وقائع تنشر للمرة الأولى عن مقتل فتى الشام فوزي الغزي 2

شمس الدين العجلاني

حكايا في السياسة والأدب والممنوع

وقائع تنشر للمرة الأولى

عن مقتل فتى الشام فوزي الغزي

الجريمة

2 من 6

شمس الدين العجلاني*

[email protected]

الزمان : عام 1929

المكان : قرية الريحان

الضحية : فوزي الغزي

المتهمون : لطفيه اليافي ، منير الغزي ، رضا الغزي ، وجيه الغزي 0

وراء الكواليس : الجنرال هنري بونسو 0

في يوم الخميس الواقع في 4 تموز من عام 1929 م قصد الزعيم الوطني الكبير فوزي الغزي و زوجته لطفيه و ولديه دلال و خلدون مزرعة شقيقه لقضاء عطله نهاية الأسبوع ، و في صباح اليوم التالي  ( الجمعة 5 تموز 1929 م ) استيقظ فوزي الغزي و زوجته ، و أثناء تناوله لفنجان القهوة شعر بآلام فطلب من زوجته وكانت في الرابعة والعشرين من عمرها  برشامة دواء ، فتناولت الزوجة لطفيه البرشامة من محفظتها و أعطتها لزوجها ، و بعد دقائق معدودة  أسلم الروح لباريها ، و قيل حينها انه توفي بالسكتة القلبية ، و في اليوم التالي ( السبت 6 تموز 1929 م ) شيعت دمشق بمشاركة المدن السورية و العديد من البلدان العربية ابنها البار ، و لكن لم تمض أيام معدودة و بعد دفن جثمان الغزي في مقبرة الدحداح ، أخرجت الجثة و شرحت و تبين ان الوفاة بفعل فاعل ، فكانت زوجته لطفيه و أقرباء زوجها منير و وجيه و رضا الغزي شركاء في جريمة القتل .!؟ و صدرت الأحكام القاسية بحقهم لكن المستعمر الفرنسي خففها .!؟

لعل مقتل الزعيم الوطني الكبير فوزي الغزي يوم 5 تموز من عام 1929 م كان و لم يزل لغزا عصيا عن الحل .؟  هل كان ضحية موقفه الوطني الصلب .؟ أو كان ضحية لاجتماع أهل دمشق حوله خاصة و انه كان موضع إعجاب الجيل الشاب ( شبابا و صبايا ) و هذا لم يرق للمستعمر الفرنسي .؟ أو هو ضحية مباشره لوضعه دستور سوريه عام 1928 م و رفضه و عناده على اعتراضات المندوب السامي الفرنسي لإلغاء عدد من مواده .؟ أو هو كما اشتهر عن حكاية اغتياله انه كان ضحية مؤامرة غير أخلاقية .؟ أسئلة كثيرة طرحت و لم تزل تطرح منذ أكثر من ثمانين عاما و لم يكن هنالك جواب كاف كاشف . أدلى بدلوه في مسيره حكاية اغتيال الزعيم الوطني فوزي الغزي ، الرئيس و الوزير و الزعماء الوطنين و الكتاب و الصحفيون و لم تزل هنالك حلقه مفقودة بين الحقيقة و الواقع .!؟ فهل هذه الحكاية هي الجريمة الكاملة أو هنالك تقصير و إهمال في تصحيح مسيره حياة رجالاتنا  فجعل منها هذا اللغز .!؟ 

الحكاية :

