم أن سجون الاحتلال من فئة (الخمسة نجوم) إذا ما قورنت بسجون النظام المجرم في سوريا، وخلاصة التهديدات أن الصواريخ سوف تنهال كالمطر على إسرائيل إذا تدخل الغرب عسكرياً، والصواريخ وراجماتها سوف تحجب الشمس عن تركيا لو تدخلت، ثم خرج المفتي عن كل حدود اللياقة واللباقة فهدد الغرب بالاستشهاديين يخرجون لهم من كل مكان، ونحن نعلم أن هؤلاء أعجز من أن يفعلوا شيئاً ولذا سمح لهم النظام بالنباح لأنه لا يتحمل من تصريحاتهم شيئاً فهي بمثابة شيكات لا رصيد لها، سوى المفتي فهو منصب رسمي ولا مانع أن يتحدث المفتي بهذه اللغة عند النظام لأنه سيساعده في تصوير المتدينين على أنهم إرهابيون ولو كانوا في مواقع رسمية، كان القذافي قد هدد الغرب بمثل أولئك وكان يحدثنا بخطابه عن الحرب الصليبية وهو بنفس الوقت يحذر الغرب من القاعدة، والأسد يتكلم بنفس اللغة فهو سيشعل المنطقة وسيفجرها ونسي الأسد أنه حذرنا في لقائه الرمضاني لمنسوبي للأئمة من الغرب وقال بصريح العبارة أنهم لم يحبونا في يوم من الأيام وأنهم لن يحبوننا وهو عاش بينهم في بريطانيا وهو يعلم ذلك جيدا، وهو يحذرهم اليوم من القاعدة والإخوان المسلمين ويحذرهم من (أفغنة) أو (صوملة) سوريا

ثالثاً : يحدثنا الأسد عن (تقسيم سوريا) وأنه سيكون بداية تقسيم المنطقة، لم نسمع أحداً من المعارضة ولا أحداً من الدول المجاورة أو الهيئات الرسمية والشعبية كالجامعة العربية مثلاً يتحدثون عن التقسيم، بل سمعنا في كل الخطابات الحفاظ على دولة سوريا شعباً وأرضاً، فلماذا يصر الرئيس في عدة مناسبات على هذا الطرح، فالحرب الطائفية والتقسيم والفوضى كل هذه الفزاعات يسوقها الرئيس بكل أبواقه وأساليبه المختلفة، والمعارضة ما زالت ترفع اللاءات الثلاثة : لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي، وتحذير الرئيس من التقسيم كأنه تمهيد وتوطئة لخياره النهائي بعدما ورّط كثيراً من أبناء طائفته وزجهم بسياسة (الفوبيا الطائفية) إلى مواقف ومواقع لا يحسدون عليها، وقد حاول أن يلعب هذه الورقة مراراً وقد أفشلها شعبنا بوعيه وصبره

رابعاً : الضعف بدأ يظهر في الخطاب السياسي فالرئيس يعول على الموقف الروسي كما جاء في حديثه للقناة الأولى وبدا جلياً كيف يستجدي هذا الموقف وكأنه مخرج النجاة الوحيد للنظام، وهذا يشير إلى أن الزمام لم تعد في يد النظام، ولقد سمعت السفير السوري في لبنان (علي عبدالكريم) في قناة المنار يستجدي السعوديين ويفتخر بالعلاقات التاريخية المتميزة بين البلدين ويدلل على ذلك بزيارة (الشرع) لتقديم التعازي بولي العهد السعودي وهي زيارة (بروتوكولية) لا تعني شيئاً كرسائل التهنئة التي يتبادلها الملوك والرؤساء في الأعياد والمناسبات، ونسي أن أبواقه الإعلامية اتهمت (بندر بن سلطان) كأحد أطراف المؤامرة ومن مموليها الأساسيين، وتحدثت شعبان بأنها ليس لها رغبة أن تزور أي دولة في الوقت الحالي إلا السعودية ونسيت أن قناتها (الدنيا) تطاولت على موقف العاهل السعودي مما يجري في سوريا وأخذت تلفق الأكاذيب عن الواقع في السعودية، ولقد رأينا المندوب السوري في الجامعة العربية يتحفظ على المبادرة العربية ويصفها بالخيانة وأنها تأتي وفق (أجندة غربية) ثم رأينا النظام تحت الضغط يستقبلها ويظهر التجاوب معها ولو أنه سيراوغ فيها، وها هي الصين تنفض يدها من النظام ورئيسه وتطلق تصريحات واضحة بأن النظام لم يستفد من (الفيتو) وأساء إلى الصين ووضعها في خانة الإحراج

وفي الختام فلقد قال (مبارك) بعد سقوط (بن علي) مصر غير تونس، ولقد قال (القذافي) بعد سقوط (مبارك) ليبيا غير مصر وتونس وها هو (الأسد) بعد سقوط (القذافي) يردد سوريا غير مصر وليبيا وتونس، سوريا غير سوريا غير سوريا غير ....

إنه قد تختلف سوريا بالموقع (الجيوسياسي) وهو ما حاول النظام أن يستغله ويلعب بورقته، لكن سنة الله في الظالمين لا تتغير ولا تتبدل (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) ولقد قال القادر (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) وكذلك فإن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وإن من سيكابر أو يعاند فليقرأ التاريخ (فقد مضت سنة الأولين)