على إسرائيل أن لا تعيد التاريخ

ياوز نظمي آجار

أستعتبر إسرائيل مما جرى لآبائهم اليهود خلال تاريخهم الطويل أم سيعيد التاريخ نفسه مرة أخرى، كما أعاد مئات المرات منذ فجر الإنسانية؟

وبدلالة الآية (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)، وآيات أخرى مماثلة لها، فإن الأحداث التاريخية والأدوار الشخصية تعيد نفسها أو تتكرر دوماً على صعيد "المثلية" وليس "العينية". وانطلاقاً من ذلك قال البعض بشكل مبالغ فيه "ليس تحت السماء الزرقاء شيء طارئ جديد". 

من يثرب إلى مدينة منورة يسود فيها "الدين":

تذكروا الصراع التاريخي بين الأوس والخزج الذي كان يثيره اليهود في يثرب؟ وكيف كانوا يستنفدون موارد قوتهما وثرواتهما بإلقاء العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة والأقارب. فهم قدموا إلى يثرب هرباً من ظلم بختنصر البابلي والإمبراطورية الرومانية المسيحية، فصاروا مصدراً لكثير من المشاكل في قلب المنطقة، وانتهت هذه المرحلة بإجلاء النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خارج الجزيرة العربية.

ومضت القرون لتعود المشكلة مجدداً إلى الساحة، حيث أصبح اليهود مشكلة وهذه المرة في القارة الأوروبية، فأرادت الأخيرة، التي كانت تزعمها آنذاك بريطانيا، أن تخرجها من أوربا لتزرعها في قلب الشرق الأوسط الإسلامي. وذلك لتجعل منهم أداة تكون عقبة أمام تطوّر الأمة الإسلامية من جهة، وتفرض بها سيطرتها ورقابتها على العالم الإسلامي من جهة أخرى. فمنذ ذلك اليوم تحوّل قسمٌ من اليهود إلى بؤرة تفرخ للمنطقة، بل للعالم أجمع، أنواعاً شتى من المشاكل.

نطوي تلك الصفحات لنلقي نظرة سريعة على ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين، لنعود إليها مرة ثانية:

فهل فوجئتم لما قرأتم في صحيفة "يديعوث أحرونوث" الإسرائيلية أن وزير الخارجدية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان يخطط لتقديم دعم ومساعدات عسكرية لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، رداً على الإجراءات التركية ضد إسرائيل، جراء رفضها الاعتذار من أنقرة بسبب حادث مرمرة الزرقاء؟!  

وهل زدتم علماً عندما ذكرت الصحيفة المذكورة أن ليبرمان سيجري في الولايات المتحدة الأمريكية لقاءات ثنائية مع ممثلي اللوبي الأرمني، ليقترح عليهم التعاون والتنسيق في مجال حثّ الكونغرس على قبول مشروع الاعتراف بمزاعم "الإبادة العثمانية لأرمن الأناضول" عام 1915؟!

أليس من طبيعة قسم ٍمن اليهود والمتهوّدين[1] استغلال مواقع الاختلاف والنـزاع ونقاط الضعف لدى الإنسان والمجتمعات البشرية، الأمر الذي يشير إلى مكمن ضعفهم أيضاً، إذ ليس لديهم قدرة على صنع أي شيئ سوى انتهاز الفرص واستثمارها بشكل جيد في مصالحهم الشخصية.

ما تلك التصريحات إلا التعبير عما يكمن في لاوعي ليبرمان، وليس من السر لمن لديه إلمام بالقضايا الدولية تعاون إسرائيل، ليس فقط مع العمال الكردستاني، بل مع معظم المنظمات الإرهابية في العالم أجمع.

ألم تتعاون إسرائيل مع المنظمة الإرهابية عندما نفذت الأخيرة عملية اعتداء غاشم على قاعدة بحرية في ولاية "إسكندرون" التركية، مما أدى إلى استشهاد 9 من الجنود الأتراك، وذلك بالتزامن مع اقتحام القوات البحرية الإسرائلية سفينة مرمرة الزرقاء الذي أسفر عن استشهاد 9 من النشطاء الأتراك أيضاً ؟!