قيل أن المرحوم فوزي الغزي كان يسكن بقرب منزل شقيقه فريد ، و كانت هنالك زيارات متبادلة بين عائله فوزي و عائله  فريد ، و كان لفريد شاب وسيم يدعى رضا  وهو في حوالي العشرين من عمره ، أي يقارب في العمر الزوجة لطفيه ، و كان فرق العمر بين الزوجة لطفيه و الزوج فوزي حوالي أربعه عشر عاما ، فحدث بين الزوجة وبين رضا علاقة غرامية ،علم بهذه العلاقة قريب لهما اسمه وجيه ، و اشتهر عن وجيه و رضا أن سلوكهما في الحياة سيئ و خاصة وجيه ،  وكان رضا دائم الحديث لقريبه وجيه عن هذه العلاقة الغرامية مع زوجة عمه ، و قيل أيضا أن فريد طرد ابنه رضا من المنزل لسوء سلوكه فقامت الزوجة لطيفه باستئجار منزل لعشيقها رضا  .؟ وكانت تتردد إلى ذلك المنزل  بمرافقة ابنتها الصغيرة ، فشعر المرحوم فوزي بوجود هذه العلاقة الغرامية بينهما فهددها بالطلاق إن استمرت علاقتهما ، فقرر العاشقان قتل الزوج بواسطة السم الذي حضره  ابن عم وجيه الصيدلي منير الغزي  ، وضع الصيدلي منير السم من نوع " الاستركينا " الشديد السمية في برشامة الدواء لأن مرارته تظهر في الأكل والشرب بشدة و أعطيت البرشامة إلى لطفيه ، وفي يوم الخميس 4 تموز عام 1929 م ، ذهب فوزي و لطفيه و أولادهما إلى مزرعة شقيقه فريد في دوما ( منطقه الريحان ) وسهر مع أخيه وبعض الأصدقاء ، وفي صباح اليوم الثاني الجمعة 5 تموز و أثناء تناول الزوج فوزي القهوة و هو يجلس أمام المنضدة يقرأ و يكتب بعضا من أعماله و نشاطاته طلب من زوجته  إعطاؤه برشامة ضد الإسهال الشديد الذي كان ملازما له ، ( علما بأن الفقيد كان يعاني من عده أمراض  و فقدان أضراسه و أسنانه و ابتلاه الله بأمراض شتى سببها التعذيب و التغريب في السجون و المنفى في أرواد و الحسجة و دوما ( لبنان ) و الحدث ( لبنان ) فأخرجت الزوجة من محفظتها البرشامة التي ضمنها السم وأعطته إياها وبعد أن تناولها بقليل شعر بآلام في بطنه وأسلم الروح لباريها  .. هذه هي الرواية المتداولة عن قضيه قتل الزعيم الوطني فوزي الغزي و قد وردت في العديد من المصادر الحديثة و القديمة التي تحدث عن الجريمة ، و وردت في نفس المعنى لدى الباحث هاني الخير الذي قال انه بذل جهدا كبيرا في الحصول على هذه المعلومات . و لكن لا بد من الإشارة أن المعلومات الأولى عن سبب وفاه فوزي الغزي كانت بسبب السكتة القلبية و ليس هنالك جريمة قتل ، و هذا ما تناقلته الصحافة العربية و منها السورية الصادرة آنذاك ( مثال مجله المصور المصرية العدد 248  تاريخ 12 تموز 1929 ) و لكن كيف و متى تم الكشف عن الجثمان بعد أن دفن .؟ هذا السؤال بقي في غياهب المجهول ، فقط قرأت إشارة إلى ذلك في كتاب ( نشر البشام فيما هو مكتوب على قبور أهل الشام من رقائق الشعر ولطائف الكلام  ) و الذي جمعه احمد يوسف ظاظا الشهير بالميداني و نشره ابنه زهير ، حيث يقول : (   ودفن ولا أحد يعلم بالقصة، وكان له صديق ألماني هو طبيبه أيضا، ولما سمع بالنبأ ركب طائرة إلى دمشق، وأمر بإخراج جثة الوزير من القبر، وبعد الفحص حكم بأنه مسموم، وجرى التحقيق الرهيب، واعترف كل من رضا ولطفية، وحكم عليهما بالسجن المؤبد ) و هذه القصة يبدو أنها غير دقيقه لأسباب عده سوف نناقشها لاحقا .

أعيد و اكرر أن قناعتي تكمن في براءة الزوجة لطفيه مما نسب إليها و أن هنالك أيد خفية هي من رتبت فصول هذه الجريمة ، و هذا ما سنناقشه لاحقا .

مأتم فتى الشام :

   انتشر خبر وفاة الغزي في البلاد السورية مساء الخامس من تموز عام 1929 وفي صباح يوم 6 تموز قامت دمشق عن بكرة أبيها تودع فتاها الذي كان نتيجة مؤامرة دنيئة لم تحل خيوطها حتى الآن ..؟ وكان ضحيتها زوجته لطفية اليافي وثلاثة من أولاد عمومته هم : وجيه الغزي – رضا الغزي – منير الغزي وامتلأت صفحات الجرائد الدمشقية آنذاك بأنباء هذه الفاجعة وتبارى الشعراء والسياسيين من البلاد السورية والعربية بنعي واضع و أبو الدستور السوري فقال فارس الخوري :

