سمعناكم فاسمعونا، قبلناكم فاقبلونا
الثورة السورية: عِبَر وفِكَر (14)
مجاهد مأمون ديرانية
كتبت إلى اليوم نحوَ مئة وأربعين مقالة عن الثورة، فما أثارت مقالةٌ كتبتها من الضجّة وأجلبَت عليّ من الردود ما صنعت المقالةُ الأخيرة (هي لله ولو كره الكارهون). فمِن راضٍ غاية الرضا إلى ساخط غاية السخط، ومن مبالغ في الثناء إلى مبالغ في الهجاء. ولكنْ لا تظنوا أنها اهتزّت في بدني شعرةٌ مما كتبه الساخطون، فأما من ردّ بالحجة وحاورني بالمنطق فقد أكبرته وشكرته وقبلت منه، وأما من هجاني ورماني بالكَلِم النابي والوصف القاسي فلا أباليه، فإني لمّا رأيت أبطال الثورة استقبلوا بصدورهم الرصاصَ هانت نفسي في عين نفسي واستسهلتُ أن أستقبل بعضاً من الشتم وبعضاً من الذم، واحتسبته في سبيل الله قليلاً هيّناً في جَنْب ما يلقاه الثائرون الصابرون المرابطون على أرض الثورة والصبر والرباط.
ليست هذه المقالة لرد هجاء بهجاء، وإنما لتوضيح حقيقة هي من أوضح الواضحات، ولكنّ قوماً ما يزالون يعجزون عن رؤيتها وينكرونها إنكار الشمس في رابعة النهار. إنها دعوة إلى الفهم والحوار لا منابذةً وإلقاءَ زيت على النار، فليحملها مني المخالفون على هذا المحمل لا على سواه، ويردّوا على المنطق بالمنطق وعلى الأفكار بالأفكار.
أعجب ما سمعته -في كل ما سمعته من ردود- هو أن شعب سوريا مسلمٌ ولكنه ليس إسلامياً بالضرورة، وعليه فإن من المقبول أن يخرج الناس من الجوامع وأن يهتفوا في مظاهراتهم لله، بل إن هذا هو المشاهَد فعلاً، ولكنْ لا يعني هذا بالضرورة أنهم يختارون الإسلام منهجاً لحياتهم ودستوراً لبلادهم، بل وأكثر من ذلك: إن إقحام الإسلام في السياسة من شأنه أن يشقّ صف الثورة وأن يفرق السوريين شيعاً وطوائف ويهدد وحدة الثورة والوطن.
إذن فالإسلام مقبول ولكن الإسلاميين مرفوضون، أو باختصار: لا يريد القوم إسلاماً سياسياً.
ما هذا المنطق يا أيها السادة؟ أنتم لا تنكرون على اليساريين أن يشتغلوا بالسياسة ويكوّنوا الأحزاب، ولا على القوميين ولا العلمانيين، بل لقد ذهبتم أبعدَ من ذلك وأبعد مما يسعه ويُسيغه خيالي المتواضع فوافقتم على أن تضم المعارضة بعثيين (من شرفاء البعثيين كما قلتم)! أي أنكم لا ترون بأساً في البعث السياسي، ولا في اليسار السياسي، ولا في القومية السياسية والعلمانية السياسية... المشكلة فقط في الإسلام السياسي؟ كل أولئك يمكن أن يشتغلوا بالسياسة والحكم إلا الإسلام، فإن السياسة والحكم عليه حرام؟
مرة أخرى أسألكم: ما هذا المنطق يا أيها السادة؟
