أضواء على ثورة مصر ـ 25 يناير
أضواء على
ثورة مصر ـ 25 يناير
د. محمد عبد الرحمن المرسي
عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين
أود أن أُلقي بعض الأضواء على هذا الحدث التاريخي الهام، في ثلاث محاور، هي كالتالي:
( أ ) موقف السياسة الأمريكية من الثورة.
(ب) النظام المصري ومواجهته للثورة.
(ج ) الإخوان وأحداث الثورة.
وفي هذا المحور الأخير؛ أسجل حقائق للتاريخ، لم يتكلم عنها الكثيرون، وإن كان الموضوع يحتاج إلى مزيد من الكتابات، وإلقاء المزيد من الضوء على هذا المنعطف التاريخي في حياة الأمة، والذي أُعتبر أنه – حتى هذا الوقت – لم تكتمل كل أهداف الثورة التي قام الشعب من أجلها.
( أ ) موقف السياسة الأمريكية من الثورة:
أريد أن أرجع بالتاريخ إلى سنوات سابقة توضح أسلوب السياسة الأمريكية فيما يُسمى بمنطقة الشرق الأوسط.
عقب الحرب العالمية الثانية، قررت أمريكا أن ترث الإمبراطورية الإنجليزية المتداعية، وأن يكون لها اليد الطولى في العالم. والسياسة الأمريكية تحكمها عدة مؤسسات كبرى، وليست وقفًا على فرد، وهي تضع لها الاستراتيجية والخطوط العامة.
من استقراء الواقع؛ نجد أنها تعمل في المنطقة التي نتحدث عنها بأسلوب «النموذج»، أي تقرر نموذج معين لأنظمة الحكم، تملك التأثير عليه، وتدفع الأمور إليه.
بدأت في نموذج الانقلابات العسكرية، وكان أولها انقلاب حسني الزعيم في سوريا ليتم من خلاله إعلان الجمهوريات ورفع الشعارات الوطنية امتصاصًا للتطلعات الشعبية والقومية، ثم نموذج الوجه المدني لجنرالات الجيش القدامى، ثم نموذج تعدد الأحزاب وحراكها فيها مساحة معينة مع بقاء تلك الديكتاتوريات تمسك بزمام السلطة، وطُوِّر النموذج بأن تكون ديكتاتوريات طويلة الزمن. بل وجدنا في آخر الأمر نموذج التوريث للإبن يغمر تلك المنطقة بالكامل.
ولأن الحكومة الأمريكية تتفاعل داخلها مؤسسات عدة، وتطرح داخلها الأفكار والسياسات، ثم تستقر على سياسة معينة، فقد كان داخلها رؤية بسرعة إجراء تغيير جزئي لفتح مجال الحريات، ووضع نموذج لتداول السلطة، وسرعة إزاحة تلك الديكتاتوريات لتشكيل نموذج نظام آخر يرتبط في مقوماته وفي مؤسسات مجتمعه المدني بالدور الأمريكي، إلا أن العقلية الاستعمارية كانت لديها، وكانت تخشى من استفادة التيار الإسلامي وبروزه داخل تلك المنطقة، وكذلك تأثير اللوبي الصهيوني الذي له عداء عقائدي واستراتيجي مع التيار الإسلامي، فرأى في استمرار تلك الديكتاتوريات دعمًا قويًا لسيطرته على المنطقة، وإضعافًا لدولها. كان ذلك له التأثير الكبير في تحديد السياسة الأمريكية، حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح الأمريكية. وبالتالي استقرت أمريكا على دعم الديكتاتوريات، ودعم قهرها لشعوبها، ودعم ضربها وحصارها للتيارات الإسلامية حتى المعتدلة منها، مع النصح بتغييرات شكلية محدودة لكن مع بقاء تلك الأنظمة الديكتاتورية. بل واعتمدت داخل المنطقة المتعهد الرئيسي الذي يقود ويؤثر في باقي الحكام لتعزف على أنغام المنظومة الأمريكية وإن كانت في مراحل متأخرة بدأت في توزيع هذه الأدوار، وبروز أكثر من متعهد لها من حكام المنطقة.
ولأن مصر كانت الدولة المؤهلة لإحداث بعض الإصلاح والتغيير، إلا أنها كانت تخشى إذا حدث هذا أن ينتشر هذا التغيير في جميع دول المنطقة بسرعة فتتساقط قطع الدومينو.
لقد وقعت السياسة الأمريكية في خطأ استراتيجي كبير، تتحمله جميع مؤسساتها التي لها دور في اتخاذ القرار. تمثل هذا الخطأ في القصور الشديد في قراءة الأحداث والمتغيرات رغم كثرة التحذيرات والبيانات التي لديها، ولأول مرة تسبق الأحداث بمتغيراتها التوقعات الأمريكية.
كذلك من أسباب هذا الخطأ الاستراتيجي روح العداء الشخصية ضد التيار الإسلامي في المنطقة، لأنها تعرف جيدًا أنه خارج السيطرة، وترفض أن تكون قوة مثل تلك خارج سيطرتها أو تأثيرها، فإما أن تلتقي معها في منتصف الطريق، أو تأخذ منها موقف العداء، وهذا خلل كبير في علم السياسة والتعامل مع الآخر.
وثالث هذه الأخطاء الكبرى هو السماح للوبي الصهيوني الداعم لطلبات ورغبات إسرائيل أن يؤثر على التقدير الأمريكي للأحداث، بل تعداه أن يكون فوق مصالح أمريكا نفسها في المنطقة.
