الخوارج تاريخ وعقيدة 16
الخوارج تاريخ وعقيدة
الحلقة (16)
الحالة الاجتماعية للخوارج
محمد فاروق الإمام
هذه الصفات المتناقضة عند الخوارج تدفعنا إلى الاعتقاد - والله أعلم - إلى أن جل الخوارج كانوا من الأعراب، وهؤلاء كانوا في فقر مدقع قبيل الإسلام. ولما جاء الإسلام لم تتحسن أحوالهم المادية، ولم تتأثر طبيعتهم الجلفة القاسية - لابتعادهم عن رقة ونعومة وطراوة ولين الحاضرة - بالحياة التي اكتسبها أقرانهم من خلال احتكاكهم بالأمم المتمدينة، كما لم تتحسن ظروفهم المعيشية، ونجد أن الإسلام أصاب شغاف قلوبهم دون عقولهم مما أدى إلى سذاجة التفكير وضيق في الأفق والتصور والتحليل وإعمال العقل، وبعد عن التعمق في الدين وعلومه، فتكونت نفوسهم على الإيمان والتعصب، في نطاق عقول متهورة مندفعة لأنها تربت على قساوة البادية ولم تعرف إلا الصحراء. وكانت في نفس الوقت زاهدة، فإن عيونهم لم تر غير الرمال وبيوت الشعر والنوق والخيل والسيف، ولهذا نراها قد انصرفت عن الشهوات المادية وملاذ هذه الحياة، واتجهت بكليتها تفكيراً وأحاسيس إلى نعيم الآخرة.
ولقد كانت هذه الحياة التي يعيشونها في بيدائهم دافعة لهم على الخشونة والقسوة والعنف، إذ النفس صورة لما تألف، ولو أنهم عاشوا حياة رافهة فاكهة في نعيم، أو في نوع منه لخفف ذلك من عنفهم وألان صلابتهم، ورطب شدتهم.
ومثال على ما سبق ذكره هذه القصة القصيرة: "خرج رجل على عبيد الله بن زياد، يقال له أبا الخير، وكان من أهل البأس والفروسية والنجدة، وكان على رأس الخوارج، فدعاه ابن زياد، وولاه بعض ولاياته، وأعطاه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مئة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئا خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة، فلم يزل واليا حتى أنكر فيه زياد شيئا، فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من محبسه حتى مات".
وهكذا نجد كيف أن النعمة قد ألانت من طباع هذا الخارجي، وهذبت نفسه وجعلته سمحاً رقيقاً بعد أن كان قاسياً متعصباً وعنيفا.
إضافة إلى ما تقدم من الأمور - التي دفعت الخوارج على الخروج والتمرد على الإمام - فإن هناك أمراً لا يجوز إغفاله، وقد يكون من أهم الأمور التي حفزتهم للخروج، فقد كانوا يحسدون قريشاً على استيلائهم على الخلافة واستبدادهم بها دون الناس، والدليل على ذلك أن أكثرهم من القبائل الربعية – بني ربيعة - التي قامت بينها وبين القبائل المضرية الكثير من الحروب والنزاعات التي خفف الإسلام من حدتها، ولم يذهب بكل غلوائها، بل بقيت آثارها الكثيرة متمكنة من نفوسهم.
وقد تظهر في الآراء والمذاهب من حيث لا يشعر المعتنق للمذهب الآخذ بالرأي، وأن الإنسان قد يسيطر على نفسه هوى يدفعه إلى فكرة معينة يخيل إليه أن الإخلاص رائده، والعقل وحده يهديه، وهذا أمر واضح في مجريات الحياة كلها، فالإنسان ينفر من كل فكرة اقترنت بما يؤلمه. وعلى هذا فلنتصور أن الخوارج، وأكثرهم ربعيون، لم يستسيغوا أن يروا الخلفاء من مضر، مما دفعهم حسدهم، إضافة إلى ترسبات الماضي، لينفروا من حكمهم ويتجهوا في تفكيرهم نحو الخلافة تحت ظل هذا النفور من حيث لا يشعرون، وظنوا أن ما يقولونه هو محض الدين، وأنه لا دافع لهم إلا الإخلاص لدينهم.
لقد كان الخوارج أكثرهم من العرب، وبينهم قلة من الموالي، مع أن آراءهم في الخلافة من شأنها أن تجعل للموالي الحق في أن يكونوا خلفاء عندما تتوافر شروطها، فقد كان الخوارج لا يقصرون الخلافة على العرب، ولا على جنس من الأجناس، أو فريق من الناس. والسبب في نفور الموالي من مذهبهم أنهم هم أنفسهم مع هذه الآراء، ينفرون من الموالي، ويتعصبون ضدهم، فهذا المختار بن أبي عبيد الثقفي عندما استتب له الأمر في الكوفة أخذ يقرب العرب ويشيح عن الموالي حتى أثار ريبتهم ودفع أبا عمرة رئيسهم - وكان من الموالي - ليلفت نظر المختار وهو يقرب العرب ويشيح عن الموالي، فأرضى المختار رئيس حرسه بقوله: بل هم مني وأنا منهم - يقصد الموالي - وروى ابن أبي الحديد أن رجلاً من الموالي خطب امرأة عربية من الخوارج فقالوا لها: فضحتنا… وربما لو تركوا تلك العصبية لتبعهم خلق كثير من الموالي.