رسالة إلى من هزمت السرطان، وبدأت الحياة

رسالة إلى من هزمت السرطان،

وبدأت الحياة..

د. مازن صافي

من يصاب بمرض السرطان يشعر للوهلة الأولى بالحيرة والتوهان وتتدافع عنده الأفكار وتختصر عنده الكثير بل أغلبية الأحداث .... يذهب سريعا الى أبعد ما يمكن .. تكون الخشية الحقيقة هي أن يموت .. لهذا فالبعض يموت فعلا نتيجة التهديد النفسي بأنه قد انتهت حياته .. وربما يخرج من التجربة وبنفسية متعبة جدا تحتاج الى إعادة تهيئة ونقاهة .. نعم " الخشية ان أدفن حياً " هذا هو ملخص كل المشاعر السلبية والأفكار السوداء .. الخارجين من هذه التجارب يذكرون بعد استعادة الثقة بأنفسهم أن تسعا وتسعين في المائة من المخاوف التي ساورتهم لن تحدث قط .. أشياء كثيرة كانت تفاصيلها معقدة تحولت " بعد الشفاء " إلى تقدير آخر .. إنها أمور سخيفة أضعفت فينا ملكة التفكير والقدرة على العمل .. لم يكن هناك حضور لحقيقة مثبتة أن الموت والحياة بيد الله وما بينهما يمكننا أن نتحكم فيه بصورة أو بأخرى .. المرض مرحلة انتقالية وليست نهائية .. أحيانا تسحب البساط من تحتنا فتوقعنا في الأوهام .. وأحيانا تعزز فينا ثقافة التحدي .. التحدي يبدأ من حقيقة واحدة وهي لنستفيد من السنوات الباقية من عمرنا .. نخرج من أزمة المرض باتخاذ قرارات صعبة .. مواجهة القلق والاهتياج والمخاوف والتخيلات بالحقائق بأنه ربما نبقى أحياء أصحاء فلماذا ندفن حياتنا بأيدينا .. تجربة لا تقاس بالأداء النظري ... بل هناك عوامل كثيرة تقابل الجهة الأخرى من المعادلة .. الإرادة الحقيقية للصمود والبقاء في الحياة .. المقدرة بمعالجة الأمور المتلاحقة والتي أحيانا تواجه نفذ الصبر والشعور بفقدان الأهمية الوجدانية .. وأخيرا أن نتأقلم مع الظروف ومع ظروف ومراحل المرض الملموسة والمشقة والعناء الذي يدفع الجسد ثمن تلك الضريبة القاسية والمؤلمة جدا .. تكاليف باهظة تترك أثرها على الآخرين وعلى الذين يعانون من نفس التجربة .. هناك سوف نسمع من يقول " أنت عظيمة " .. وهناك من " يبكي لنا وعنا ويمنحنا الشفقة بلا حدود " ..

هنا كانت سرعة ملحوظة بقبول الأمر الواقع .. فهذا أمر لم يكن منه بد ..سرعة مدهشة حقا .. توطدت النفس على الرضى بهذا الأمر الواقع ,, وهذا يمهد الى نسيانه مطلقا .. وكان هذا خطوة أساسية ورئيسة وهامة جدا نحو التغلب على ما يكتنف هذا الأمر الواقع من صعاب ..

نعم لقد أرهقها الحزن .. ضعضع كيانها ..كانت الحياة بين الخيال والحقيقة .. جاملتها بكل ما يمكن من أوراق المجاملات .. جمال ودلع وأنوثة وتحرر داخلي .. في انقلاب مفاجئ وغير مرتب له .. اقتحم المرض كل شيء .. هذا المكان بدا ينهار .. هذا الجمال بدأ يذهب إلى جانب آخر ..أعماق تذوي كالوردة المتفتحة تهصرها يد غشوم .. وهي تنعم بربيع الجسد والروح .. كان متوقعا أن تتفرغ لدموعها ولوعتها .. لكنها اختارت طريق آخر .. طريق النجاة من القلق .. فدخلت الحياة الجديدة بكل ثقة برغم شبح المرض القاهر للنفس والجسد والأحلام والذكريات .. أخفت أحزانها تحت قناع التزين ضد مظاهر المرض حفاظا على خصوصيتها .. وتواصل الحياة في الجانب الآخر بابتسامة ناضجة .. لقد رضيت بكل شيء .. لقد هزمت عاصفة المرض .. عاصفة نفسية اجتاحت كل شيء .. أعتى عاصفة يمكن ان تمر بها بدون موعد مسبق وبدون موعد انتهاء .. مفترق طرق للحياة .. أكون او لا أكون .. الحد الأقصى للخسارة يفوق وبكثير الحد الادنى من الأمل ,,, تسميم الجسد بالعلاج بتوقيع القبول دافعه نزع حرية الجسد من احتلال المرض .. في هذه المعركة كان لابد من تقدير الأشياء بقيمها الصحيحة لمنح النفس سلاحا اسمه " البقاء " .. سر عظيم من أسرار الطمأنينة والذهاب إلى المعركة براحة ذهنية .. الآن وهي تندفع للدخول في الحياة الجديدة " طفلة الإرادة " ... عليها ألا تنظر للخلف .. وأن تحول دون إراقة اللبن ان استطاعت .. فما أريق قد أريق وذهب إلى النهاية .. كثير من الأشياء تذهب بلا سبب .. كما المرض يداهمنا أحيانا بلا سبب .. كما الموت يداهم صديق عزيز علينا صباح يوم كنا قبله في سهرة جميله معه .. تحدث الأشياء لحكمة لا يعلمها إلا الله .. نجهل أسبابها لكن ربما في زمن قادم تكتشف أن ما حدث كان لإحداث هذا الأمر تحديدا .. لهذا علينا أن ننسى أن اللبن قد اريق وان لا نذهب إلى ابعد من ذلك طالما لا نستطيع الحيلولة دون أن يراق أو يحدث .. جميعا يرتكب الكثير من الحماقات والأخطاء .. لا أحد يخلق معصوما من الخطأ ...لذلك لنترك الأمور يعالجها الوقت وحكمة الحدث ولا نحاول أن ننشر النشارة .. فما فات من أخطاء أو وجع لا تقنع الحسرة في أن تعيده ولا يوجد قوة في العالم كانت تستطيع ان تمنعه .. جميعا تخطيء في تقدير الظروف وقراءة الأمور .. لهذا لنحتكم دوما إلى إرادة الله فينا .. وان حياتنا من صنع أفكارنا .. معركة الحياة تتمثل في مواجهة المشكلات لا ان نصنع قلق نوهم أنفسنا أنه يعالج مشكلاتنا ..