وما يعبر عنه البعض، باستخدام تلك النظم الديكتاتورية للفزاعة من التيار الإسلامي يرفعها في وجه أمريكا، ومن يطالبه بالإصلاح من الغرب، يحتاج إلى بعض التصحيح، فأمريكا ليست بالسذاجة التي تبني معلوماتها على ما يصدره لها هؤلاء الحكام، فهي عندها من المعلومات عن الواقع بمنتهى الدقة والشمول، وتملك المؤسسات البحثية الراصدة المختلفة، ما يجعلها تزن الأمور وتقدرها. إنما كانت الديكتاتوريات تعزف على وتر تعرف أن أمريكا وإسرائيل لها موقف أساسي منه.
لم تتعلم أمريكا من درس الاستعمار القديم، حيث ظن هذا الاستعمار أنه استقر في سيطرته على تلك الشعوب، لكن الشعور القومي والتحرري بين الشعوب بدأ يتصاعد وينمو ليواجه هذا الاستعمار ويرغمه على الرحيل. وسارعت أمريكا بالتعاون مع الاستعمار القديم بمحاولة الامتصاص والسيطرة على هذه الروح القومية، بتمكين أنظمة للحكم ترتبط بها أو تدور في فلكها.
واليوم لم تفطن أمريكا إلى روح الشعوب، وأنها لا يمكن أن تبقى تحت سيطرة الاستبداد، أو أنها فطنت ولكنها راهنت على النماذج المرتبطة بها لقوة سيطرتها، وأهدرت إرادة الشعوب.
لم تكن أمريكا تتوقع أبدًا أن تنتصر إرادة الشعوب بهذه الصورة، وتزيل هؤلاء الحكام المستبدين عن كراسيهم، وتقدم هذه التضحيات.
بدأت الأمور بالثورة التونسية، وكان لأمريكا حساباتها الخاصة بتونس، حيث كانت تريد إزاحة النفوذ الفرنسي لتحل مكانه مثلما قامت بذلك في ساحل العاج بتأييدها للمرشح المنتخب ضد الرئيس المدعوم من فرنسا (لهذا كانت فرنسا متحمسة لتأييد الثورة الليبية عكس أمريكا كمحاولة للتعويض). لم تهتم أمريكا كثيرًا بالتغيير الذي حدث في الشعب، وإصراره على حريته، وتقديمه التضحيات، وبالتالي تسارعت أحداث تونس، وتم إزاحة الحاكم الطاغية. كانت أمريكا مطمئنة وأنها ستتمكن من إعادة تشكيل النظام بنفس الأسس السابقة، مع تغيير الأشخاص. وأعلنت أن ما حدث في تونس لن يتكرر في أي دولة عربية، وأن « كرة الثلج لن تتدحرج خارج تونس »، وإن كانت هي قد أوصت الحكومات التابعة لها باليقظة والاستعداد واستيعاب الأحداث.
ثم جاء ت الثورة المصرية بتميزها وزخمها الهادر، فكانت عند أمريكا صدمة المفاجأة، والتي انعقد لها مجلس الأمن القومي في اجتماعات طارئة مستمرة، ودخل اللوبي الصهيوني وأثَّر على القرار والموقف الأمريكي، وبدلاً من أن تسارع أمريكا بتأييد إرادة الشعوب، إلا أنها عمليًا أخذت تساند النظم الديكتاتورية إلى حين، وتمنع سرعة سقوطها إرضاءً للرغبة الصهيونية، ومحاولة منها أن تتأكد من طبيعة النظم التي سوف تتشكل بعد الثورة لترضى عنها، وتُعيد التواصل معها، وتكون على نفس الخط الصهيوني الأمريكي أو قريبة منه. أي إعادة تشكيل وإخراج النظام بصورة أخرى. والتصريحات الإعلامية لها – مهما بلغ رنينها – لا تُخفي حقيقة الأداء الأمريكي العملي أو أهدافه.
كانت الثورة المصرية متميزة، فمن أول يوم كان الشعب يطالب بإسقاط النظام، لم تكن البداية مطالب اقتصادية ثم تحولت إلى مطالب سياسية كما كان في تونس. كذلك البداية لم تكن في مكان واحد ثم امتدت بعد ذلك، وإنما في وقت واحد في أغلب محافظات مصر منذ اليوم الأول، وبزخم وزحف هائل لم تشهد له مصر مثيلاً من قبل.
لقد مرَّ الموقف الأمريكي من الثورة المصرية بثلاث مراحل:
مرحلة الصدمة والمفاجأة والمسارعة بمجاراة الأمر.
ثم مرحلة التردد نتيجة للضغط الإسرائيلي، بل وبدأت تسحب تأييدها للثورة ولسرعة تنحي الرئيس.
ثم مرحلة محاولة الالتفاف على مسار الثورة، وإيجاد أجنحة لها لتفتيتها من الداخل، وإعاقة المسار الديمقراطي، ومحاولة تشكيله على هواها، أو أن يأتي بنظام يتعاون معها في تحقيق أهدافها. وفي نفس الوقت مازالت على موقفها من معادة التيار الإسلامي في مصر إرضاءً لإسرائيل، وكذلك من عدم احترامها لإرادة الشعوب الحرة حتى ولو على حساب مصالحها، بل قامت بتحذير كثير من الدول بعدم مساعدة مصر في هذه المرحلة.
وموقفها من الثورة الليبية واضح لمن يعرف خلفيات الأمور، حيث كانت تخطط لاستيعابها وفرض نموذج من عندها، كان أحد أطروحاته تقسيم ليبيا إلى ثلاث أجزاء وتشكيل فيدرالية لها، لكن قوة الثورة الشعبية هي التي فرضت إرادتها على أرض الواقع، وحسمت المعركة بسرعة، وهي تلجأ الآن لدفع الجزائر لتكون شوكة في جانب ثورة ليبيا.
