حكايا في السياسة والأدب والممنوع 3

شمس الدين العجلاني

حكايا في السياسة والأدب والممنوع

وقائع و صور تنشر للمرة الأولى

عن مقتل فتى الشام فوزي الغزي

المحاكمة 3 من 6

شمس الدين العجلاني

[email protected]

الزمان : عام 1929

المكان : قرية الريحان

الضحية : فوزي الغزي

المتهمون : لطفيه اليافي ، منير الغزي ، رضا الغزي ، وجيه الغزي 0

وراء الكواليس : الجنرال هنري بونسو 0

القارئ و المتابع لسيره حياه فوزي الغزي يدرك تماما انه لم يكن رجلا عاديا ، لم يكن وطنيا عاديا ، لم يكن سياسيا عاديا ، كان ظاهره غريبة في حب الوطن و الدفاع عنه ، كان سياسيا صلبا في مواقفه ، كان أستاذا لجيل طويل عريض من أبناء الوطن و لم يتجاوز الثلاثين من العمر . و كان موضع عشق و حب من جيل الشباب نساء و رجالا و خاصة من أبناء سورية و لبنان فكان دائم التواصل مع محبيه من خلال المحاضرات التي كان يلقيها أو المقالات التي كتبها في الجرائد السورية و اللبنانية .

و هذا كله جعله هدفا للانتداب الفرنسي لأنه كان عقبه صلبه في وجه كل مخططاته . فتعرض للسجن و الملاحقة و النفي ، و ورث من ذلك الأمراض الجسدية التي لم تفارقه  ، و عداوة المستعمر و المتعاونين معه و الحساد و ضعيفي النفوس ممن حوله من أبناء الوطن .

المحاكمة :

استطاع فوزي الغزي بعبقريته النادرة و حبه للوطن أن يستقطب أهل الشام جميعا عدا المتعاونين مع سلطات الانتداب الفرنسي و الحساد و ضعيفي النفوس من أبناء الوطن ، فتجمع حوله عدد من أبناء الوطن الذين كانوا يضمرون الشر له ، فهو كان على خلاف مع كل من يشك في ولائه للوطن ، فكان مثلا على خلاف مع الوزراء أعضاء الوزارة الدامايه الأولى ، لأنه لم يكن واثقا من إخلاص الداما احمد نامي للقضية الوطنية ، و خلافه مع هذه الوزارة اشتهر في ذلك الزمن ، كما فتح على نفسه جبهة كبيره مع الانتداب الفرنسي و المتعاونين معه من أبناء الوطن  بموقفه المشرف من دستور عام 1928 م ..

انتشر خبر وفاه فوزي الغزي فقامت دمشق و عدد من البلدان العربية عن بكره أبيها تودع هذا الرجل الكبير ، و دفن الجثمان في مقبرة الدحداح بدمشق على أساس أن وفاته كانت طبيعية و حصلت بالسكتة القلبية ، و لم تمض سوى أيام حتى أخرجت الجثة و كشف عليها و تبين أن الوفاة حصلت بفعل فاعل و اتهم من اتهم في مقتله.

لم يعرف تفاصيل محاكمة من اتهم بقتل الغزي ، و حتى عام 1949 م كانت لم تزل أوراق و مجريات و وثائق المحاكمة موجودة في أدراج الجهات القضائية بدمشق ،  و لكن يمكننا الإشارة إلى بعض من مجريات المحاكمة و ما قيل عنها ، لقد جرت محاكمة المتهمين في مبنى دار العدلية ( هدم في بدايات الخمسينات من القرن الماضي ) و الذي كان قائما عند زاوية زقاق البحصه في الجهة الشمالية لساحة المرجة ، و يحتوي هذا المبنى على طابقين ، الأرضي و هو سجن التوقيف المؤقت ( النظارة ) و الذي أوقف به كل من الزوجة و رضا و منير و وجيه الغزي أثناء المحاكمة ، و الطابق الأول و الذي كان يضم المحاكم المختلفة و منها محكمة الجنايات التي جرت فيها محاكمة المتهمين في هذه القضية ، حصلت وفاة الغزي في 5 تموز و حتى تاريخ 19 تموز كانت الصحافة تشير أن الوفاة كانت فجأة و لم يرد ذكر حادث جنائي ، و في نهاية شهر آب من عام 1929 م كانت الصحافة تشير إلى التحقيق مع الزوجة و بقية المتهمين ، و صدرت الأحكام في هذه القضية يوم 19 نيسان من عام 1930 م ، اعترف في المحكمة  كل من رضا و وجيه و منير بما نسب إليهم و أنهم دسوا السم للفقيد ، بينما أصرت الزوجة أنها لم تكن تعلم بما تحتويه البرشامة من السم ، لقد خضعت مجريات المحاكمة لهياج و غليان جماهيري و موجة للعواطف الشعبية التي كانت اسيره حب للفقيد ، فقد خرج الناس إلى ساحة المرجة يطالبون بإعدام المتهمين ، أضف إلى ذلك كما سيمر معنا لاحقا أن القاضي الذي كان قائما على مجريات المحاكمة لم يكن على قدر المسؤولية و الدراية فصدر حكم قضائي مبرم  بعد اقل من عام على وفاة الغزي عن محكمة الجنايات , وذلك يوم  19 نيسان من عام 1930  م قضى  الحكم بإعدام المتهمين الثلاثة لطفية اليافي و رضا الغزي ووجيه الغزي ودفع الدية الشرعية لأهل الفقيد وقدرها 125 مجيديا ، كما حكمت على الصيدلي منير الغزي برغم انه ( حسبما قيل وقتها ) هو من قام بتحضير السم للفقيد و يعرف الغاية منه .؟  بالسجن سنة واحدة إذ اعتبرت عمله جنحة .!؟ ودفعه 5 مجيديات. و عندما علمت سلطات الانتداب الفرنسي بهذه الأحكام تدخلت على الفور لسبب غير واضح للتخفيف من هذه الأحكام فأصدر المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري بونسو أوامره للقضاء السوري فجعل الحكم بالسجن المؤبد عوضا عن الإعدام لكل من لطفية و رضا و وجيه ، و أبقى الحكم على الصيدلي منير كما  صدر ، و هذا الأمر جعل أبناء سورية يعتقدون بأن للانتداب الفرنسي أيد خفية في هذه الجريمة ، واعتبروا  أن الفرنسيين  وراء مقتل زعيمهم الشاب. و قامت بدمشق ضجة كبيره أشارت لها الجرائد الصادرة آنذاك و اتهمت السلطات الفرنسية بالضلوع بالمؤامرة ، و قيل أن رضا الغزي قال أثناء مجريات المحاكمة انه أوهم لطفيه بأنه وضع ضمن البرشامة التي أعطاها إياها فيتامينات ومقويات تفيد الفقيد ، و انه صرخ بأعلى صوته حين تلاوة حكم الإعدام على لطفيه  ، انه هو الجاني ولطفية بريئة ، و طبعا المحكمة لم تأخذ بأقواله هذه .