يبكيك أحرار سورية وأنت أخ                 يبكيك دستور سورية وأنت أب

من للصعاب إذا اشتدت معاضلها                من للخطابة يا ملسان من خطبوا

ويشير بعد ذلك إلى رفقتهما في المنفى بجزيرة أرواد فيقول :

كهوف أرواد مدت بيننا نسبا              يا حبذا السجن ، بل يا حبذا النسب

حر الجزيرة أذكى من مودتنا                 فزاد حر قلوب حشوها لهب

أخا السجون ، أخا المنفى ، أخا وصبا       ها فرق الموت ما  قد ألف الوصيب

أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد رثا الفقيد بقصيدة طويلة ذاكرا مناقبه وجهوده في وضع الدستور السوري قائلا :

 

 

 

يا  واضِعَ الدُستورِ أَمسِ كَخُلقِهِ

 

ما  فيهِ مِن عِوَجٍ وَلا هُوَ ضَيِّقُ

نَظمٌ مِنَ الشورى وَحُكمٌ راشِدٌ

 

أَدَبُ الحَضارَةِ فيهِماوالمَنطِقُ

أَبكي  لَيالينا القِصارَ وَصُحبَةً

 

أَخَذَت مُخيلَتُها تَجيشُ وَتَبرُقُ

طُبِعَت  مِنَ السُمِّ الحَياةُ طَعامُها

 

وَشَرابُها  وَهَوائُها المُتَنَشَّقُ

وَالناسُ بَينَ بَطيئِها وَذُعافِها

 

لا يَعلَمونَ بِأَيِّ سُمَّيها سُقوا

يا فَوزُ تِلكَ دِمَشقُ خَلفَ سَوادِها

 

تَرمي  مَكانَكَ بِالعُيونِ وَتَرمُقُ

وكانت العراضات تسير في دمشق وتهتف:

هللي بدموعك

سورية

و كل البلاد العربية

لفقدك يا فوزي الغزي

يا زعيم الكتله الوطنية

فوزي الغزي يا مرحوم

بكيت عليك سورية عموم

لم يكن تشيع فوزي الغزي بدمشق حدثا عاديا كان كارثة ألمت بالشعب العربي وليس بالشعب السوري ....

ويوصف هذا الحدث الجلل ، أنه منذ الصباح الباكر ليوم السادس من تموز كانت مواكب القرويين من غوطة دمشق والقرى المجاورة مثقلة بالزهور والرياحين تأم دمشق وكانت دمشق في ذاك الصباح تعطلت فيها الحياة الاقتصادية فالمحال التجارية أغلقت والطلبة امتنعوا عن الذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم ، وفتحت منازل دمشق لتتقبل العزاء بفقيد ها وكان أول من فتح منزله إحسان الشريف حيث تواجد في منزله العديد من أعضاء الجمعية التأسيسية وعلى رأسهم هاشم الاتاسي  رئيس الجمعية حيث تقبلوا العزاء من عيون البلاد السورية والعربية من محاميهم وقضاتهم وصحافيهم ومهندسيهم وأطبائهم ورجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي فقد جاءت الوفود للعزاء بالفقيد من لبنان حيث حضر وفد صحفي من بيروت مؤلفا من جبران التويني ، خير الدين الأحدب ، اسحق عقل ، فؤاد الميداني ، يوسف يزبك ، كميل شمعون ، ووفود من مجلس النواب اللبناني مؤلفا من يوسف السودا ، موسى نمور ، إبراهيم حيدر ، ميشيل زكور ، وعن المجلس الملي الإسلامي اللبناني حضر مصطفى الغلاييني ، صلاح عثمان ، عمر بيهم ، الحاج بشير جبر ، وعن المقاصد الخيرية عبد الرحمن بيهم ، الدكتور مليح سنو ، محمد خرما ، وعن نقابة المحامين في بيروت حضر الدكتور حبيب أبو شهلا ، الدكتور عبد الله اليافي ، فؤاد الخوري ، وعن جمعية الشبيبة الإسلامية أحمد منيمنه .

وكان وفد حمص يضم مظهر أرسلان ، مكرم أتاسي ، رفيق أبو الخير أتاسي ، محمد الخالد الاتاسي ، عبد الحسيب ارسلان ، يحيى الخانكان ، عبد الباقي الدوري .