وستبقى أمريكا هكذا خاضعة للنفوذ الصهيوني ورغبات دولة إسرائيل على حساب مصالحها الحقيقية على المدى البعيد، مما يجعلها في حاجة إلى ثورة مؤسسية، تزيل عنها هذا الضغط، وتتحرر من هذا القيد وتلك التبعية في السياسة الخارجية.
(ب) النظام المصري ومواجهته للثورة:
ظن النظام المصري – بناءً على تقارير أجهزته الأمنية، وإجراءاته الديكتاتورية، وسيطرته المطلقة على كافة الأجهزة والمؤسسات بصورة أمنية، وكذلك على تأييد أمريكا له، ورضاء إسرائيل عنه، وإعطائه الضوء الأخضر لكي يستمر نظامه – ظن وأصبح في يقينه أنه امتلك الأمور، وأن نظامه مستمر، وأن الابن سيرث النظام من بعده على الأرجح.
ولأن عقلية الاستبداد هي التي تتحكم فيه، فقد ضاق بكل أنواع المعارضة، وبلغ التزوير والتزييف قمته في انتخابات 2010م، وحرص على تهميش أو إقصاء قوى المعارضة، حتى تلك التي تلتقي معه في مساحات مشتركة.
وبالنسبة للتيار الإسلامي المعارض له، والمتمثل في جماعة الإخوان، والتي استطاعت بنضالها وتضحياتها أن يكون لها بعض البروز على الساحة السياسية، فقد تعامل معها بمنتهى الشدة والمحاصرة والإقصاء تمهيدًا للإقصاء المجتمعي، بل كان في تخطيطه وإعداده – كما تسرب إلينا من داخل أجهزته الأمنية المتعددة – خطط لضرب الجماعة بشدة واعتقال قياداتها، بما فيها التصفية الجسدية بصورة واسعة.
جاءت أحداث ثورة تونس، فأجَّل هذا المخطط وتلك الضربة إلى حين الانتهاء من آثارها وتداعياتها، ثم يبدأ التنفيذ ليكون قبل انتخابات الرئاسة في أكتوبر 2011م بفترة كافية.
لم يستقبل النظام أحداث تونس باستهانة، بل واهتم بتوصية أمريكا له ولغيره من النظم باتخاذ الإجراءات الاحترازية، واستيعاب أي مشاكل جماهيرية. فكان التوجيه لكل الوزارات بتهدئة التعامل مع الجماهير، والاستجابة للطلبات الفئوية. وقام بتكليف الأجهزة الأمنية (المخابرات، الأمن القومي، أمن الدولة، الشرطة،.. إلخ ) بإعداد الخطط لمواجهة أي سيناريوهات محتملة وكيفية السيطرة عليها.
تم تدريب الأمن المركزي والقوات الخاصة على كيفية مواجهة المظاهرات الحاشدة، والسيطرة عليها، وأعطوا التمام بذلك قبل الثورة بثلاثة أسابيع.
وتم إعداد خطط متدرجة، مثل كيفية نزع الأمن عن الشعب، باختفاء أقسام الشرطة، والغياب الظاهري لقوى الأمن، وإطلاق المخبرين والبلطجية للاعتداء على الناس وإرهابهم. بل وخطط لإخراج بعض عتاة المجرمين من بعض السجون لإشاعة الذعر عند الجماهير، حيث يستهدف تشويه الثورة، ومنع الجماهير من المشاركة فيها، ودفعها ومسارعتها للمطالبة بالنظام أن يعيد الأمن إليها. وقد دفعوا أثناء الثورة وفقًا لذلك عددًا من المخبرين والبلطجية للمشاركة أو لتشكيل لجان شوارع على الطرق وداخل بعض المدن، لإعاقة حركة الجماهير المساندة للثورة، والمتوجهة لميدان التحرير، والاعتداء على بعضها. وقد قامت هذه المجموعات باعتقال أعداد ليست قليلة من الإخوان وهي متوجهة في سيارات وأتوبيسات للميدان أو من محطات، أو من محطات السكة الحديد، وذلك بالتعاون بين هؤلاء وأمن الدولة وتسليمهم للشرطة العسكرية. وقد تم تعذيب هؤلاء الإخوان في عدة أماكن وهم يعرفون أنهم إخوان، وينادونهم باسمهم (كانت بعض الأجهزة المشاركة في خطة تصفية الإخوان المقترحة مستعدة لذلك، وتعلم به، وترتب الأمور بعد السيطرة على الثورة باتهامهم بالشغب).
ومع إحكام النظام لخططه، نجد أنها بعون الله وفضله قد فشلت..
فمع اندلاع المظاهرات يوم الثلاثاء 25 يناير، كانت الأوامر لجميع القوات عدم استفزازها ومحاولة استيعابها لعدم تصعيد الأمور، وكان ذلك بقدر الله حافزًا لاندفاع الآلاف للمشاركة. كانت المظاهرات في حوالي 14 محافظة، وفي تسع أماكن بالقاهرة والجيزة في وقت واحد، وفي اتساع كبير غير متوقع. وبذلك انكسر حاجز الخوف عند الجماهير، التي سارعت بحشود كبيرة في هذه المظاهرات.
وهنا انتقل الأمن إلى الخطة الرئيسية، فبدأ بالرصاص الحي، وبكل الوسائل ضرب هذه المظاهرات وتفريقها مع غروب شمس 25 يناير، لكن هيهات، لقد انتقل الشعب إلى الحالة الثورية، ولن يقف أمامه شيء. واجه الشعب الانفلات الأمني وأمور البلطجة بوعي، وبلجان شعبية تحمي الأحياء، وتحمل الناس الكثير من تجاوزات الأمن والبلطجية. وعند تنفيذ النظام مخطط إخراج المساجين حدث انفلات فخرج الكثير من المساجين ممن خطط لهم ومن غيرهم.
