النظرية النسبية وعلاقتها بالطبيعة الإنسانية
النظرية النسبية وعلاقتها بالطبيعة الإنسانية
م. أسامة الطنطاوي
إن المقصود من النسبية في هذا المقام ليست نسبية أينشتين الشهيرة في الفيزياء، ولكن المقصود هو الحديث عن النسبية بوصفها مفهوما عاما يشير إلى اختلاف المعايير الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، بل والمعرفية التي تمنع الاعتقاد بالحقائق المطلقة في هذا المجال، إذ إن نقيض المطلق هو النسبي، لكن النسبي قد يكون موضوعيا أيضا .
فمعايير الجمال تختلف من حضارة الى أخرى، بل ومن فرد إلى فرد بحيث ما قد يبدو جميلا بالنسبة لك لا يبدو كذلك بالنسبة لآخر. وقس على ذلك نسبية الأذواق بعامة .
حتى المعارف التي أتفق على صحتها بدا ان هناك معارف أخرى قد تدحضها بمرور الوقت وتقدم العلوم والاكتشافات، وإذا كان هذا يصح في العلوم الفيزيائية والكيميائية، فإنه من الأولى أن يصح في العلوم الإنسانية التي هي علوم احتمالية بالأساس .
ونسبية المعرفة تؤكد السير الحثيث نحو إغناء المعرفة والتحقق منها وصياغة معارف جديدة قد تكون مناقضة لها. هذه المسألة المعرفية يكاد يتفق عليها .
وفي واقع الحياة يختلف البشر ويتفاوتون في أمور عديدةٍ كالشكل واللون واللغة والثقافة بكل مفرداتها وأمور أخرى متنوعة ،
والاختلاف سنة من سنن الله في خلقه ، قال تعالى " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم " . والاختلاف الأعظم هو اختلاف العقل وما يمتلكه من معارف وآراء وأفكار وتوجهات وأساليب للتفكير ، ولعل اختلاف العقول يجعل نتائج الحكم على الأشياء المتعلقة بسلوك الإنسان أمر نسبى .
والاختلاف يفتح باب الحوار ، ومن خلاله يتعلم ويكتسب الإنسان العديد من الآداب والفضائل ، ويتمكن من مواجهة العديد من المشاكل . من هنا يأتي تساؤل يقول : هل النسبية فكرة مقبولة للحياة الإنسانية ؟ أم أن من الأفضل أن نعيش في ظل كل ما هو مطلق ؟
في الطبيعة يكاد يجزم الكثيرون بان المادة وقوانينها ثابتة إلى حد كبير فالماء مع استمرار الحرارة يغلى ثم يتبخر ، وبغياب الحرارة يتجمد . ومعروف أن سرعة الصوت في المواد الصلبة اكبر من سرعته في السوائل والغازات ، وغياب الأكسجين يعنى غياب الحياة عن الكائنات هوائية التنفس ، وهذه حقائق تم استنتاجها من خلال تجارب وافترضات جانبها الصواب أحيانا ، فتكرر البحث مرة أو مراتٍ أخرى إلى أن تم التوصل إلى تلك الحقائق .
ولعل هذا ما يجعل نتائج العلوم الطبيعية مطلقة إلى حد كبير ، وهذا يخدم فكرة التقدم والتطور في هذا المجال ، فلو كانت الأحكام المتعلقة بالمادة نسبية لظل الباحث عاكفا على نفس النقطة البحثية ، وما تطورت البشرية ولما انطلقنا إلى عصر تميز بالانفجار المعرفي .
أما في الأمور المتعلقة بالإنسان وعلومه فالنسبية تتجلى في أوضح صورها وهو ما يلاحظ حينما نرى أن الدارس للعلوم الإنسانية والباحث فيها يجد أن النسبية ترتبط بالإنسان في كل شيء ، في نظرته للطبيعة ، وفي التغيير الذي يحدث فيها ، ونسبية النظرة إلى الطبيعة تنعكس على الإنسان نفسه فيصير هناك تنوع ثقافي يؤدى إلى نسبية أمور أخرى .
ويدور نقاش كبير بين الأخلاقيين والفلاسفة يدور حول ما إذا كانت الأخلاق نسبية أم أنها مطلقة. أتباع النظرية المطلقة يقولون بأن الأخلاق لا ترتبط بالمكان والزمان والمجتمع، بل هي مفاهيم ثابتة واحدة مطلقة لا تتغير. على النقيض من هذا الفريق يقع اتباع النظرية النسبية، فهم يؤكدون على أن الأخلاق ليست ثابتة بل هي متحركة ومتبدلة متأثرة بمتغيرات الوقت والمكان والمجتمع.
فلو ان إنسان ما تصرف تصرفا محمودا في شرق الأرض، لا يمكن ضمان هذه المحمودية والأفضلية لنفس العمل فيما لو قام بها الإنسان في غربها، والسبب يعود إلى أن الحكم على الفعل يتغير تبعا للظروف المحيطة بالإنسان.
ولعل هذا ما يؤكد فكرة أن كثيرا من الأمور المتعلقة بإصدار أحكام متعلقة بسلوكيات البشر نسبية
من هنا كانت نتائج الدراسات الإنسانية نسبية ، ولو كانت هذه النتائج مطلقة لتعارض ذلك مع فكرة مواكبة الحياة الإنسانية لتغييرات الطبيعة السريعة الحادثة من حوله ، والتي تؤثر في ثقافته وأسلوب حياته ، فكيف للإنسان أن يعيش في القرن الحادي والعشرين في ظل نظريات إنسانية ظهرت في القرن التاسع عشر أو حتى القرن العشرين ، والعالم من حوله يموج بتغييرات سريعة ومذهله تفرض عليه أن يطور نفسه من أجل التعايش معها .
إذن النسبية هنا هي هبة من الخالق ، تمكن الإنسان من مسايرة العصر ، ولعل مما يدعم تلك الفكرة أننا نجد في مجال التشريع الإسلامي ترك مجالا للفقيه والقاضي أن يصدر فتوى أو حكما ما وفق مقتضيات الواقع ، ولاسيما في الأمور التي لم يرد فيها نص قطعي الثبوت والدلالة .
ومن أمثلة ذلك من السنة المطهرة أنه جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أناسٌ كثير بسؤالٍ واحد يقول : يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله؟ . فكانت النتيجة إجابات مختلفة ، فلكل سائل إجابة تناسب وضعه وظرفه وعمره وفهمه ، فمثلا ، قال صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بالله ورسوله . وقال : الجهاد في سبيل الله . وقال : الصدقة . وقال : الاستغفار . وقال : إطعام الجائع . وقال : زيارة المريض . وقال : صلة الرحم .
وهكذا تتعدد الحالات بتعدد الظروف والأحوال ،
فهذا القول النبوي له أكثر من دلالةٍ تربوية ؛ فقد يكون هذا تعبيرًا عن كثرة أبواب وصور العمل الصالح ، وبذلك لا يحصر الإنسان نفسه في إطار ضيق ومحدود . وقد تكون كل إجابة جاءت لتكليف كل سائل بما يستطيع القيام به انطلاقًا من المبدأ التربوي القرآني القائل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، فالسائل بشر ، ولكل فردٍ قدراته وطاقاته وهمته ، فمن الناس من همته الوصول إلى أعلى مراتب الإيمان فيتحرى كل عمل يقربه من هدفه ، ومن الناس من تقتصر همته على أداء العبادات المفروضة ، وقد يقصر وقد يخطئ ويبقى لديه الأمل في أن تشمله رحمه الله .