حقائق عن الدولة التركية
أ.د/
جابر قميحةمعروف تاريخيًا أن الدول العثمانية سيطرت على الشرق العربي بدوله المختلفة قرابة أربعة قرون ( 1514- 1914 م) . وباسم الخلافة الإسلامية استطاعت الدولة العلية أن تثبت أقدامها في هذه الدول طيلة هذه القرون ، وإن اختلف هذا النفوذ من قطر إلى قطر ، ولكنه كان اختلافًا في الدرجة ، ولم يكن اختلافًا في النوع . ويجب – إنصافًا وأمانة – أن نذكر القارئ بالحقائق الأربعة الآتية عن هذه الدولة :
الحقيقة الأولى : أن الخلافة العثمانية استطاعت أن تدافع عن الشرق العربي ضد الاستعمار الأوروبي وتوقف المد الصليبي الغربي أربعة قرون . فقد كان من اللازم أن يتحول الوطن الإسلامي كله إلى قوة عسكرية لتواجه الموجة الصليبية العاتية التي أخذت تتجمع وتتكثف بعد نهضة الشعوب الأوروبية ، وبداية الكسوف الاستعمارية ، واكتشاف رأس الرجاء الصالح .
صحيح أن الدولة العثمانية لم تستطع أن توقف هذا المد إلى النهاية ، ومع ذلك يبقى لها فضل الصمود المشرف ، وإلحاق هزائم منكرة بالدولة الأوروبية تعد نقطًا وضيئة في سجل التاريخ الإسلامي ، ومن ثم أخرت الاستعمار الغربي وأعاقت تقدمه نحو الوطن العربي ، وإن لم توقفه إلى الأبد .
**********
الحقيقة الثانية : أن البلاد العربية والإسلامية لم تكن تنظر إلى الدولة العثمانية كدولة استعمارية متسلطة ، كما كانت تنظر فيما بعد إلى فرنسا وانجلترا وأسبانيا . بل كانت تنظر إلى الخلافة التركية كضرورة يجب أن تظل وتبقى في مواجهة عالم غربي صليبي منهوم . وهناك دول كثيرة تؤيد هذه النظرة . منها : أن الجزائر قد دخلت باختيارها في الدولة العثمانية ، وكذلك أمراء لبنان ، وشريف مكة ، وأن المغاربة قد رفضوا التجنيد في جيش المماليك لمقاتلة السلطان سليم ؛ لأنهم لا يقاتلون إلا الفرنج على حد قولهم . زيادة على الاشتراك الفعلي في حروب الدولة العليا ، والتعاطف الكامل مع انتصاراتها بالشعور والكلم والفعل ، فتركيا حينما كانت تضطر إلى محاربة روسيا تنهال عليها الأمداد والمؤن والرجال من سائر الأقطار الإسلامية ، وينبث الدعاة في كل مكان يحرضون الناس على الدفاع عن الإسلام حتى تبلغ دعوتهم الهند والصين .
**********
الحقيقة الثالثة : أن تاريخ هذه الفترة – مع أنها اقرب العهود إلى عصرنا الحديث – لم يكتب كتابة دقيقة وافية منصفة حتى الآن ، فما زال هناك خفايا لم تظهر ، ومواقف تحتاج إلى تفسير ، وشخصيات تفتقر إلى استجلاء .
والغربيون الذين كتبوا تاريخ هذا العصر أعماهم التعصب عن ذكر بعض الحقائق ، وتشويه بعضها الآخر ، وانساق كثير من كتاب العرب يتلقفون هذه الافتراءات دون تبصر أن تمحيص .
وقد بدأ الركام الكثيف يزول لينكشف عن كثير من الحقائق المجهولة ، وهي في مجموعها تصم اليهودية العالمية التي كانت تعمل على تقويض الخلافة طبقًا لمخطط مرسوم .
فأيسر ما يقال في هذا المقام أن تاريخ هذا العصر في حاجة إلى " إعادة نظر " ؛ ليكتب من جديد بدقة وتعمق في ضوء ما أسفرت وتسفر عنه الأيام من أدوار خبيثة لعبتها الصهيونية العالمية ، بعضها على سبيل الجهر والملاينة ، وأغلبها خفية من وراء الكواليس .
وقد يؤيد ما ذهبنا إليه أن الجمعيات والتنظيمات التركية التي ضمت العناصر المناهضة للسلطان عبد الحميد نشأت في سالونيك ( مقدونيا ) ، وكان نصف سكانها تقريبًا من اليهود ، كما كانت تزخر بالقوميات البلقانية ، وكانت أكثر اتصالاً بالعالم الأوروبي .