كانت أجهزة النظام تعتقد أن الأمر لو اقتصر على ميدان التحرير فقط فسيمكن تحمل ذلك لفترة طويلة، لكن الأمر اتسع في وقت واحد، حتى شمل أكثر من 22 محافظة(من 27 محافظة) في الأيام التالية، وبأعداد هائلة. قام النظام بقطع كل الاتصالات بأنواعها، والتشويش على الفضائيات، ولكن هذا لم يمنع من حركة الجماهير وتواصلها.
كان من ضمن خطة النظام الرئيسية: تجويع الشعب، وافتعال الأزمات في احتياجاته الأساسية، لكن الوقت لم يسعفه وإن حاول ذلك جزئيًا في آخر أيام وجوده، بل وبعد سقوطه عن طريق أعوانه.
حاول النظام أسلوب التراجع الجزئي للاحتواء، وأن يستخدم الأسلوب العاطفي ليؤثر على الجماهير والشعب، لكن أرض الواقع كانت تسيل فيها الدماء، ويظهر فيها مدى الإفراط في استخدام القوة.
استعان النظام بكل وسائل القوة التي لديه، ودفع أفراد من الحرس الجمهوري للدخول في ميدان المواجهة للجماهير وضربها بالرصاص الحيّ، وكذلك استخدام القوات الخاصة، وقوات مقاومة الإرهاب الدولي التابعة لأمن الدولة، بل وأرسل يطلب من إحدى الشركات في سويسرا بنادق قناصة خاصة تعمل بالليزر عن بعد لدقة إصابة الهدف، فرفضت الشركة السويسرية، فقامت إسرائيل بديلاً عنها بإمداد النظام بما يريد.
كان في رجال الشرطة – بمختلف رتبهم – ضباط وجنود شرفاء في حيرة من أمرهم، لا يعلمون أين تتجه الأمور، ولا يوافقون على ما يحدث، حيث كان النظام له أجهزته الأمنية الخاصة بتأمينه، وتقود هي خطة المواجهة مع الشعب. وكذلك كان في الشرطة وغيرها نماذج سيئة حاقدة على الشعب تريق الدماء، بل وتبالغ في ذلك.
بذل الأعلام المصري الكاذب أقصى جهده لتشويه الثورة، وحاول مع النظام إلقاء التهم على متمردين وأصحاب أجندات (يقصد الإخوان).
حاولت إسرائيل أن تثير بعض الاهتزاز داخل الساحة المصرية تأييدًا للنظام، بافتعال حشود على الحدود، وإشاعة أنه إذا لم تستقر الأمور ستحتل سيناء.
ظن النظام في اليوم التالي أن يومي الأربعاء والخميس 26، 27 يناير أنه يمكن أن يحتوي الأحداث، لكن المفاجأة كانت كبيرة بالحشود الهائلة يوم الجمعة، في أغلب محافظات مصر، والاعتصام الكامل المستمر بميدان التحرير، هنا تأكدت وتوثقت الثورة في هذا اليوم – يوم الجمعة 28 يناير – وفي هذا اليوم قرر النظام توحيد القيادة الأمنية لجهة واحدة تنسق وتوجه تلك المؤسسات: (المخابرات – الأمن القومي – أمن الدولة – الشرطة العسكرية – الأمن المركزي).
وأصدر أوامره بانتشار وحدات الجيش في مصر كلها، فأتم ذلك الجيش في اقل من 36 ساعة. قام النظام في فجر يوم الجمعة ذلك باعتقال سبعة من قيادات مكتب الإرشاد، وإخفاؤهم في سجن وادي النطرون وذلك لتوجيه ضربة لقلب الثورة الداعم لها. لكن إصرار الجماهير كان أقوى من كل الخطط والإجراءات.
وهنا قرر النظام أن يسحق الجماهير في ميدان التحرير – حيث أصبح يشكل رمز الثورة – فجمع البلطجية والمخبرين وعناصر من الأمن في زي مدني للهجوم عليهم يوم الأربعاء 2 فبراير، وعندما فشل في ذلك لم يبق أمامه إلا الجيش، فأمره أن يخلي الميدان بالقوة، وعندما أخبروه أن الجماهير لم تعد تخشى الرصاص وأنها تنام تحت جنازير الدبابات، وأنه سيترتب على ذلك مقتل ما يزيد على مائة ألف، أصرَّ على طلبه، وهنا كان الموقف التاريخي لجيش مصر العظيم.
إننا نعلم جيدًا أنه لو قدر الله وفشلت هذه الثورة فإن النظام كان سيعلق قادة الجيش والإخوان المسلمين على أعواد المشانق.
قرب نهاية النظام، قام رجال من الحزب الوطني وأجهزة الأمن بالاستيلاء على الوثائق والملفات الخطيرة التي كانت تحت أيديهم، وإخفائها لحسابهم.
نقول: لقد سقط رأس النظام، وانحاز الجيش إلى الشعب في ثورته، لكن أركان النظام ورموزه ما زالت باقية في اقتصاد مصر، وفي الساحة السياسية، وفي أجهزة هامة، وهي تتواصل مع الخارج وتحاول سرقة الثورة، وإعاقة بنائها لحريتها ومؤسساتها.
كان الرئيس مبارك منذ أول يوم في الثورة وحتى ليلة تنحيه يرسل الرسائل للخارج أن الأمور مستقرة بيده، وأن الذي يواجهه ويحرك الأمور هم الإخوان المسلمين وسيقضي عليهم. ثبت هذا في اتصالاته مع بعض الرؤساء العرب، ومع بعض قادة دول أوروبا، وهم – وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل – مازالوا يبذلون جهدهم لحمايته الشخصية وأنهم سيمنعون أي قصاص عادل منه.
