سوريا ما قبل الأسد 4

د. هشام الشامي

[email protected]

كان رئيساً لمجلس النواب السوري المنتخب من 17-10-1944 ولغاية 16-9-1945 ، وكان حين قدومه لدمشق الفيحاء من مدينته حلب الشهباء أثناء انعقاد دورات مجلس النواب يقيم في فندق الخوام الواقع في ساحة المرجة وسط دمشق ، وكانت العادة آنذاك أن تعقد جلسات المجلس يومياً الساعة الخامسة مساء ، وكان يخرج من فندق الخوام بعد ظهر كل يوم باتجاه طريق الصالحية وصولا إلى مبنى البرلمان سيراً على الأقدام كأي مواطن عادي يلقي البسمة والتحية على المارة ويتكلم معهم ويحمل همومهم وآمالهم إلى مجلس النواب و يوزع الأمل والمحبة بين المواطنين , ولم يكن يرى من الحرج أن يصافح المارة ويقف معهم و يسألهم عن أحوالهم و يناقش معهم مشاكلهم ومشاكل الوطن، قبل أن يصل و يعلن افتتاح و يترأس جلسات البرلمان و يشرّع مع زملائه للوطن .

لم يكن يرافقه في مسيرته اليومية هذه شلة الحراس المخيفين و لا عصابة المرافقين المدججين بالسلاح ، ولم يكن يركب سيارة المرسيدس ( الشبح ) السوداء المظللة الزجاج ( المفيمة ) و لم تكن تقطع الطرقات له وتفتح إشارات المرور الحمراء على مصراعيها ، ولم تزأر سيارات المرافقة بصفاراتها الحادة المزعجة معلنة عن مرور موكب رئيس مجلس النواب.

إنه سعد الله الجابري :

ولد في حلب عام 1894. والده الحاج عبد القادر مفتي مدينة حلب، بدت عليه مظاهر النباهة والجرأة منذ صغره، فنشأ وترعرع في حلب، وتلقى علومه الابتدائية والتجهيزية فيها وصحا على اجتماعات واتصالات عائلته مع رجالات الفكر والسياسة ، الذين كانوا يجتمعون في منزل الشيخ عبد الحميد الجابري للتداول في أمور البلاد وما آلت إليه .

بعد الثانوية انتقل إلى استانبول لمتابعة دراسته في الكلية الملكية السلطانية، فاتصل هناك بالشباب العربي في الأستانة وأسسوا جمعية العربية الفتاة وأقسموا اليمين للعمل على استقلال البلاد العربية.

أُرسل سعد الله إلى ألمانيا حيث درس سنتين وعاد إلى استانبول بمناسبة إعلان الحرب العالمية الأولى، فجند في الجيش العثماني (كجك ضابط) وعُين مراقباً على الأرزاق وقوافلها في بلدة (أرض الروم) وقضى مدة الحرب هناك.

عندما انتهت الحرب عاد سعد الله إلى حلب، ودخل في حركة حقوق الإنسان، ولما قامت الثورات عام 1919 على أثر نية الحلفاء تقسيم البلاد العربية ودخول الفرنسيين سوريا؛ كان سعد الله الجابري على اتصال بزعيم الثورة في الشمال إبراهيم هنانو يؤيد ثورته ويدعمه، كما جدد اتصاله بمن كان معه في الكلية السلطانية مثل شكري القوتلي وغيره من العناصر الوطنية.

ونظراً لجرأة الجابري في مواجهة الفرنسيين، فقد اعتقل في سجن جزيرة أرواد مدة من الزمن مع هاشم الأتاسي ورفاقه الوطنيين.

كان الجابري وجماعته يواصلون الاجتماعات والاحتجاجات ورفع المذكرات لجمعية الأمم يشكون فيها الاستعمار الفرنسي ، وحين أعلنت السلطة الفرنسية استعدادها لإقامة حكم دستوري في البلاد، كان الوطنيون قد قرروا في مؤتمرهم الدخول في الانتخابات، ولما أُنتخب إبراهيم هنانو والجابري لأول مجلس تأسيسي رأى الفرنسيون أن هذا المجلس لا يمكن أن يخدم مصالحهم، لذا عمدوا إلى إلغائه، فعاد الوطنيون إلى النضال وقامت المظاهرات والاحتجاجات واعتقل الجابري. وبعدما أّفرج عنه تنادى الوطنيون لوضع ميثاق الكتلة الوطنية ونظامها الأساسي فكان هاشم الأتاسي رئيساً وإبراهيم هنانو والجابري نائبين للرئيس.

