رسائل جلعاد شاليط

حسام مقلد *

[email protected]

لا شك أن حرية الإنسان لا تقدر بثمن، بل هي أثمن شيء في الحياة، حتى إن بعض الفلاسفة ظلوا يبحثون عن الحرية طيلة حياتهم ووجدوا أن حرية الروح الإنسانية لن تتحقق بشكل كامل إلا عندما تتحرر من الجسد المادي الذي يقيدها...!! وبعيدا عن الفلسفة وبحارها المتلاطمة نتساءل: تُرى ما الرسائل التي نريد أن يبلغها جلعاد شاليط (الأسير الإسرائيلي لدى حماس والذي تحرر من الأسر مؤخرا في صفقة تاريخية بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية) للإسرائيليين والعالم؟!

طبعا تتفاوت الرسائل بحسب المرسِل وفقاً لرؤيته وأهدافه وغاياته ومثُله العليا في الحياة، كما يتفاوت فهم مغزاها بحسب عقلية المرسَل إليه وفقاً لحصافته وفهمه وتقديره للأمور في ضوء قيمه وأخلاقه ونظرته للحياة، ومع تعاطفنا الإنساني المجرد مع (جلعاد شاليط) وأسرته كإنسان وقع في الأسر، وأيا كانت الظروف والملابسات التي مر بها إلا أننا ندرك أن لحظة إطلاق سراحه وعودته إلى أهله ستكون لحظة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية الدافقة والمختلطة حيث يمتزج الفرح بالحزن، والضحك بالبكاء، والسعادة بالألم... وقطعا سيحل (جلعاد شاليط) ضيفا على الموساد الإسرائيلي وسيمكث معهم مدة طويلة حتى يعرفوا منه ما حدث له طوال هذه المدة؟ وكيف كانت تعامله حماس؟ وكيف استطاع رجالها إخفاءه طيلة هذه السنوات رغم الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل من أجل تحريره، ورغم تفوقها الاستخباراتي الهائل وإمكاناتها المادية والتنظيمية اللامحدودة في هذا المجال (كدولة تمتلك كل الإمكانات في مقابل حركة منبوذة ومضيق عليها دوليا كحركة حماس)؟!

وفي الحقيقة قد لا نكون ـ نحن الشعوب العربية ـ معنيين كثيرا بالمعلومات الاستخبارية الثمينة التي ستحصل عليها إسرائيل من أسيرها المحرر قدر عنايتنا بالرسائل الإنسانية والسياسية المهمة التي نتمنى أن تصل للإسرائيليين ومن خلفهم الأمريكان والأوربيين، ومن بين هذه الرسائل التي نتمنى أن يبلغها إطلاق سراح (جلعاد شاليط) وخروجه لأهله ما يلي:

أولا:

آن الأوان كي يكف العالم عن سياسة الكيل بمكيالين ضد العرب والمسلمين، فهناك آلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب لا يزالون قابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويجب على إسرائيل إطلاق سراحهم جميعا الآن وفورا؛ فمن حق هؤلاء الناس أن يعيشوا حياتهم أحرارا كـ(جلعاد شاليط) فهم بشر مثله يتمتعون بمثل ما يتمتع به الإنسان من حقوق، لاسيما وأنهم ليسوا مجرمين وإنما هم أناس وطنيون أسروا وهم يدافعون عن أوطانهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومقاومة الاحتلال بكل الطرق الممكنة والمتاحة حق تكفله لهم كل الشرائع السماوية، وتعترف به كافة المواثيق والقوانين الدولية، ولا داعي أبدا لإجبار فصائل المقاومة الفلسطينية على أسر (جلعاد شاليط) آخر وحرمانه من حريته عدة سنوات كي ترضخ إسرائيل في النهاية لمبادلته بعدد آخر من الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجونها!!

ثانيا:

نتمنى أن يخبر(جلعاد شاليط) الإسرائيليين عن رقي وتحضر العرب والمسلمين في معاملة أسراهم، حيث احترمت حماس آدمية الرجل وعاملته المعاملة اللائقة به كإنسان بغض النظر عن كونه عدوا لها بحكم انتمائه لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يسوم الفلسطينيين والعرب سوء العذاب، ولا يتورع عن إذلالهم وإهانتهم ما وسعه إلى ذلك سبيلا، وقطعا سيجد العالم في إسلاميي حماس نموذجا مشرفا للمقاومة المسلحة التي تحترم أسراها وتعاملهم بمنتهى الرقي والتحضر، على العكس من ذلك النموذج القاتم المشوه والمنفر الذي تم تقديمه لخاطفي الأجانب فيما يعرب ببلاد المغرب الإسلامي..!!

ثالثا:

نعتقد أن صفقة (جلعاد شاليط) ستؤكد للإسرائيليين وحلفائها( وغيرهم...) أن مصر هي (وحدها دون غيرها...!!) من بيدها مفتاح حل اللغز، وتجميع قطع الأحجية في الشرق الأوسط (سلما أو حربا...!!)، فإذا أرادت إسرائيل العيش بسلام مع جيرانها العرب فلا بد لها من أن تصفو نواياها في السلام، وتصدق رغبتها في ذلك، وتسير في الاتجاه الصحيح فتتوقف فورا عن تهويد القدس، وتمتنع امتناعا تاما ونهائيا عن بناء المستوطنات، وتسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم، وتوقف كل أشكال العدوان على الهوية الحضارية والثقافية للشعب الفلسطيني، وتعلن فورا على الملء ودون قيد أو شرط قبولها بإقامة دولة فلسطينية قوية ومكتملة الأركان وفقا لقرارات الأمم المتحدة.