(ج) الإخوان وأحداث ثورة 25 يناير:
طوال عشرون عامًا أو أكثر، والإخوان يواجهون زيادة استبداد النظام بشتى الوسائل السياسية والنضال الدستوري، يطالبون بالحرية والعدالة وتطبيق شرع الله. وأخذ النظام في توسيع مساحة التضييق والحصار عليهم. بدأ في حملة الاعتقالات الموسعة،و عقد المحاكمات منذ عام 1993م،و شمل ذلك حتى نهاية حكمه حوالي 30 ألف معتقل وسجين، واستشهد منهم أفراد، بالإضافة إلى آلاف الحالات من مصادرة الممتلكات والشركات، ومنع السفر للخارج، ومنع التعيين في أماكن يستحقها أفراد الإخوان، والنقل التعسفي، وصور التضييق المختلفة، لكن اعتمد الإخوان في مواجهة ذلك سياسة الصمود والثبات، وعدم التراجع والاستفادة من أي أحداث أو مستجدات للتمسك بالمواقع والمنافذ وتفعيلها. واعتبار دخول الانتخابات والحراك السياسي في المجتمع إستراتيجية ثابتة لها، رغم التضحيات الضخمة من إنفاق مالي، واعتقالات لأعداد كبيرة، وإصابات لأفرادها ومؤيديها، ونتائج هزيلة نتيجة تزييف إرادة الشعب، بل وحصار اجتماعي، وهجوم إعلامي لأي منفذ أو شخصية سياسية تنتمي إليها. ولم يصبح همّ الإعلام المصري إلا تشويه صورة الإخوان.
نزل الإخوان المسلمون بثقلهم إلى الشارع طوال عشرين سنة سابقة، وقبل أيّ قوة سياسية أو شعبية وبحجم كبير، وتبنوا كل قضايا الأمة من رفع حالة الطوارئ، المطالبة بالحريات، رفع القبضة الأمنية، رفض تزييف إرادة الأمة.. إلخ، بالإضافة إلى القضايا القومية الخاصة بقضية فلسطين، أو ما تتعرض له البلاد العربية من عدوان.
لكن مساحة التفاعل الجماهيري ونزولها معهم كانت ضعيفة نتيجة لوجود حاجز الخوف عندهم. ولم يثني هذا الإخوان عن ذلك، فكان صبرًا جميلاً، ولم يفقدوا الأمل في الشعب، فواصلوا نفس الأداء مع ما تكبدوه من اعتقالات وتضحيات وشهداء في التعذيب، أو على أيدي قوات الأمن. وكانت حركتهم مع الشباب وطلاب الجامعات كبيرة، فلم تخلُ سنة من مظاهرات عارمة داخل الجامعات، رغم قرارات الفصل والإحالة للتحقيق، ومنع أي انتخابات طلابية حرة.
في خطة الإخوان المرحلية (2004 – 2008م)، كان من أهداف الخطة في المحور السياسي، تفعيل الشارع والتعاون مع كل القوى السياسية والوطنية، لتوسيع مساحة الحريات، وتقديم مبادرات الإصلاح. وكانت مظاهرات الإصلاح في أوائل مايو 2005، والتي نزل فيها أكثر من مائة ألف من الإخوان في جميع محافظات مصر، واعتقل على أثرها منهم ثلاثة آلاف في أسبوع واحد. وكذلك نزولهم بالآلاف في القاهرة دفاعًا عن قضاة مصر، وتم القبض فيها على ثلاثة من أعضاء مكتب الإرشاد من الشارع.
في خطة مرحلة (2008 – 2011م) تم وضع أهداف منها: تبني وريادة الحراك السياسي المطالب بالإصلاح والحريات، وتفعيل المطالب الفئوية، ومدّ جسور التعاون مع كل الحركات الوطنية.
وفي بداية عام 2010م تم إضافة: تفعيل وسائل الضغط على النظام، واستخدام وسائل أعلى في الضغط عليه لمنع صور الاستبداد التي يمارسها.
وفي انتخابات 2010م كان الإخوان يعلمون نية النظام بالتزوير الفاضح (لكنهم أرادوا كشفه بها)، أصدر الإخوان أوامرهم بارتفاع سقف مواجهة النظام باعتصامات ومظاهرات حاشدة عقب التزوير، لكن القبضة الأمنية، وخوف الناس وإرهاقهم مما حدث في الانتخابات، لم يكن التنفيذ على المستوى المطلوب.
كل هذا التاريخ وأحداثه، كان يرسخ عند الجماهير صور ومعاني معينة داخلها دون أن تظهر في الحال ثمارها. لكن الإخوان لم يفقدوا الأمل في يوم من الأيام. كان الإخوان غير بعيدين عن الدعوة للخامس والعشرين من يناير، بل كانوا في قلب الأمر منذ بدايته، لكن دون ظهور أو ضجيج.
فموقع خالد سعيد الذي تبنى الدعوة، كان من المشاركين الأساسيين فيه أحد الشباب من إخوان السنبلاوين (دقهلية) محمود صلاح. بل والأدمن الخاص بذلك صممه عبد الرحمن شكري، ابن أحد إخوان مركز أجا (دقهلية).
وأيضًا نشير أن تفعيل الدعوة بين الشباب لهذا الأمر تولى صلبها الأساسي إحدى وحدات الإخوان المسلمين وكانت بدايتها في 2005م شكل الإخوان من الشباب في محافظة الدقهلية وحدة إعلامية على الفضاء الإلكتروني لا تعلن هويتها الإخوانية، تتولى رصد حركة الانتخابات بصورة محايدة، وتتواصل مع الإعلام بصورة فَعَّالة. ونجحت في ذلك بدرجة كبيرة، فتم تطويرها ، ودعمها بأن أصبحت وحدة مركزية تابعة لقسم الطلبة وتم تسميتها «مجموعة رصد» ، وتتحرك مركزيًا بنفس الإطار الذي وُضع لها. وكان لها دور جيد في تغطية انتخابات 2010م، وهذه الوحدة هي التي تولت تفعيل الدعوة إلى الخامس والعشرين من يناير بدرجة جيدة، بلغت التواصل مع ربع مليون فرد.