بكل تأكيد إنها سوف تصل الى القمة .. قمة الاعتزاز بالنفس والانتصار على المرض والنجاح في الاختبار القاسي والجرح الذي لازمها .. لقد كان تفكيرها ايجابيا ، فقد رفضت من البداية أن تستسلم للمرض وهزيمة أصابت جمالها الذي كان مصدر قوتها أمام الطلاب والطالبات وفي مجتمع عملها وبين اهلها وأمام مرآتها .. كانت قوة فلم تنل منها خيبة الأمل .. كانت حكيمة فاتخذت من هذه المحنة التي مرت بها حنكة لا غناء عنها لكل من أراد أن يصل الى القمة .. لقد امتازت بانها تملك سيكولوجية القوة .. القوة الداخلية والقوة الخارجية .. لقد آمنت أن ما أصابها اصاب الجسد فقط .. فحين امتلأت روحها بالصحة الذهنية وقوة المواجهة وصنع أصدقاء جدد وإعلان لحظة البداية من جديد .. غدت صحيحة قوة .. عندما يسيطر العقل على الجسم يصبح كل شيء ملكنا نحن .. ان التجربة التي خاصتها لم تكمن في سر المرض أو اسمه او تفاصيل مراحله أو نوعية علاجه وآثار تلك العلاجات .. فكل شخص متخصص بعيدا عن المرض يمكنه أن يفيدك بثقافة علية المستوى حول كل شيء عن المرض .. قصة طبية مشوقة ما لم تكن انت جزء منها .. ان التجربة لم تكن سر مرضها .. وإنما موقفها من المرض والتجربة واتجاهها الذهني حيال ذلك هو الذي منحها النجاح وبامتياز .. انت من تجلب السعادة لنفسك وأنت من تغرقها في شقاء لا نهاية له ..

في مراحل حياة الإنسان الحساسة حيث مرحلة المراهقة تتشكل قوة الاتصال مع المجتمع ومع معالجة الأزمات والحوادث والأحداث الفجائية .. المراهق يعيش الوحدة مع أفكاره .. يحتاج الى من يسانده ، يقف معه ، يرشده .. فإن وجد من يفعل كل هذا مع الاحتفاظ بملكيته المطلقة لحياته في المراهقة فإنه يفسح المجال بكل طواعية وقبول وسعادة .. إن من أهم ما يحتاجه المراهق هو إشباع الحاجة النفسية التي جزء منها الحاجة الجسدية .. فهو بحاجة ماسة للأخذ والعطاء .. الحاجة للتقدير .. الحاجة لأن يسمعه أحد .. لأن يمدحه ويقدر فيه صفات معينة وميزات خاصة .. لمن يتعاطف معه .. ويحل له مشكلاته .. لمن يستحسن فيه شيئا وصفات معينة .. يمكن ان تكون هذه صفات في الجسد .. او الأخلاق .. المراهق يحتاج الى الحب .. فحين يتشتت المراخق او يقمع هناك يكون الاختيار مشتت ومقموع .. والنتائج كارثية .. وسوف يعيش بعد ذلك في قوقعة المشاعر السلبية والمخاوف والقلق الدائم والتشاؤم والتنبو بالكوارث الممزوجة بالأوهام والخيالات .. وفي المقابل هو من يبحث عمن يشاركه هذه المشاعر والأفعال السلبية جسديا وذهنيا ..

بدايات المرض عند من اجتازوا مرحلة المراهقة بنجاح هي مراهقة جديدة بتفاصيل الحاجة للإشباع النفسي والذهني وسلامة العقل مقابل التغيرات التي تحدث في الجسد .. حتما كما يحتاج المراهق من يسانده ويفهمه ويرشده ليكون له عالمه القادم .. يحتاج أيضا ألا يعود الى أي سلبية لازمته في مراهقته الأولى .. هناك النتائج ستكون عبارة عن قرارات مصيرية .. فمعركة المرض هي معركة الحياة نفسها ..