لما رفضت الكتلة الوطنية معاهدة عام 1933، قامت المظاهرات في جميع أنحاء سوريا وجرت اعتقالات للوطنيين وكان من بينهم سعد الله الجابري حيث صدر عليه حكم بالسجن ثمانية أشهر.

اشتد الطغيان الفرنسي في سوريا، وأُغلقت مكاتب الكتلة الوطنية وعمت الاعتقالات ، واشتد الذعر وأضربت جميع المدن السورية، وأُلقي القبض مجدداً على الجابري ونفي إلى جزيرة (عين ديوار).

تجاه ما وصلت إليه سوريا من الاضطراب، استدعى الفرنسيون الوطنيين واتفقوا معهم على أن يرسلوا وفداً يمثل وطنيي البلاد إلى فرنسا للمفاوضة لعقد معاهدة، فكان الجابري عضواً في هذا الوفد، فصدر عفو عام عن السوريين وأُفرج عن الوطنيين وتمت معاهدة عام 1936م.

شغل الجابري وزارتي الداخلية ثم الخارجية في وزارة جميل مردم بك، في أول حكومة وطنية كان فيها هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية. لكن الفرنسيين أثاروا الفتن والنعرات الطائفية مما أدى إلى تعطيل الدستور وإنهاء الحكومة، فاستقال رئيس الجمهورية وكانت نهاية العهد الوطني.

بتعطيل الحياة الدستورية وإبعاد الوطنيين عن الحكم، زاد إمعان الفرنسيين في اضطهاد الوطنيين، فاستولوا على السلطة مباشرة و أنشأوا حكومة موالية لهم، وفي هذا الظرف وقعت حادثة جعلت سعد الله  وصحبه يغادرون سوريا كلاجئين إلى العراق، وذلك حينما وُعِد قاتل الوطني الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بالعفو عنه، إذا اعترف أنه كان مدفوعاً إلى القتل من قبل رجال الكتلة الوطنية: شكري القوتلي وسعد الله الجابري وجميل مردم بك،غير أن القضاء برأهم. ولم يعد سعد الله الجابري إلى سوريا إلا حينما دخلت الجيوش البريطانية سوريا بصحبة جيش فرنسا الحرة وأُعلن استقلال البلاد.

عندما انتُخب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية في 17/8/1943، تولى الجابري رئاسة وزارته. هذه الوزارة التي أدى عنادها الوطني إلى قيام الفرنسيين بعدوانهم على سورية عام 1945، وفي عهد وزارته أيضاً تم جلاء القوات الفرنسية عن البلاد.

كان سعد الله الجابري رئيس الوفد السوري في توقيع بروتوكول الإسكندرية، ورئيس وفدها في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام، كما حضر إعلان أنشاص لتأسيس الجامعة العربية.

مرض سعد الله الجابري في آخر زيارة له إلى مصر، حيث كان هناك لحضور مجلس الجامعة العربة عام 1947... فبقي في الإسكندرية للتداوي، إلا أن رئيس الجمهورية شكري القوتلي طلب منه الاستقالة من رئاسة الوزارة فاستقال.

رجع الجابري إلى مدينته حلب وقضى فيها بضعة أشهر، وما لبث أن وافاه الأجل في حزيران عام 1947.

انتقل الجابري إلى رحمته تعالى وعليه ديون كثيرة ! ؟ لأن شأنه شأن أغلب رجالات سورية آنذاك ، باع أملاكه من أجل الثورة وطرد المستعمر الفرنسي. كان الجابري كشكري القوتلي , و خالد العظم , و فارس الخوري  و هاشم أتاسي و إبراهيم هنانو و بقية رجالات الثورة و الوطن مخلصاً في خدمة  الوطن يصرف من ماله الخاص على وظيفته , ولم يكن يبحث عن امتيازات أو مكاسب، و كان يعتبر المسؤولية تكليفاً و ليست تشريفاً ، و خدمة للمواطنين و ليست تسلطاً على رقابهم و جيوبهم.

سعد الله الجابري ، ابن الشيخ عبد القادر لطفي الجابري مفتي حلب ، و ربيب بيت العلم والجاه والعز ، وابن العائلات العربية الحلبية العريقة و الغنية , و خريج أرقى الجامعات العثمانية و الألمانية ، و الذي تسلم أهم الوزارات في الدولة ( الداخلية و الخارجية ) و ترأس مجلس النواب و مجلس الوزراء ، مات و هو مديون !!؟؟ ،  لكنه بقي خالداً في أفئدة الوطن والمواطن لأنه كان يعلم أن كل شيء زائل وأن صفحات التاريخ تسجل العظماء في خانة البسطاء.