وفد حماه : الدكتور الشيشكلي _ الشيخ سعيد محمد الحافظ – حسني البرازي – عبد الرزاق الأسود – سعيد الزمانبي .

وفد حلب : سعد الله الجابري – الدكتور سعد الله محمد عاكف الجابري – منير الصمادي – أحمد راشد المرعشلي – عبد الغفور المسوتي – حسين ادمون رباط – مخائيل ليان – عارف فتح الله صقال – محمد سعيد الزعيم .

ومن صيدا : الشيخ عارف أفندي الزين .

وقدمت آلاف أكاليل الورود من سورية ، والعراق ، ولبنان ، محافل قاسيون وسورية وجمعية إعانة العائلات المستورة الإسرائيلية ومن الطوائف الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية .

وكان دفن الجثمان حوالي الساعة الرابعة من يوم 6 تموز 1929 فحمل النعش الذي كانت تغطيه الراية العربية بألوانها التاريخية ورموز الدول التي تعاقب عليها على أكف رجالات الجمعية التأسيسية وعدد من الوطنيين منهم فخري البارودي ، زكي الخطيب ، سعد الله الجابري ، حسني البرازي ، إحسان الشريف ، فارس الخوري ، فايز الخوري ، عفيف الصلح ، رياض الصلح ، محمد النحاس .

وبعد أن خرج النعش من البيت إلى الشارع تهافته الناس وسار الموكب الجنائزي في شوارع دمشق يتقدمه طلاب مدرسة الإسعاف الخيري بموسيقاهم الحزينة ثم طلاب المعاهد والمدارس فالجمعيات الخيرية فرجال المحافل الماسونية فالوجهاء والعلماء والأدباء ورئيس الوزراء ورئيس الجمعية التأسيسية فالوزراء الحاليون والسابقون فالطوائف الإسرائيلية والأرثوذكسية فجمعية وردة دمشق المسيحية فالكشاف الرياضي ، والكشاف المسلم اللبناني فرؤساء الحرف وأحاط بالنعش جلاوزة البلدية ورجال الشرطة وظل النعش محملا على الأكف حتى جامع بني أمية حيث بلغ  إلية الساعة السادسة وقد انضمت إليه وفود دمشق ووفود القرى بأكاليلها ورياحينها وشيبها وشبابها ، وعلى طول الطريق الذي سار فيه موكب الفقيد كانت سطوح المنازل وشرفاتها تغص بالنادبين والنادبات وبعد أن أودعت جثة الفقيد عزلتها الأبدية في مقبرة الدحداح وقف العلامة فارس الخوري وألقى خطابا مطولا عدد فيه مواقف الفقيد الجريئة وأعماله المجيدة وتقدم النائب لطفي الحفار وأخذ يقدم الخطباء فألقى النائب اللبناني يوسف السودا خطابا باسم نقابة المحامين في بيروت ثم أعقبه النائب زكي الخطيب باسم نواب دمشق ثم ميشيل زكور باسم نواب لبنان ثم صلاح الدين بيهم باسم شباب بيروت ثم أحمد مرعشلي باسم نقابة المحامين في حلب ثم الأمير أحمد الشهابي باسم مكتب الفقيد ثم جبران التويني صاحب جريدة الأحرار باسم صحافة لبنان ثم بدر الدين الصفدي باسم نقابة المحامين في دمشق ، ثم ألقى بدر الدين الحامد قصيدة عصماء باسم وفد حماة وتكلم سليمان سعد باسم محافل سورية ، ثم بهاء الدين الطباع باسم الكشاف المسلم اللبناني فالشيخ عارف الزين باسم وفد صيدا ثم أحمد منيمة باسم جمعية الشبان المسلمين في بيروت ، ثم وديع أفندي باسم طلاب معهد الحقوق ثم نصوح بابيل الذي ختم الحفل باسم صحافة دمشق . واستغرق الاحتفال الجنائزي حتى الساعة التاسعة ليلا . هذا وقد نقش على قبره الأبيات الشعرية التالية :

مضى العميد الذي عمت مآثره

بهمة قد سمت قدرا على زحل

قد كان ركنا عظيما يستعان به

راض الصحاب بلا خوف ولا ملل

جل  المصاب فقلب العرب منفطر

والشرق  يبكي لهذا  الحادث الجلل

جل  المصاب فقلب العرب منفطر

يزول  فوزي   وحسن الذكر لم يزل

يتبع

                

* صحفي وكاتب