سوريا ستخرج من حكم البعث الأسدي البغيض عما قريب بإذن الله وسوف يشكّل الأحرارُ أحزابَهم ويخوضون انتخابات يختار فيها أهلُ سوريا مِن بينهم مَن يمثلهم في البرلمان وفي الحكومة. هل ترون عيباً فيما قلت آنفاً؟ لا، إذن فسايروني وأجيبوني عن السؤال التالي: ما دام تسييس الإسلام من الكبائر -فيما تقولون- فسوف أجد أمامي حزباً يسارياً وحزباً اشتراكياً وحزباً ماركسياً وحزباً قومياً وحزباً ناصرياً وحزباً علمانياً، وبل ربما حزباً بعثياً أيضاً، بل ربما وجدت حزبَ عَبَدة إصبع قدم بشار الأسد... أليست الديمقراطية تسمح لمن شاء بتكوين الحزب الذي يشاء؟ ولكني لن أجد حزباً إسلامياً لأن الإسلام السياسي محرَّم ولأن دخول الإسلام في السياسة يفرّق السوريين. والآن أنا في موقف صعب وفي غاية الحيرة والاضطراب: أيَّ واحد سأختار من تلك الأحزاب؟
ألا ترون إلى أين تذهبون بسوريا؟ العلماني سيجد له حزباً ينتمي إليه ويؤيده في الانتخابات، وكذلك اليساري والبعثي والباقون، أما المسلم، المسلم الذي ليس له انتماء ولا ولاء ولا هوى يساري ولا علماني ولا غيره، فإنه مضطر إلى الاختيار بين واحد من تلك الأحزاب لأن "الإسلاميين" لا ينبغي لهم أن يشاركوا في الحياة السياسية! المسلم (المسلم العادي، لا المسلم السياسي ولا المسلم الحزبي)، المسلم الذي سلّم أمره لله وهتف في ثورته لله عليه أن يختار بين حكم علماني أو يساري أو قومي أو بعثي، لأن سوريا حلالٌ حكمُها للقومية والبعثية والعلمانية واليسار، حرامٌ على الإسلام!
مرة ثالثة أسألكم: ما هذا المنطق يا أيها السادة؟
أنا لا أتحدث عن الانتخابات وعن الحياة السياسية القادمة فقط، بل أتحدث عن الحياة الحاضرة اليوم أيضاً، وعن المعارضة بكل هيئاتها ومجالسها. نحن -المسلمين المساكين في سوريا- مَن يمثلنا في مجالسكم وهيئاتكم الموقرة؟ كم نحن من بين الشعب جميعاً؟ قلت في مقالتي السابقة وأكرر الآن: لا حاجة بنا لاختراع الجواب؛ الشارع يخبرنا، يكفي أن يكون للشارع فم وتكون لنا آذان. كيف يقول من ينطق باسمكم ويعبّر عنكم إن الإسلاميين قليلٌ من كثير؟ كيف تسوّغون لأنفسكم أن تطلقوا الحكم جِزافاً وتصنّفوا أهل سوريا -الذين لم يفوّضوكم ولم تسمعوا صوتهم- في هذه الفئة أو تلك وهذا الاتجاه أو ذاك؟ كيف تسوّغون لأنفسكم إقصاء الآخرين وأنتم تَشْكون من إقصاء النظام وظلم النظام؟
مرة رابعة أسألكم: ما هذا المنطق يا أيها السادة؟
يا أيها المعارضون حيثما كنتم وإلى أي مجلس أو هيئة انتميتم: إذا لم تمثّلوا المسلمين في سوريا فأنتم لا تمثلون ثورة سوريا؛ إذا لم تنطقوا باسمهم فلستم منهم ولا إليهم، إذا عجزتم عن افتتاح مؤتمراتكم وجلساتكم باسم الله فأنتم عن تمثيل مَن وهبوا ثورتهم لله أعجز.
* * *
يا أيها العلمانيون واليساريون والقوميون: أليست الديمقراطية واحةً للحرية يمارس فيها السياسةَ من يشاء وينطق فيها مَن شاء بما يشاء؟ هل منعناكم من الاشتغال بالسياسة حتى تمنعونا؟ ها نحن أولاء سمعناكم فاسمعونا وقبلناكم فاقبلونا.
ويا أيها المعارضون جميعاً: انظروا إلى الشوارع واسمعوا الهتافات لتعرفوا هوية الثورة. إما أن تحسنوا الاستماع وتحسنوا القيادة، وإما أن تحسنوا التنحّي وتتركوا قيادة الثورة لغيركم ممن يرون ويسمعون.