الإنترنت والثورة الاجتماعية الصامتة
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي ، ومع انتشار الوسائل المسموعة والمرئية، شن البعض هجمة شرسة على تلك الوسائل واعتبرها من وسائل محاربة الدين وهتك العادات والتقاليد، لدرجة أن احدهم كان لا يذكر التلفزيون في خطبه إلا باسم "المفسديون" بعدما صار انتشاره واسعا وبالألوان .... بعد سنوات من الأبيض والأسود !!!
وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي بدأت الأطباق الفضائية تغزو أسطح الفيلات والعمارات الفخمة ثم ما لبثت أن بدأت تغزو وتحط بشكل سريع على أسطح المنازل الفقيرة قبل الغنية على الرغم من ارتفاع كلفتها ، وصار المحافظون والمتشددون يصفونها ببلاء القرن ووسائل الفجور .... ثم ما مضت أشهر حتى وجدنا تلك الأطباق السماوية تحط فوق منازلهم !!!
لا شك أن المجتمع العربي بشكل عام يعتبر مجتمعا محافظا ، والشخصية الأبوية المسيطرة هي التي تتحكم سواء بوسائل المعرفة أو الإعلام التي تدخل البيت. ولقد ذكر لنا التاريخ أمثلة عديدة وواسعة سواء في العالم الغربي أو الشرقي على ذلك، وكيف تم محاربة الأفكار الجديدة أو الوافدة لتلك المجتمعات المغلقة والمحافظة.... فتم حرق الكثير الكثير من الكتب التي كانت أبرز وسائل المعرفة في العصور السابقة... ولذلك كان حرق المكتبات شائع في حروب العصور السابقة .... ولم يكتفوا بحرق الكتب
..... بل وحرَّقوا مؤلفيها !!!
تلك هي طبيعة الإنسان ، يخاف من المجهول ويتعامل بحذر مع كل ما هو جديد، حتى إذا تمكن منه صار وسيلته التي تخدمه ويستخدم بها الآخرين. ولذلك حارب بعض الناس المذياع والتلفزيون لأنه يبث أشياء تخالف قناعتهم ، ولما أدركوا أن باستطاعتهم أن ينشئوا قنوات ينشروا بها أفكارهم أدخلوا بأيديهم المذياع والتلفزيون لبيوتهم وحلقوا مع الطبق الطائر فوق بيوتهم !!!
كل ذلك كان يتم تحت عيون الشخصية الأبوية المسيطرة التي تحدد القنوات التي تبث في بيوتهم ونواديهم ، وتحكموا بالبرامج التي يستمع لها أهل البيت . .... وتحكمت الدولة بنوعية القنوات المسموح أن تبث في البلد.
ولكن عصر الإنترنت ... عصرٌ مختلف .... إنه عصر ثورة المعرفة المفتوحة في فضاء الويب اللا محدود واللامحظور لدرجة إباحية المعرفة في كل شيء ولكل شخص....
والمعرفة في حد ذاتها ثورة !!
فاليوم تجد الجيل الشاب يتقن الدخول من كل البوابات لفضاء الويب اللامحدود سواء مواقع وطنية أو أجنبية ، مجانية أو ذات دفع مسبق، متاحة أو محظورة، وشبكات اجتماعية وغرف دردشة ومحادثة .... تشمل أعضاء من كل جنس ولون وتمتد عبر العالم بلا حدود....
كل ذلك صار يتقنه الجيل الشاب .... وقليلٌ قليل من الجيل الأبوي يستطيع أن يتقن هذه المهارات .......... ومن النادر أن يستطيع احدهم أن يسيطر على بنيه في أي المواقع يكون أو أي الناس يحادث وأي المعلومات يغرف منها ويستقي .!!؟
فالشباب الذي يعاني من نظام أبوي يحظر عليه الاختلاط و لا يستطيع أن يتحادث بكلمة مع الجنس الآخر سواء في الجامعة أو المكتبة أو الشارع .... هو الآن يسهر لوجه الصبح في غرف الدردشة الصامتة ... التي لا يفهمها أهل العصور الغابرة.
ومن المتعارف عليه أن كثير من الناس يكونوا خجلين في المقابلات الشخصية والحوارات التي تلتقي بها العين بالعين ولكنهم يكونوا أكثر جرأة في ذاك العالم الافتراضي الذي منحه لهم عالم الإنترنت عبر شبكاته الاجتماعية وغرف الدردشة اللامسموعة .... فيطرح أفكاره بجرأة ويشارك في الحديث والحوار مع شباب وصبايا من فئات عمرية وفكرية مختلفة ... ويُبحر في كل المواقع ويبحث ويفتش عن معلومات كانت محظورة عليه سواء من الدولة أو المجتمع أو البيت .... فيجدها بين يديه قبل أن يقوم من
مقامه وبعضها يأتيه في لمح البصر وقبل أن يرتد إليه طرفه !!!
هذه الثورة المعرفية، وهذا التواصل الاجتماعي الصامت بين كل الفئات العمرية والاجتماعية والسياسية والدينية... لن تظل ثورة صامتة في ظلال العالم الافتراضي ... فهي حتما ولا بد ستؤدي إلى ثورة اجتماعية تسيطر على المجتمع الواقعي في وقت قريب ، وستغير مفاهيم كثيرة سائدة في المجتمع العربي المحافظ والمغلق.
هذه الثورة الاجتماعية الصامتة في العالم الافتراضي بدأت بتكسير وتحطيم قيود عديدة موجودة في العالم الحقيقي كالاختلاط بين الذكور والإناث ، والمعرفة والتواصل مع ببعض المحظورات الاجتماعية والدينية والسياسية وحتى بعض المحظورات الوطنية .
وهذا العالم المفتوح لا شك بان له إيجابيات عديدة على معرفة الشباب وثقافته وصقل شخصيته .... ولكن لها محاذير قد تضر الفرد الذي لا يجيد التعامل والتحكم مع هذا العالم .... وهو الوحيد الذي يسيطر على نفسه فيه بعد أن خلع السلطة الأبوية عن كاهله في هذا العالم المفتوح.... والضرر الواقع على الفرد سينعكس حتما على مجتمعه .
هذه الثورة الاجتماعية القادمة من بطن ذلك العالم الافتراضي سيكون صعب على النظام الأبوي أن يسيطر عليها في أن تفرض نفسها واقعا ملموسا وظاهرا ... تماما كما عجز النظام السياسي في مصر أن يسيطر على ثور يناير 2011م ، والنظام الليبي وباقي الأنظمة العربية التي تفاجأت بأن هناك عالم آخر غير مسيطر عليه نشأ وترعرع في العالم الافتراضي عبر الإنترنت ومن ثم أخذتهم المفاجأة وحطمت نظامهم السياسي !!!
هذه الثورات الاجتماعية قادمة ولا شيء يمكن أن يقف في وجه هذه الثورة ولكن علينا أن نكون على استعداد لتمهيد وترتيب نتائجها بحيث تكون تطويرا لنظامنا الاجتماعي ولا نسمح لها بتحطيمه ....
كل هذا يستدعي مزيدا من العناية والإرشاد للجيل الشاب للبدء بفتح الحريات الشخصية التي تبدأ من البيت والجامعة وتنتهي تحت قبة البرلمان الذي سيكون مضطرا لتعديل كثير من القوانين التي تكفل الحريات ضمن نظام يواكب المرحلة ويتماشي مع قيم وأخلاق مجتمعاتنا وشعوبنا العربية ولكن بشكل حضاري ومتطور.