فالإخوان – دون إعلان – كانوا شركاء أصليين في هذا الحراك والدعوة إليه. أما ما حدث في الخامس والعشرين من يناير فكان مفاجأة للجميع، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه صاحبه، أو أنه خطط له. نعم شارك فيه الإخوان، وشارك فيه جميع فئات الشعب، لكن الحدث نفسه وتصوره وتوقعه كان مفاجأة.
إنه قدر الله ومشيئته التي مَنَّت علينا، وتفضله على مصر بهذه الثورة، وبالتالي لا يمكن للإخوان أو غيرهم أن يدعي أنه صاحب الثورة أو مفجرها، إنما هي إرادة الله، ثم إرادة وتضحيات شعب مصر العظيم.
لقد كانت الدعوة أساسًا إلى وقفة في هذا اليوم – 25 يناير – أمام وزارة الداخلية في القاهرة استنكارًا لنهج التعذيب. لكن الحدث الذي تم كان غير ذلك، كان ثورة بالآلاف في 14 محافظة مصرية، وفي تسع أماكن في القاهرة، ثم تجمعت في ميدان التحرير.
لم يكن هناك قيادة أو تنظيم مسئول عن اندفاع الجماهير بالمعنى التنظيمي، وإنما كانت القيادة في الفكرة والمبدأ، وكان وعي الجماهير وترابطهم على أعلى مستوى، حيث توحدوا حول المطالب والشعارات. كانت الهتافات من أول يوم: «الشعب يريد إسقاط النظام». نعم كان هناك خدمات وترتيبات وإجراءات تنظيمية تساعد على حركة الجماهير واعتصامها، وهذه قام الإخوان بدورهم فيها على أكمل وجه، لكن الانطلاقة نفسها لم تكن نتيجة أيّ تنظيم. إن يد الله وقدرته هي التي جمعتهم ووحدتهم وباركت جهادهم.
في يوم الأربعاء 19 يناير – قبل الثورة – أصدر الإخوان بيانًا هامًا لهم، به مطالب عشر للإصلاح تعبر عن مطالب الشعب، والتي نادى بها في ثورته المباركة. وقبلها بعدة شهور قادوا حملة توقيعات للإصلاح قاربت على المليون.
وفي يومي الخميس والسبت 20، 22 يناير، قامت أمن الدولة باستدعاء مسئولي المحافظات من الإخوان لتهديدهم بالاعتقال، بل والقتل، وإنذارهم بعدم نزول الإخوان للشارع، وأن هذا خطٌ أحمر، وردَّ جميع المسئولين برفض هذا التهديد، وأصدر الإخوان بيانًا في يوم الأحد 23 يناير يرفض هذا التهديد، ويطالب بالإصلاح، ويؤكد على المطالب العشر في بيان 19 يناير، وأننا سنكون مع الشعب في كل الأنشطة التي تقربه من ساعة الحرية، وإن غدًا لناظره قريب (حسب نصّ البيان).
في يوم السبت 22 يناير، اتخذ مكتب الإرشاد في اجتماع خاص (بأحد الشقق غير المتابعة أمنيًا) قرار المشاركة في وقفتين يوم 25 يناير، واحدة عند دار القضاء العالي بالرموز السياسية، والأخرى مشاركة شباب الإخوان في وقفة عند الداخلية يوم 25 يناير، حيث كانت الدعوة خاصة بالشباب.
لكن ما حدث يومها كان هو نزول عشرات ومئات من الشباب في القاهرة في أماكن عدة وفي حوالي 14 محافظة، وشارك معهم شباب الإخوان، وتحركوا في مظاهرات بدأت صغيرة، لم يتعرض لها الأمن في البداية حسب خطتهم لاستيعابها. فإذا بالشعب وهو يشاهدهم يتحركون ويهتفون، يندفع معهم من كل الأعمار والفئات، وقد انكسر عنده حاجز الخوف. وعندما بدأت قوات الأمن في مواجهتهم عند المغرب بالقوة، كان الحاجز قد اختفى من داخلهم،و حلَّ مكانه روح الثورة والصمود والتضحية.
لقد كان لثورة تونس أثرًا في قلوب المصريين، وهو إحياء الأمل أن الشعب يمكن أن يُغَيِّر ويواجه الظلم. وجاء نزول الشباب ونجاحه في الحركة في الشارع ليكسر حاجز الخوف عند الشعب لتنطلق الثورة. لقد كانت ثورة حقيقية من تدبير الله، أشعل شرارتها الشباب، وشاركه فيها جميع طوائف الشعب من كل الأعمار والاتجاهات منذ أول يوم.
شارك الإخوان في المحافظات بقوة واضحة منذ اليوم الأول في الثورة، حيث كان مرجل الغضب عندهم مما حدث في انتخابات 2010م قد بلغ ذروته، وذلك أيضًا وفق خطتهم واستراتيجيتهم وبياناتهم الصادرة من القيادة.
كانت المظاهرة الشعبية في يوم الثلاثاء 25 يناير نموذجًا رائعًا من التحضر والوعي، فلم تُحطَّم سيارة واحدة، أو يُنهب أي محل، أو تُلقى طوبة على أي مؤسسة. لكن إدخال الأمن للبلطجية حسب خطتهم بعد ذلك ظهر في الأيام التالية.
في يومي الأربعاء والخميس كانت المناوشات والنزول للشارع مستمرًا، لكن كان الأمر يحتاج إلى رؤية بعيدة المدى.
