غياث مطر وبوصلة الثورة
د. نور الدين صلاح
غياث مطر اسم لمع في سماء الثورة في داريا الوادعة في غربي دمشق وفي عقد غوطتها الغربية، وتكاد تكون اتصلت بدمشق من جهة كفرسوسة بحيث يمكن اعتبارها ضاحية من ضواحي دمشق، هذه البلدة العريقة الضاربة في جذور التاريخ والتي تذكرنا بأبي سليمان الداراني وأبي إدريس الخولاني عاد مجدها من جديد على يد هذه الثلة المباركة التي أبت الضيم وحملت مشعل الحرية وكان لها روادها في الداخل والخارج كالمفكر رضوان زيادة وشهيدها غياث مطر وسجناؤها وهم بالمئات ومن أبرزهم يحيى شربجي وأخوه معن، هؤلاء الذين اشتهروا بسلميتهم وبمنهجهم السلمي من قبل الأحداث الأخيرة بسنين وكان لهم مشروعهم في الإصلاح ومكافحة الفساد ضمن نطاق القدرة وكانت جهودهم منصبة على توعية الناس بإدراك حقوقهم والمطالبة بها، وقد قوبلوا من بعض شرائح المجتمع بالاستخفاف والسخرية بدعوى أن هؤلاء ماذا سيصلحون ولا يمكن أن يقفوا في وجه طغيان السلطة وآلتها القمعية وقد اعتقل بعضهم أكثر من مرة والدولة تعلم علم اليقين سلميتهم لأنهم يعملون في وضح النهار وأهدافهم معلنة واضحة، وجاءت الأحداث الأخيرة ليشع اسم الشهيد غياث مطر في لوحة شرف شهداء الثورة، لن أتحدث عن التفاصيل الدقيقة لقصة اعتقاله واستشهاده، لكن أريد أن أسجل بيقين أن مخابرات القوى الجوية اقتادته إلى مطار المزة وهناك قضى نحبه تحت التعذيب في ثلاثة أيام ليسلمه الأمن إلى أهله جثة هامدة مقطوع الحنجرة، آثار التعذيب بادية عليه في معظم مواضع جسده تشي بممارسة أنواع التعذيب المختلفة من حروق وضرب وطعن وكهرباء وجروح عديدة، لقد كانت صدمة لأهل داريا أن يعامل من ذكرت بهذه الطريقة الوحشية السافرة بهذا الاستخفاف للإنسانية وحق الحياة للبشر مع المنطق السادي الهمجي الوحشي إذ تهكم بهم الضابط عند تسليم جثته أن يجعلوا من حنجرته (شاورما)، فتحت أي قانون قتل ؟ ولماذا قتل ؟ وبأي حق قتل !!!
في الوقت الذي صدم العالم كله بهذه الوحشية وتناقلت وكالات الأنباء صور جثمانه الطاهر وما رافق تشييعه من إرهاب وقتل للمشيعين وحصار لبيته وللمسجد الذي صلي عليه فيه وللمقبرة التي دفن بها، وبعد ذلك من الاعتداء على مجلس عزائه بعد حضور السفراء، في الوقت نفسه يطالعنا فيصل قاسم ببرنامجه العتيد (الاتجاه المعاكس) ليستضيف الشبيح الإعلامي (ميخائيل عوض) ليمارسا التشبيح والكذب الصارخ بتناغم واضح وتوزيع محكم للأدوار، ليصرفا الأنظار بطرح هذا الموضوع (وجود الجماعات المسلحة)عن لب الأزمة وحقيقة الثورة، لشغل الرأي العام بموضوع يتعلق بإدارة الأزمة من قبل الدولة وليثبت مع ضيفه العتيد نظرية المؤامرة بخلط فاضح للأوراق والملفات، وأنا أقول لهؤلاء الشبيحة الإعلاميين لن تستطيعوا أن تحرفوا البوصلة، إن الثورة موجودة في سوريا لأن أسبابها المنطقية موجودة، ولأن مطالبها مشروعة ولأن دائرتها تشمل كل شرائح المواطنين وكل قضاياهم الأساسية الحريات والاقتصاد والمعيشة وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان والقضاء الحر المستقل .... إلخ
جاء هؤلاء وأمثالهم ليحرفوا البوصلة وليشغلوا الناس برواية الدولة هل هناك مسلحون وهل هناك إرهابيون وهل هناك وهل هناك ، هل هذا هو الموضوع أيها المتآمرون، كان حرياً بك يا قاسم أن تحدثنا عن غياث مطر وأمثاله ممن اعتقلتهم الأجهزة الأمنية وسلمتهم لأهلهم جثثاً هامدة كل آثار التعذيب الوحشي بادية عليها ولم يكن في قتلهم أي شبهة للجماعات المزعومة ، من قتل هؤلاء ؟؟؟ من قتل حمزة الخطيب ؟؟؟ من قتل هاجر الخطيب ؟؟؟ من قتل الطبيب في حلب والمسعف في حمص والصيدلاني في حماة ؟؟؟ من قتل الحمير ؟؟؟ من حرق المزارع وأتلف المحاصيل ؟؟؟ من الذي يعذب حتى الموت ؟؟ ويعتقل حتى الثمالة ؟؟ ويستبيح البيوت والمساجد والحرمات ؟؟
إن غياث مطر يصرخ في وجوهكم أيها الشبيحة الإعلاميون ودمه يلعنكم، من قتله ؟؟؟ ولماذا قتل ؟؟؟ ومن سيحاسب من قتله ؟؟؟ ومن يبرر قتله ؟؟؟ وبماذا تبرر قتله يا قاسم ويا عوض ومن قتله ؟؟؟ هل يمكن أن تدعيا أن العصابات قتلته !!!
