العيد
د. خنساء محمد أديب الجاجي
(لم أعد أعرف شيئا في هذه الدنيا ) بهذه الكلمات خاطبت الطفلة الصغيرة ذات السبعة أعوام نفسها، أليس العيد وقتاً للفرح والسرور؟! أليس جميع الناس يجهزون أنفسهم قبل أيام للاستمتاع بهذه الأيام القليلة التي يسمونها عيد؟! إذن مابال الدنيا تغيرت؟!
في السنوات الماضية كان والداي يستعدان معنا للعيد فكان التشجيع لنا نحن الأطفال تحت سن العاشرة بالصيام في أيام رمضان، والتدرج في الالتزام به فنبدأ الصيام من الصباح حتى الظهر لمن كان في بداية تعوده على الصيام، ثم يوماً بعد يوم يزداد الوقت المحدد للصيام ليصل في أواخر أيام رمضان إلى المغرب، وعندما يحل العيد علينا نستطيع أن نقنع أنفسنا بأننا قد دفعنا ثمناً مقدماً للعيد ونستحق بجدارة أن نستمتع بالعيد، ونستحق كذلك أن نتجول في الأسواق قبله لشراء ملابس أو ألعاب كنا ننتظر العيد للحصول عليها، لأننا نعرف بعقلية الطفل الماكرة – إن كان للطفل أن يكون ماكراً- أن الوالدين الحبيبين لن يرفضا لنا طلباً ونحن صائمون، وأنهما بحنانهما وعطفهما سيتساهلان كثيراً في التسوق وسيحاولان أن يلبيا جميع مطالبنا مع مافي ذلك من إثقال على ميزانية البيت المتواضعة وإرهاق لها إلا أن الحب والحنان في هذه الأيام لهما الثقل الأرجح، ونحن بمكرنا الطفولي كنا ننتهز هذا الضعف الأبوي ونستغله قدر استطاعتنا.
هذا أخي الأكبر قد انشغل بدراجته الجديدة، وتلك أختي الصغرى قد غابت عما حولها في ترتيبها للأطباق الصغيرة في مطبخها الحديث الذي جهزته للعبتها الشقراء، أما أخي الأصغر فهو لازال منذ يومين قبل العيد يضع حذاءه الجديد اللامع تحت سريره ليطمئن عليه قبل نومه وليسارع بعد استيقاظه للتأكد من أنه لازال في مكانه، مع أننا قمنا بطمأنته أن مقاس حذائه لا يناسب أياً منا وأن ليس من الممكن أن يسلبه إياه أحد، إلا أنه يبدو قد وجد لذة في تلك المتابعة لحذائه الجديد صباحاً ومساءً. وكنت دائماً أنشغل وأتلذذ برؤية البسمة المتسامحة المتفهمة في عيني والدي عندما يرى مانفعله استعداداً للعيد، ولازلت أذكر حنان الوالدة واهتمامها وتذكيرها لنا بما قد نحتاجه في أيام العيد لكي لا يعكر صفو تلك الأيام الحاجة لأي شيئ، فهي تهتم بكل ما يتعلق بملابسنا وأحذيتنا وألعابنا وشرائط شعرنا ... وغيرها مما كنا ننتظر العيد للحصول عليه...
وإلى الآن فكل شيئ طبيعي ومنطقي ... ولكن مابالي أرى رمضان هذا كأنه مختلف عن كل رمضان مضى.. ولا أدري ماهو السبب؟! فكل من حولي كانوا ينتظرون ظهور القمر (الهلال) كما كانوا من قبل.. وجميعهم بدؤوا في اليوم التالي بالصيام كذلك.. وأرى الآن كما كنت أرى في الماضي أن الوالدين يشجعاننا جميعاً نحن الأطفال تحت سن العاشرة على الصيام ويحاولان تدريبنا على الصبر في مواجهة الجوع والعطش .. وهاهي أيام العشر الأواخر من رمضان قد بدأت وبدأت التحضيرات للعيد تتسارع وتيرتها وتتسارع لهفتنا للاحتفال بالعيد، ولكن لماذا لا أشعر بتلك اللذة التي كنتُ أحسها عادة؟!ولماذا ألمح شيئاً لا أستطيع فهمه في عيون والدي ووالدتي؟! شيئ لم أكن ألمحه من قبل؟! ومابالي أرى الملابس والألعاب التي حصلت عليها هذا العيد لا تعطيني نفس تلك السعادة والسرور اللذين كنت أحسهما سابقاً؟
دخلتُ أمس على أمي في غرفتها ورأيتها تكفكف دموعاً حاولت إخفاءها عني... وسألتها عما بها في لهفة وقلق فكان جوابها أن هناك قشة دخلت في عينيها فانهمرت دموعها؟ ولكن هل يعقل أن تلك القشة قد انتقلت إلى عيني والدي اليوم؟ فقد لمحته اليوم عندما كان عائداً من صلاة العيد يحاول كذلك إخفاء تلك الدموع، ولا أدري ما الذي منعني من التصرف بطيشي الطفولي كما هي عادتي أن أندفع إلى سؤاله عما به... شيئ ما جعلني أتوقف وأجمد في مكاني... فتلك أمس في عيون أمي لم تكن قشة... وهذه اليوم في عيون والدي ليست قشة كذلك... وبقيت هذه القشة وهذه الدموع عصية على فهمي لسنوات ... إلى أن أذاقتني السنون معنى الحنين في أيام العيد إلى الأحبة الذين بقوا في الوطن غرباء ونحن الذين تركنا بلدنا قسراً لنعيش الغربة نفسها أو ما هو أشد منها.....
واليوم كلي أمل أن العيد هذه السنة في بلدي الجريح سوريا سيكون له طعم آخر .. مختلف عن طعم تلك المرارة والحزن اللذين صاحبا أعيادنا طوال فترة غربتنا...وسيكون لهذا العيد نكهة خاصة .. نكهة الحرية والانعتاق من الظلم والاضطهاد اللذين استنزفا قوة شعبنا البطل ... وأثخنا في جسد أهلنا جراحاً... وأمعنا في قتل وتعذيب الكثير الكثير من أحبائنا،،، فأهلاً بك أيها العيد وسهلاً ... وأهلاً بما تحمله من نصر وفتح بإذن الله.