يوم الأربعاء 26 يناير اتخذ مكتب الإرشاد قرارًا تاريخيًا في حياة الدعوة، وفي حياة مصر، كان القرار أن يكون ذلك بداية الثورة والانتفاضة الشعبية، وأن يتم دعمها بكل الطرق، وأن نعمل على استمرار هذا الزخم، وذلك التحرك الجماهيري، حتى تتحقق الأهداف كاملة، ولو استمر ذلك عدة أشهر. وأن الأمر يحتاج إلى دعوة لحشد كبير يوم الجمعة 28 يناير في التحرير والمحافظات ليستمر بعد ذلك، ومعروف أن يوم الجمعة خاص – طوال سنوات – بالإخوان المسلمين في تحركم بالشارع، ولم يحدث أن دعا أحد من القوى السياسية قبلها لأي تظاهرة في يوم الجمعة. وكان ضمن الرؤية الاستراتيجية للجماعة في هذا الحدث أن تحرص على وحدة قوى الشعب، وأن تحرص على عدم ظهور قيادة الإخوان أو شعاراتهم بصورة سافرة في الميدان، أو تصبغه بصبغتها، حتى نفوت على النظام خطته بأنها صراع بينه وبين الإخوان، وأن نظهر أن هذه ثورة الشعب بكل أطيافه وليست لفريق منه.
وسلك الإخوان طريقين لإخراج هذه الدعوة بحيث لا تنسب إليهم مباشرة، اتصلوا بالجمعية الوطنية – وهم أعضاء فيها – لتصدر بيانًا تتبنى هذه الدعوة، وكذلك تم تحريك مجموعة «رصد» لتولي تفعيل هذه الدعوة مع الشباب على الفضاء الإلكتروني. وإعطاء التعليمات للمحافظات بالاهتمام بالحشد وتحريك الجماهير في هذا اليوم.
تم إبلاغ جميع مسئولي المحافظات يوم الأربعاء 26 يناير مساءً – في لقاء طارئ مع المشرفين عليهم – بخطة التحرك وأهدافه، وأن يعدوا أنفسهم لحراك طويل، وتوضيح الضوابط التي تحكمه. وتم تقسيم أعضاء المكتب الإداري بكل محافظة، إلى قسمين: جزء يتواجد في ميدان التحرير بصورة مستمرة مع الحشد الذي يتوجه من المحافظة، وجزء آخر يبقى في المحافظة لإدارة الحراك داخلها، وترتيب المظاهرات. وأن يتم توزيع الجهد بطريقة متوازنة بين دعم ميدان التحرير بالآلاف، وبين الحشد المطلوب في المحافظات.
وبالنسبة لميدان التحرير، فقد نظم الإخوان بسرعة وحدات الخدمات اللازمة من الإعاشة والمستشفى الميداني، والجهاز الإعلامي من منصات وساوندات، ووحدات للحراسة والسيطرة على مداخل الميدان.. إلخ، وذلك بالتعاون مع العناصر المناسبة من الجماهير المحتشدة.
اكتفى الإخوان بالرموز السياسية التي كانت موجودة في الحراك السياسي قبلها وأثناءها، مع تواجد عشرات الآلاف من الإخوان من كل الأعمار، وتم عمل وحدة قيادة ميدانية في شقة بالقرب من ميدان التحرير، وهي على اتصال مستمر ومباشر بمكتب الإرشاد، بالإضافة إلى القيادة داخل الميدان، وكان لكل محافظة وحشدها في الميدان مسئول يتواصل مع اللجنة المسئولة عن الميدان.
في نفس الوقت استمر انعقاد مكتب الإرشاد بصورة مستمرة في غير مكانه التقليدي، متجنبًا محاولة إعاقة حركة أفراده من قِبل الأمن، وكذلك تعرض مقر مكتب الإرشاد في المنيل لهجوم كان وراءه الأمن.
في الوقت الذي ذهب فيه رؤساء الأحزاب ووزعوا البيانات واللافتات الخاصة بأسمائهم وشعاراتهم، رفض الإخوان مجاراة ذلك تمشيًا مع خطتهم، حيث كان قراراهم أن يعملوا في صمت وهدوء، وألا يظهروا أنهم الذين يحركون الأحداث في الميدان.
عقب يوم الجمعة، ونجاح الحشد الجماهيري، أصدر الإخوان بيانًا في يوم السبت 29 يناير عن ضرورة تشكيل حكومة وطنية انتقالية من غير الحزب الوطني، تتولى إدارة أمور البلاد، وإجراء انتخابات، ونقل السلطة بشكل سلمي، مع استمرار الثورة حتى تتحقق جميع المطالب غير منقوصة (حسب نصّ البيان).
ودعا الإخوان في يوم الثلاثاء 1 فبراير على حشد مليوني في ميدان التحرير – ردًا على خطاب مبارك العاطفي – وإسقاط شرعية النظام المدَّعاة، وضرورة تنحي الرئيس فورًا عن الحكم، وطالبوا في بيانهم بإجراءات محددة لكيفية انتقال السلطة.
يوم الأربعاء 2 فبراير، شَكَّلَ هذا اليوم منعطفًا هامًا في تاريخ الثورة، ففي آخر المساء كان عدد المعتصمين بالميدان حوالي خمسة آلاف، نسبة كبيرة منهم من إخوان المحافظات، أما جزء كبير من أبناء القاهرة فقد ذهب لمنزله ليعود في اليوم التالي، وذلك بعد أحداث يوم الثلاثاء الحاشدة.