وكذلك من الممكن العثور على آثار التعاون الوثيق بين إسرائيل والمنظمة الإرهابية في الهجوم الذي أجرته الأخيرة في بلدة "رشادية" التابعة لولاية توكات التركية، الأمر الذي تمخض عن استشهاد 7 جنود.

فهذه التطورات السريعة التي شهدناها خلال الشهر الأخير تكشف لنا الغطاء عن "اليد الخفية" التي تثير القضايا الاختلافية بين شرائح الشعب التركي والأثنيات المختلفة في البلاد وتوظفها في تحقيق أهدافها، كما تشير إلى "الراعية الرئيسية" للعمال الكردستاني.

محاولات تركية لتضييق الدائرة على إسرائل وعزلها على الصعيد الدولي:

قام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بزيارة مهمة إلى دول الربيع العربي؛ مصر وتونس وليبيا، وعقد خلالها اتصالات واتفاقيات من شأنها أن تزعج إسرائيل إلى حد كبير وتزيد من عزلة إسرائيل في المنطقة.

واستهلّ أردوغان جولته الأفريقية بمصر، حيث استُقبل أردوغان بحفاوة كبيرة من قبل عشرات الآلاف من المصريين، رغم كون الوقت منتصف الليل عند وصوله مطار القاهرة، والتحذيرات الأمنية الصادرة من المجلس العسكري بعدم التجمهر في المطار.

وأهم رسالة أعطاها أردوغان خلال جولته في دول الربيع العربي هو تلك الإشارة إلى ضرورة الابتعاد عن تسويف الإصلاحات السياسية الشاملة في البلاد العربية بحجة وجود "مراكز قوى عميقة سرية" تعوق عملية التغيير والتحول فيها.

بعبارة موجزة، فإنه لفت بشكل ماهر إلى وجوب تجنب التذرع بذريعة "القوة الإسرائيلية المستعظمة" لدى زعماء العرب وشعوبهم للاستمرار والمحافظة على الأنظمة العربية القمعية الاستبدادية.

وما هذا إلا نصيحة زعيم محنّك قد وصل إلى سدة الحكم في بلاده بعد الكفاح الطويل مع "العناصر العميقة السرية"، وهو على وشك التغلب عليها حالياً.

الخطر المحدق بالمجتمعات العربية:

إن أهم خطر يحدق بالمجتمعات العربية في هذا السياق، هو غضّ البصر عن المقومات التي أدت إلى التحول السياسي في تركيا، حيث إن التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة ـ ولم تكتمل المرحلة بعدُ ـ على كافة الأصعدة هي التي مهدت الطريق إلى ذلك التحول الديمقراطي العظيم. وما المشهد السياسي الراهن في تركيا إلا انعكاس طبيعي لما في القاعدة أو الأرضية الشعبية ـ الاجتماعية الرصينة. 

وعليه، فإنه من الخطأ الكبير الظنّ بأن الشعوب العربية الثائرة ستصل إلى نفس مستوى التحول التركي عن طريق تغيير زعيم أو حزب حاكم، دون حدوث تغيير وتحول في البلاد، بدءاً من القاعدة وانتهاءاً بالقمة، أي من الشعب إلى الحكم، العملية التي تتطلب معاناة كبرى ووقتاً طويلاً وصبراً جميلاً. وبعكسه فإن تغييرات في قمة الأنظمة بمعزل عن تحولات جذرية فطرية في القاعدة الشعبية لن تفرخ غير أنظمة مماثلة للنظام البعثي والإدارة الناصرية. 

الشراكة التركية ـ العربية "المحتملة" تحطم أحلام إسرائيل:

ومع ذلك، فإنه لا شكّ أن شراكة تركية ـ عربية "محتملة" تحطم أحلام إسرائيل، لأنها قد تؤدي إلى نتائج إستراتيجة، خاصة إذا نجحت ثورات شعوب المنطقة، بحيث يغدو النصر التكتيكي العابر الذي أحرزته إسرائيل في تقرير الأمم المتحدة حول حادث مرمرة الزرقاء بمثابة "لاشيء". 

وإن اتفقت تركيا، التي بدأ اقتصادها ينتعش بشكل مطرد مع الدول العربية التي بدورها بدأت تتحرر من قيود الأنظمة السابقة، ضد إسرائيل، فلا شك أن هذه الأخيرة ستقع في حفرة "العزلة العميقة" أو ستضطر إلى الالتزام بالقوانين والمعايير الدولية في معاملاتها مع دول العالم، خاصة مع الشعب الفلسطيني.