ويأتي البلهاء بعد ذلك كما فعل البوطي بعد زيارة السفير الأمريكي لحماة ليحمّل المعارضة جريمة زيارته وليغمز بها بأنها عميلة لهذه الجهة أو تلك وفاته أن يبين لنا لماذا سمحت له السلطة بتلك الزيارة وهي تملك أجهزة المراقبة وتملك القدرة على منعه من الزيارة، على حين أن الجماهير لا تملك ذلك، وإذا كانت العصابات المسلحة موجودة بالفعل فلماذا لم تنل من هؤلاء الزوار وهم صيد ثمين ينتمون إلى دول تشكل أكبر عدو لما يزعم أنها جماعات أصولية متطرفة، وهكذا لما زار هؤلاء السفراء العزاء بدأت جوقة البله تردد نفس الادعاء، مع العلم أن داريا شبه معزولة عن العالم لكثرة الحواجز المنصوبة فيها، والشبيحة يجوبونها صباح مساء من جهاتها الأربع من جهة المعضمية ومن جهة مفرق صحنايا ومن جهة طريق دمشق ومن جهة الطرق المتشعبة المؤدية إلى طريق درعا، كيف تمكن هؤلاء السفراء من الوصول ؟؟ ولماذا سمح لهم بالوصول ؟؟ ولماذا هاجم الأمن سرادق العزاء بعد انصراف السفراء مباشرة ؟؟ وما ذنب هؤلاء المكلومين؟؟
لقد حسم غياث مطر وأمثاله كذب رواية النظام في إدارة الأزمة وليحدد لنا بوصلة الثورة وليرسم لنا خطوطها وحدودها على النحو الآتي :
· كل من يثير اليوم رواية النظام التي اعتمدها لإدارة الأزمة فهو شريك لهذا النظام في تبرير القتل والظلم والإجرام والتعسف بكل صوره وأشكاله التي لا تعد ولا تحصى
· إن من يحدثنا عن المؤامرة هو شريك فيها لأنه يحرف البوصلة فالمشكلة أساساً ليست وجود المؤامرة ، وإذا كان ثمّ مؤامرة فإن النظام سوف ينجحها بخياره الأمني القمعي التعسفي وبشبيحته الإعلاميين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويراوغون في بيان حقيقة الأزمة ويخادعون في بيان وقائعها وطرق حلها، فهم أشبه بالذين يمارسون رياضة مصارعة الثيران فيحرفون المسار بخرقتهم الحمراء باصطناع عدو وهمي خارجي يلقون عليه كل المصائب ويحملونه كل المشاكل، ويطالعنا اليوم شبيحة النظام ليقولوا لنا إن المؤامرة ليست جديدة وليست وليدة الساعة بل كانت تحاك من سنين، وأنا أقول إذا كان الأمر كما تقولون والمؤامرة بادية لكم من سنين فماذا كنتم تعملون خلال هذه السنين وماذا قدمتم لهذا الشعب لتعصموه من هذه المؤامرة ولتفوتوا الفرصة على المتآمرين، أليس الشعب هو الذي قد ثار ألم تخرج حماة وحمص ودير الزور وإدلب والمعرة وبانياس وجبلة والللاذقية وحوران كلها وريف دمشق وجسر الشغور وغيرها عن بكرة أبيها
· إن السلمية التي تمسك بها غياث مطر ما زالت تحدد البوصلة في استمرارية الثورة وتحقيق أهدافها وإزالة الأشواك من حولها، وكسبها مزيداً من الموالين في الداخل والمتعاطفين في الخارج، فقد منعت سلميتها وأدها في مهدها واستئصالها مع جبروت وطغيان أعدائها، فقد صلب عودها واشتد ساعدها وسوف تؤتي أكلها ضعفين بإذن ربها
· لقد فضح غياث مطر الإفلاس الأخلاقي والعقلي للنظام وهو ما يبين مدى التخبط الذي وقع فيه النظام عندما اصطدم بجدار صلب وأدرك أنه وصل إلى نهاية النفق المسدود وسوف يصطدم ويصطدم مهما أمعن في القتل والسادية حتى يترنح ومن ثمّ يسقط بلا حراك ولن يجد من يترحم عليه أو يقيم له عزاء محترما
· ولسوف يدرك أولئك الشبيحة الإعلاميون أنهم واهمون في إطالة عمر هذا النظام ولسوف يغرقون مع سفينته ويكون مستقرهم في الدنيا مزبلة التاريخ وفي الآخرة مع أضرابهم كهامان وقارون برفقة سيدهم فرعون الطاغية في موكب الطغاة الظالمين
· وفي الختام يجب أن يعلم الجميع مع وجود الحزن الكبير والألم العميق أن دم غياث وأمثاله لن يكون هدراً ولن يضيع سدى، وسوف يتذكر الناس غياث في يوم من الأيام ويقفون على قبره ليخبروه بهذه الحقيقة الكونية السننية، وهنيئاً لك يا غياث في سفر الخلود ولتحفك رحمات الله وليكلل ذكراك أنات هذا الشعب الجريح وابتهالاتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، ولترسم صورة محياك الوضيء في كل زهرة تتفتح عن أمل يشع دائما ينير طريق الثورة والثوار
مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم الثورة السورية