شتاءُ الثورات
د. عبد الرزاق حسين
قيل عنه ربيع الثورات ، وأنا أسميه شتاء الثورات ، فلم تشهد الأرض غيوماً مثل هذه الغيوم ، ولم تمطر مثل هذا المطر الذي اغرورقت منه الأرض دماءً ودموعاً ، ولم تُخصب وتُمرع كما أخصبت وأمرعت .
عام 1432 هـالموافق لعام 2011 سيظل له ذكر مدو على مدى التاريخ ، فالقمقم الذي حُبس به الشعب العربي انفجر ، والشرنقة التي كُتمت بها أنفاس الناس تقطَّعت ، وما كان حلماً أصبح حقيقة ، وما كان مستحيلاً غدا واقعاً .
الحلم يتماس مع الواقع ، يتماهى فيه ، يتلبسه ، فيغدوان حالة واحدة متفقة متوافقة ، لا تكاد تميز بينهما إلاَّ في خطٍّ يسير تماماً كما يميز خط اللب فلقتيه .
حلمنا العربي غدا أمراً حقيقياً ، نلمس أهدابه ، ونعيش في ظلاله ، بل ونتنفس أنسامه ، فالكابوس الجاثم على الصدور الذي ناء بكلكله زمناً ، وشدَّت حبال بقائه بيذبل الخوف ، وأمراس الترهيب ، وصمِّ جنادل القوى الأمنية ، تفتتت أليافه ، وحُلَّتْ عُقَدُهُ ،وسقطت أركانه ، وبان أمره ، وذاق وبال أمره .
لم يكن أحدنا أيّاً كان يستطيع أن يذكر خالياً أمر حاكمه بلذعة انتقاد ، حتى صار بعضهم يتخوَّف من أن يُحاسب على منامٍ رآه ، وقد حدَّثني أحد كبار الضباط أنه شاهد عرضاً عسكرياً لإحدى الدول العربية على شاشة تلفازه في بيته ، فاستدعته المخابرات العسكرية في اليوم التالي ، وأبلغوه بأنهم سمعوا عبارات الإعجاب الصادرة منه نحو هذا العرض ، ولما استفسر منهم ، هل هذا ممنوع ؟ قالوا : أحببنا فقط أن تعرف أن ما يدور داخل بيتك نعلمه .
ضابط آخر كبير كان في استقبال أخٍ للحاكم عائد من دراسته في الخارج ، ورأى كبار المستقبلين يقبلون يده ، فقال يخاطب نفسه : غلام طول الشبر ، وأشار بيده ، ويقبلون يده . وفجأة خرج له رجل مخابرات قائلاً : ماذا تقول سيدي ؟
فقال الضابط الكبير : أقول : ما شاء الله ذهب صغيراً وعاد شاباً .
شاعر من الذين لهم شهرة كبيرة كتب قصيدة في أحد الحكام ، فكان أن منع من الكتابة ، وهذا أفضل حالاً ممن غُمست يده في الزيت الحار ، أو من غيّبته السجون .
أحدهم في بيت الله وفي الطواف حول الكعبة ، رأى الرئيس ، ولم يكن الأمر مخططاً ، فقال له من باب النصيحة ، اتق الله يا ريِّس في شعبك ، فكان جزاؤه أن أُعيد إلى بلده وسجن فيها سبعة عشر عاماً ،
مجرد ورود رقم تلفون لشخص مطلوب من دولة ووجد في محفظتك ، فأنت وراء الشمس حتى تأتي بهذا المطلوب ، أحد من أعرف أوقف شهوراً لمجرد تشابه اسم مع مطلوب أدّى إلى خسارته وظيفته .
هذه شذرات ولا شكَّ أنَّ عند كل واحد منكم ما يُعلَّق على أستار حقوق الإنسان .
ويتبدَّ ل الأمر ويتحوَّل الواقع إلى حلم والحلم إلى حقيقة ، فمن كان يصدِّق أنَّ الناس يتكلمون في الحاكم على رؤوس الأشهاد ، بل من كان يحلم أن يرى الجماهير تلقي بالأحذية في وجه الحاكم وهو على سدة الحكم ، كان حلماً ، ولقد كتبت حلماً رآه الرئيس قبل أكثر من ثمانية عشر عاماً ، وقد صدر في ديواني ردُّوا الخيول الصادر عام2003م وتاريخ القصيدة يعود إلى عام 1993 ، وفيها لم أستطع ذكر الحالم ، فوضعت بدل اسمه كلمة " كمن " فقلت :
في نومه " كمن " كـأنَّ ثـعـبـاناً نضا فـفـرَّ مِـنْ أمـامـه وراحَ يـدعـو جُـتدَهُ أينَ جنودي ؟ أينَ منْ ؟ تـخـاذلـوا وتـركوا مـنْ بـعـد ما منحتُهُمْ أشـبـعـتُهُمْ أعطيتُهُمْ كـسـوتُـهُـمْ ألْبسْتُهُمْ ويـلٌ لهم ! ويلٌ لهم ! وظـلَّ يمضي مُسرعاً حـتـى أتـى لـبركةٍ وفـي دُجـى لُـجَّتِها فـرعـونَ في نيرانها فـزلـقـتْ أقـدامُـهُ هـنـا صحا مِنْ نومِهِ يـا لـيـتني يا ليتني | رأىحُـلـمـاً مخيفاً نـابـاً لـه مُـدبّـبـا وطـارَ يـرجو مهربا ويـسْـتـشيطُ غضبا كـنـتُ لـهـمْ مُحبّبا رئـيـسـهم مُضطربا عـزّاً ومـجـداً رُتَبا مـنْ دمِ شـعـبي ذهبا صـوفـاً حريراً معجِبا فـرّوا وولّـوا الـهربا خـوفاً ويخشى العطبا وهـيَ تـلـظَّـى لهبا رأى بـهـا مـا شيّبا وهـوَ يُـعاني الوصبا وكـادَ يـلـقى الحَرَبا وهـو يـقـولُ الهذْربا كـنـتُ بـعيراً أجربا | مُرعبا
فهل ترون معي أنَّ هذا الحلم تحوَّل فعلاً إلى حقيقة ؟