ومن الذين شعروا بالعواقب الوخيمة التي قد تتعرض لها إسرائيل جراء مواقفها الأخيرة تجاه تركيا والقضايا العربية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية هو وزير الخارجية إيهود باراك؛ إذ تطرق في خطاب ألقاه أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي إلى التطورات الجارية في كل من تركيا ومصر وفلسطين، وأحداث الربيع العربي قائلا: "تجري من حولنا أحداث مهمة، وهي خارج سيطرتنا، ولكن بإمكاننا تحديد شكل مجابهتنا لها على الأقلّ"، لافتاً إلى "أن الصداقة الإسرائيلية ـ الأمريكية بدأت تذوب، لذا يتوجب علينا البحث عن طريق للخروج من عزلتنا المتفاقمة في المنطقة والعالم أجمع".

إسرائيل المحصورة في زاوية ضيقة:

وكما أكد الكاتب الصحفي في جريدة الزمان التركية "فكرت أرطان" فإن إسرائيل لم تكن محصورة في زاوية سياسية ضيقة مثل وضعها الحالي طوال "عمرها" البالغ 63 عاما، فهي مطوقة من قبل كل من القرار التركي بضمان حرية الملاحة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط "عند اللزوم والضرورة"، ومراجعة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والرياح العاتية لـ"الربيع العربي" وتداعياته السلبية عليها، وما هي ببعيدة عنها؛ فضلاً عن تضايق الكثير من شرائح المجتمع الإسرائيلي وقسم لايستهان به من الوسط الإعلامي من سياسة حكومة نتنياهو وشريكه الائتلافي المتطرف "أفيغدور ليبرمان"، الأمر الذي يحتم على الحكومة الإسرائيلية أن تعي بأن نهجها الراهن لن يؤدي إلى غير "طريق مسدود" .. حان وقت إدراك إسرائيل ـ قبل فوات الآوان ـ أن سياسة التعالي والغطرسة والتهديد لن تجدي نفعا لها.

محاولات إسرائيلية لتطويق تركيا:

أريد أن أدرج هنا ملخص المقال الذي كتبه مدير وكالة أنباء "جيهان" التركية عبد الحميد بيليجي في صحيفة "الزمان" التركية، والذي توليتُ بترجمته إلى العربية، حيث يقول:

 "إن تركيا كانت حتى وقت قريب بلداً وحيداً يتمكن من إجراء محادثات مع جميع الأطراف المتنازعة في المنطقة بل العالم، سعياً لبناء مستقبل يسود فيه الأمن والسلام، وما مضى وقت حتى بدأت تعصف "رياح" كأنها عزمت على قلب تلك المرحلة رأساً على عقب.

تركيا كانت تقيم علاقات وثيقة مع الطائفة السنية في كل من العراق ولبنان، كما تجري محادثات مع الطائفة الشيعية فيهما؛ وتعقد اتصالات وطيدة مع السعودية، في الوقت الذي تتحاور فيه مع إيران؛ وتواصل على العلاقات الطبيعية مع إسرائيل من جهة، وتعقد اتفاقيات تعاون إستراتيجي مع سوريا من جهة أخرى، بل كانت تبذل جهوداً جبارة في سبيل التوصل إلى عملية سلام بين البلدين الأخيرين، فضلاً عن أنها كانت في حوار بناء مع العالم الغربي أيضاً، غير أن هذا الجوّ بدأ يتغير منذ عام أو عامين.

وكان العالمان الغربي والإسلامي يشيدان بالمواقف التركية الإيجابية المذكورة، التي هي نتاج جهود كل من الرئيس التركي عبد الله جول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو، الذين هم بدورهم يستمدون قوتهم من التحول الديمقراطي في البلاد، والانتعاش الاقتصادي المطرد، ومنظمات المجتمع المدني التي تزاول أنشطتها على كافة الأصعدة.