و قيل أن وزير الداخلية عام 1928 م سعيد محاسن هو من اشرف على مجريات محاكمة المتهمين ، و أن هذا الوزير بعد حوالي العشرين عاما و زمن الرئيس السوري  أديب الشيشكلي  سرح من عمله على خلفية قضية الغزي .؟

نفذت الحكم لطفيه لمده حوالي العشرين عاما و خرجت بعد ذلك من السجن بتاريخ 18 ايار من عام 1949 م بمرسوم رئاسي من الرئيس حسني الزعيم ، أما رضا و وجيه و منير الغزي ، فلم يعرف عنهم شيئا ، وقيل أنهم هربوا من سجن قلعه دمشق عندما قامت سلطات الانتداب الفرنسي بقصف دمشق في التاسع و العشرين من أيار عام 1945 م و قصفت حينها سجن القلعة .؟

الحلقة المفقودة :

هنالك سؤال كبير و مهم لم نستطع الحصول على أجابه له ، ألا و هو من هي الجهة التي طلبت إخراج جثمان الفقيد و الكشف على أسباب وفاته .؟ لان هذا الأمر على غاية الأهمية ، كون عاداتنا و طباعنا و تقاليدنا الدينية بعيده كل البعد عن تشريح جثه المتوفى ، و الجهة التي طلبت الكشف على الجثة كانت واثقة تماما من نتيجة الكشف لأنها على علم بحقيقة الوفاة .!؟ و على قناعه بأنها لن تثير رأي الشارع السوري . إن كانت هذه الجهة فرنسيه فأن الأمر يكون واضحا بضلوع سلطات الانتداب الفرنسي في هذه الجريمة و أنها أرادت التخلص من هذه الشخصية الوطنية الكبيرة التي كانت تقف عائقا في وجه كل مؤامراتها ، و هي بالتالي على يقين تام بأن الأمر في الكشف على الجثمان مضمون النتائج و لن يحصد الفوضى و استثاره الرأي العام . و الرواية التي سبق وذكرناها في الحلقة السابقة و التي وردت في كتاب ( نشر البشام فيما هو مكتوب على قبور أهل الشام) و التي تنص انه كان للفقيد صديقا ألمانيا هو طبيبه أيضا : ( ولما سمع بالنبأ ركب طائرة إلى دمشق، وأمر بإخراج جثة الوزير من القبر، وبعد الفحص حكم بأنه مسموم، وجرى التحقيق الرهيب، واعترف كل من رضا ولطفية ، وحكم عليهما بالسجن المؤبد، وولدت لطفية في السجن بنتا سمتها (حبيسة) وفي عام 1945م يوم 29 أيار هربا من السجن حين ضربت القلعة من قبل (أوليفا روجيه) القائد الفرنسي ) و هذه الرواية لا أرى أنها تجانب الحقيقة ، و هي أشبه بالقصص الشعبية التي لا تستند إلى الواقع ناهيك انه من المثبت أن الحكم القضائي صدر على لطفيه و رضا بالإعدام و ليس بالمؤبد ، و أطلق سراح لطفيه عام 1949 م و لم تهرب من السجن عام 1945 م .

 و لا بد من الإشارة أن الرأي السائد آنذاك لدى المثقفين لم يكن يخرج من دائرة الشائعات ، و لم يكن يدين الزوجة لطفية ، فيقول في هذا الصدد احد تلامذة الفقيد عن هذه الجريمة لطفي اليافي في كتابه عن فوزي الغزي و المعنون ( الفقيد العظيم فوزي الغزي بقلم المفجوع لطفي اليافي ، طبع في مطبعة بابيل إخوان و صدر عام 1929 م ) يقول : ( أثر الشائعات المؤسفة حول تسمم الراحل الشهيد من قبل عصابة سافلة ابرأ منها إلى الله ) ، و لطفي اليافي كان يقول عن علاقته مع الفقيد : ( كان أبي و كان أمي .. لأنه قريب قروب .. ) و يتابع بالقول أن الفقيد كان يناديه : ( أخي و ولدي ) إذا لو  أخذنا كلام لطفي اليافي موضع ثقة ، فان هنالك شكوك تدور حول هذه الجريمة في أروقة العالمين بخفايا الأمور منذ ذاك الوقت .

يتبع