ومن هذه الجمعيات جمعية ( الوطن ) التي أسسها مصطفى كمال ( أتاتورك ) سنة 1906 م ، ثم سماها ( الوطن والحرية ) ، ومنها ( الجمعية العثمانية ) التي كان يتزعمها أنور ونيازي .
وقد كان هناك علاقة قوية بين حركة ( تركيا الفتاة ) والماسونية ، إذ يرى بعض المؤرخين أن ( تركيا الفتاة ) ليست إلا نموذجًا لبقية الثورات التي استخدمتها اليهودية الدولية .... وقد كان في مقدمة الوفد الرباعي الذي تقدم إلى قصر السلطان ليبلغ عبد الحميد نبأ عزله : المحامي اليهودي " عمانويل كاراسوافتوس " أحد قادة الحركة الماسونية في سالونيك .
وقد شوه اليهود والأجانب وأعداء الخلافة سمعة السلطان عبد الحميد ، ولكن التاريخ لم يخل من من منصفين ردوا على كثير من المزاعم والمفتريات ، ومن هؤلاء " فمبري " المجري " الذي شهد لعبد الحميد بالتواضع ، والبعد عن البذخ . وذكر فمبري أنه بحث واستقصى بنفسه كل ما نسب إلى عبد الحميد من نقائص فوجد أن كل ما سمعه اختلاق أو مبالغة وغلو .
والمؤسف حقًا أن يتأثر كثير من كتاب العرب والمسلمين ما كتبه الغربيون واليهود بروح صليبية وتعصب أعمى ، وأن يروجوا – بقصد أو بدون قصد – كثيرًا من الأخطاء والأكاذيب التي تهدف الإساءة إلى الفترات الوضيئة في تاريخ الدولة التركية . وقد ضرب الدكتور محمد حسين مثلاً لذلك بما زعمه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه " أم القرى " من أن السلطان محمد الفاتح قد اتفق سرًا مع ( فريديناند وإيزابيلا ) على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر آخر أمراء الدولة العربية في الأندلس ، ورضي بما جرى على خمسة ملايين من المسلمين من التقتيل والإكراه على التنصر ، فشغل أساطيل أفريقيا عن نجدة المسلمين ، وذلك في مقابل ما قامت به روما من خذلان الإمبارطورية الشرقية عند مهاجمته مقدونيا ثم القسطنطينية .
ولو كلف الكواكبي نفسه قليلاً من عناء البحث والتمحيص – وهو العلامة الأديب – لعلم أن محمد الفاتح استولى على القسطنطينية عام 1453م ، وأن فرديناند وإيزابيلا لم يعتليا عرش أسبانيا إلا عام 1479 م . وقد توفي محمد الفاتح سنة 1481 م ، ومملكة غرناطة الإسلامية لا تزال قائمة ، ولم تسقط في يد فرديناند وإيزابيلا إلا سنة 1492 م ، ولم يتعرض مسلمو الأندلس للتقتيل والتنصير إلا بعد ذلك بعدة أعوام .
**********
الحقيقة الرابعة : أن سقوط الخلافة العثمانية كان نتيجة طبيعية لمجموعة من الأسباب الخارجية والداخلية . تضافرت جميعًا فكانت أقوى من أن تصمد أمامها دولة .... أية دولة : فهناك أوروبا الاستعمارية بروحها الصليبية العدوانية ، والصهيونية العالمية بمخطط عدواني مدروس ، وسوء الإدارة وغباء السياسة وعدم الأخذ بأساليب النهضة الحديثة . وهناك أساليب القمع التي اتخذها بعض الحكام ، مما هيأ الجو لقيام الحركات المناهضة للدولة التركية في داخل الوطن العربي ، وكانت من الأسباب القوية التي عجلت بنهاية الخلافة العثمانية بل وسقوط الأمة العربية تحت أقدام الاستعمار الغربي الحاقد المنهوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المراجع :
د. محمد عشماوي – الأدب وقيم الحياة المعاصرة .
د. محمد أنيس – الدولة العثمانية والشرق العربي .
د . محمد محمد حسين – الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر .
د. ماهر حسن فهمي – حركة البعث في الشعر العربي الحديث .
محمد جلال كشك – مقال في مجلة الرسالة – العدد 1101 .
مجلة المقتطف – عام 1889 م ( م ص 724 – 728 )