ولكن بدأت الرياح تهب في الاتجاه المعاكس في الآونة الأخيرة، حيث تحولت أو كادت أن تتحول كلٌّ من القبارصة الروم وإسرائيل والأرمن وسوريا وإيران واليونان إلى أعداء، بينما هي (الدول المذكورة) كانت من عناصر النجاح في السياسة الخارجية التركية قبل فترة قليلة، الأمر الذي يحتم على تركيا القيام بتحديد الأخطاء الناجمة من "أسباب داخلية وخارجية" لوضع حدّ لتوسيع جبهة الأعداء ومواصلة الدور السلمي الذي كانت تركيا تلعبه في المنطقة والعالم، ولا شك أنها قادرة على تغيير "الوضع الراهن" بفضل المقومات الفعالة التي تمتلكها.   

عود إلى البدء:

وإذا رجعنا إلى البداية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قضى على مشكلة اليهود سابقاً بالمآخاة بين الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين، وبالـوثيقة "الحقوقية" بين شعوب "يثرب" (ومن بينهم اليهود)، وبالتطوّر الاقتصادي الهائل الذي أحرزه المسلمون خلال فترة قصيرة إلى أن انتقلت السيطرة التجارية تدريجياً من اليهود إلى المسلمين، بحيث تحوّلت "يثرب" إلى مدينةٍ منورةٍ يسود فيها "الدين" بمعنى الكلمة، أي شعور الإنسان بالمسؤولية تجاه ربه ونفسه وأبناء جنسه والكون، دون نقض العهد من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والفساد في الأرض؛ الصفات التي تؤدي بالإنسان إلى الخسارة الحقيقة الدنيوية والأخروية في نهاية المطاف.

والأمة التركية بدأت تنسلخ من الرداء الاصطناعي الذي ألبسوها رغم أنفها، وتعود إلى كينونتها الذاتية وقيمها النابعة من المبادئ الإسلامية ـ الإنسانية المشتركة، وهي تستعد اليوم للقضاء على مشكلة "الفساد" المتمثلة في النقض الإلهي وقطع الصلات والروابط بين الله والناس (أفراداً وشعوباً) والكون بالدواء النبوي الناجع، أي المآخاة بين أوس وخزرج هذا العهد؛ الأتراك والأكراد والعرب، رغم الحاقدين والحاسدين.

أعتقد أن تركيا التي تشهد تحولات هائلة في تطهير القوات المسلحة من "العناصر السرية العميقة" يوماً بعد يوم، وتطورات غير مسبوقة في مجالي الديمقراطية والاقتصاد بزعامة حزب العدالة والتنمية ستتغلب ـ عاجلا أم آجلا ـ على ما يسمى بالمشكلة الكردية التي لا تستند إلى أرضية حقيقية، خاصة بعد افتضاح أمر منظمة "أرغنيكون"؛ الامتداد الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي (حلف شمال الأطلسي ـ الناتو) في تركيا، وهي منظمة قديمة قدم تأسيس الجمهورية التركية الحديثة تقوم وتقعد بإعداد مخططات للإطاحة بالحكومة القائمة لما خرجت من "الإطار" المرسوم لها، عن طريق اغتيالات المشاهير من اليمين أو اليسار، وإثارة أعمال شغب وفوضى من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد، وإيقاع العداوة والبغضاء بين شرائح الأمة التركية (والإسلامية)، خاصة بين الأتراك وأهالي المنطقة الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية.

  إسرائيل تعرف جيداً أنه لن يقف أحد أمام تركيا المخففة من المشكلة الكردية للانطلاق نحو آفاق المستقبل المنير، لذا يبذل كل جهودها لتحطيم أجنحتها بأي وسيلة كانت.

ولكن السؤال الذي تصدرنا به المقال يظل قائماً: أإسرائيل المتغذية من الصراعات الداخلية بين شعوب العالم؛ من المشكلة الفلسطينية والكردية والأرمنية والقبرصية والعربية والدولية عامة، ستتّعظ من "العبر الكامنة" في الأحداث التاريخية حتى تنجو من عاقبة "العزلة" التي تعرض لها أجدادها خلال التاريخ أم لا ؟!

لننتظر حتى نرى ونعتبر !

                

[1]  ـ استخدم كلمتي "اليهود والمتهود" كصفة، وليس بمعنى الدين والعرق، وذلك للتفريق بين الحكومة الإسرائيلية القائمة والشعب الإسرائيلي واليهود المسالمين مع شعوب العالم.