رتَّبَ الأمن عدة آلاف بلغت حوالي من 12 إلى 15 ألفًا من رجال الأمن بالزيّ المدني والبلطجية ورجال الحزب الوطني، ومعهم خيول وجِمال وسيارات،ومسلحين بمختلف أنواع الأسلحة المناسبة، للهجوم على ميدان التحرير والاستيلاء عليه – لإظهار أن الشعب هو الذي قام بذلك – مع دعمهم بالقناصة من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة من فوق أسطح المنازل، وكذلك استخدام القنابل والزجاجات الحارقة، مستغلين قلة العدد الموجود.
وقد تصدى ببسالة شباب الإخوان من المحافظات، ومعهم عدد من شباب القاهرة، وتمكنوا من صدّ الهجمة وإقفال ميدان التحرير. وقد سارع الإخوان – بناء على تعليمات مكتب الإرشاد – بإعادة الحشد في القاهرة خلال ساعتين، ثم جلبوا الآلاف من المحافظات القريبة لملء الميدان وإعادة التوازن عند الفجر. وكان فضل الله كبيرًا في كيفية نجاح هذه المجموعة القليلة من شباب الثورة ورجالها في التصدي لمخطط النظام وإفشاله.
كان الإخوان قد أصدروا بيانًا صباح الأربعاء – 2 فبراير – يرفض مناورات الرئيس في خطابه، ووجهوا الدعوة لحشد الملايين في ميدان التحرير والمحافظات يوم الجمعة 4 فبراير، وقد كان حيث وصل إجمالي العدد في التحرير والمحافظات إلى أكثر من عشرة ملايين حسب بعض التقديرات.
كان الجيش حتى هذه اللحظة على موقف الحياد بعد انتشاره وتواجده في الشوارع، وحول الميدان، وهنا قرر مبارك – بعد فشل ما يُسمى بموقعة الجمال – فأصدر أوامره للجيش أن يقتحم الميدان ويخليه من الجماهير. عندما ردُّوا عليه أن الضحايا ستزيد على مائة ألف، أصرَّ على قراره. لم تكن الجماهير في حالتها الثورية تلك تجري أو تهرب من الرصاص، بل كانت تتقدم وتواجهه بصدورها العارية، وقد عمت روح الاستشهاد والتضحية جميع الحشود، وكان الشهيد قبل أن يلفظ أنفاسه يطلب من الله أن يقبل شهادته.
وهنا يسجل التاريخ موقفُا عظيمًا لقيادة الجيش المصري، حيث كان أمامه أحد خيارين، إما أن ينفذ أوامر الحاكم والقائد العسكري، فيمزق أجساد مئات الآلاف من المصريين في الميدان، أو يرفض وفي هذا سيكون متمردًا على القرار، ويكون لمبارك محاكمتهم عسكريًا وإعدامهم. كان بعض قادة الوحدات مترددًا لكن المشير طنطاوي كان حاسمًا ومعه هيئة الأركان، وقرروا رفض تنفيذ الأمر والانحياز لثورة الشعب المصري، لأنهم يدركون مدى خطورة الوضع، وأن الجيش لم يوجه في حياته سلاحه ضد الشعب، وأن ضباط وجنود القوات المسلحة، كيف سيكون ردّ فعلهم وأقاربهم وإخوتهم موجودون في الميدان.
كان قرار المجلس العسكري قرارًا ثوريًا، لأنهم يعلمون جيدًا أنه إذا فشلت الثورة فهم أول من سيتم إعدامهم. بل وترددت أنباء أن مبارك أصدرًا قرارًا بإقالة المشير، تحرك المجلس العسكري بسرعة، وأصرَّ على ضرورة تنحي الرئيس فورًا – رغم أن هذا لم يكن يلقى قبولاً من أمريكا – ورفض الرئيس مبارك الموافقة على ذلك سواء كتابة أو بصوته، فلمي يكن من الجيش إلا أن أعلن تنحيه، وتحفظ عليه في شرم الشيخ. وبالتالي حققت الثورة المصرية أهم أهدافها السياسية بإسقاط رمز النظام، وأصبحت أمريكا أمام أمر واقع تتعامل معه.
إننا لا يمكن – مهما اختلفنا في الرؤى السياسية مع المجلس العسكري – إلا أن نُقِرَّ بهذا الموقف العظيم، وبدوره في نجاح الثورة، وتجنيب الوطن مغبة الصراع وإراقة الدماء،ونحن نشاهد ذلك في عدد من الدول العربية.
كذلك حرص الإخوان على إرسال رسائل التهدئة والتطمين للدول الغربية وأمريكا، وكذلك للقوى الداخلية، أن الإخوان لن ترشح أحدًا منها للرئاسة، ولن تنافس على أغلبية برلمانية، وذلك في بياناتها يومي الخميس 3 فبراير والجمعة 4 فبراير. ثم صدر قرار مجلس الشورى العام للإخوان بذلك يوم الخميس 10/2/2011م. وتم إعلان تنحي الرئيس بعدها يوم الجمعة 11 فبراير،وكان لهذا أيضًا دوره في تسهيل نجاح الثورة،و إزالة بعض المعوقات المحتملة.
وأود أن أشير أنه عندما غابت الإخوان عن بعض أيام الجمعة بعد إزاحة مبارك وحكومته، نتيجة عدم التنسيق معها، ظهر مدى الفرق في القدرة على الحشد والتنظيم في أيام الجمع التي نزلت فيها، والذي كان واضحًا في أيام الثورة الأولى. وهذا يوضح أنهم كانوا فصيلاً أساسيًا له حجمه وثقله الكبير في الثورة، رغم مغالطة البعض لهذه الحقيقة.
هذه بعض الأضواء أسجلها حتى لا تضيع في غمرة الضجيج الإعلامي، الذي بعضه ينسى أو يتناسى الحقائق،ويتحرك جزء منه وفق أجندات معينة. ومازالت الثورة مستمرة حتى تحقق كامل أهدافها.