رابعا:

لعل صفقة(جلعاد شاليط) تؤكد للعالم بوضوح تام أن شعوب المنطقة تواقة للسلام، لكنه السلام الحقيقي القائم على العدل والمساواة وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، وليس الاستسلام والانبطاح للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، وهذه الشعوب على استعداد تام للسير خطوات واسعة إلى الأمام على طريق السلام العادل إذا ما وجدت الطرف الآخر في المقابل يخطو على ذات الطريق بنفس هذه الخطوات دون لف أو دوران أو مماطلة أو تسويف، علما بأن الوقت في النهاية يلعب في صالح العرب والفلسطينيين، وإن شاء الله عاجلا أو آجلا سيحصلون على حقوقهم كاملة غير منقوصة، وها هي مدينة القدس الشريف ذاتها تقع تحت نير الاحتلال الصليبي نحو تسعين سنة كاملة، ولم ييأس أهلها المسلمون، وتوالت الأجيال حتى أتى المجاهد المسلم القائد البطل صلاح الدين الأيوبي وتمكن من تحريرها من براثنهم وتخليصها من بين أيديهم، وأحفاده قادمون بإذن الله، طال الزمان أم قصر!!

خامسا:

على إسرائيل وداعميها الأمريكان والأوربيين أن يدركوا بأن العالم العربي قد بدأ يتغير فعلا، ومهما بدا الربيع العربي متعثرا حاليا إلا أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وهذه الملايين العربية الثائرة منذ نحو عام كامل في عدة دول لن تسمح أبدا لأحد باختطاف ثوراتها، ومهما كانت العقبات فبإذن الله لن تفشل حركة الشعوب، هذا ما يؤكده لنا التاريخ الإنساني في بقاع كثيرة من العالم، ولئن كانت الثورة الفرنسية (الملهمة عالميا...) قد احتاجت لنحو سبعة عقود كاملة من الزمان لتأكيد انتصارها وحصول الشعب الفرنسي على حقه في الحرية المنشودة فإن الشعوب العربية ليست بحاجة إلى هذه المدة الطويلة، فقضيتها معروفة، وأهدافها شديدة الوضوح أمام أعينها، وباستعانتها بالله تعالى فسوف تقهر الصعاب التي تعترضها، وتتغلب على كافة العقبات التي تقف أمامها، والأمة العربية والإسلامية صانعة حضارة عظيمة وليست بأقل من غيرها من الشعوب والأمم.

سادسا:

على العالم ألا يخاف من الإخوان المسلمين، وألا يخشى التعامل مع الحركات الإسلامية في الدول العربية والإسلامية، وأن يتقبل وجودها في الحكم إن وصلت إليه بطريقة سلمية وديمقراطية تعبر عن إرادة الجماهير ورغبها الحقيقية، وها هي حماس ضربت للعالم مثلا عمليا في المرونة والتسامح والنجاح السياسي والقدرة على المناورة في هامش ضيق ومساحة محدودة من الخيارات، كما أثبتت الحركة قدرة الإسلاميين على إدارة دولة كاملة مهما كانت المعوقات والصعوبات، فحماس غير المعترف بها والمضطهدة والمضيق عليها والمحاصرة والمعزولة منذ خمس سنوات تمكنت من تسيير شئون مليون ونصف مليون إنسان رغم كل هذه الصعوبات الخانقة التي كانت كفيلة بإفشال عشرات الحكومات غير حماس، وعلى العالم لو كان منصفا حقا الاعتراف بهذا النجاح المشرف الذي حققته حماس في إدارة القطاع، بالتزامن مع نجاحها في إدارة التفاوض مع فتح، وتحملها لكافة الضغوط الدولية، وتمكُّنها من إدارة ملف (جلعاد شاليط) بهذه القدرة المذهلة على فرض شروطها وإثبات كلمتها، وفي نفس الوقت حافظت على تعهداتها بالحفاظ على استقرار المنطقة، وعدم تأجيج الصراعات فيها، ومن وجهة نظري تعد حماس رسالة بالغة الأهمية لكافة دول العالم ولكل الأنظمة العربية بضرورة الانفتاح على الإسلاميين والقبول بهم في الحياة السياسية وإدماجهم فيها، ولو تم ذلك فسيكونون رمانة الاتزان وأقوى دعائم السلام والاستقرار في المنطقة والعالم!!

سابعا:

من المؤسف جدا أن قضية (جلعاد شاليط) قد كشفت لنا قدر هوان الإنسان العربي على الحكومات العربية، فالعربي مهان في أي مكان؛ لأنه مهان في بلده وليس له أي قيمة، ولنتأمل كيف جندت دولة الكيان الصهيوني كل إمكاناتها الدبلوماسية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية لتحرير جندي إسرائيلي واحد وتخليصه من الأسر!! ولنتأمل في المقابل كيف يبيد بشار الأسد ونظامه النصيري الطائفي البغيض أبناء الشعب السوري الحر المناضل كل يوم؟ لننظر كيف يقتل هذا الرجل المتوحش شعبه الأعزل يوميا بدم بارد؟! وكيف يقصفه بالطائرات ويضربه بالدبابات والبوارج الحربية وكافة أنواع الأسلحة؟! وكيف يقتل النساء والأطفال دون وازع من خلق أو ضمير؟!! وليس هو الرئيس العربي الوحيد الذي يرتكب أمثال هذه المجازر الوحشية البشعة بحق شعبه، بل سبقه القذافي، وعلي عبد الله صالح وغيرهم من طواغيت العرب...!!!

                

 * كاتب إسلامي مصري