الأرض بتتكلم عربي

زينب الخالدي

كاتبة وشاعرة أردنية

كنت مسترخية فوق فراشي بعد إرهاق يوم عمل متعب .. عندما تناهى إلى مسمعي من صالة الجلوس  صوت سيد مكاوي يردد الأرض بتتكلم عربي ...

الأ رض الأرض ... أيقظتني الأغنيةواستنفرت حواسي وكأنني أسمعها للمرة الأولى- وكل شيء للمرة الأولى له مذاق وتأثيرخاص في النفس-   وحملتني في طيات كلماتها ولحنها إلى الماضي ،إلى الزمن الجميل يوم كنا نقف في الطابورالصباحي نهتف بالنشيد الوطني،ونختم تحية العلم بصيحة واحدة كانت تزلزل الأرض تحت أقدامنا ويرتج لصداهاالمكان كانت الصرخة تنطلق من قلوبنا قبل حناجرنا فقد اختزلت أحلامنا وجسدت رغباتنا "أمتنا أمة عربية واحدة ..من المحيط إلى الخليج .. نموت لتحيا  " يرتج المكان من حولنا وتهتز قلوبنا طرباً وتتراقص أحلامنا فرحاً وترفرف أرواحنا زهواً مع رفرفة العلم السامق الذي تسمرت عيوننا عليه ترمقه وهو يسافر في الأفق بكل الفخر والاعتزازوالكبرياء ...كنا على صغر أحجامنا نطاول الجبال شموخاً بقاماتنا ورؤوسنا تكاد تلامس عنان السماء ....كانت أحلامنا غضة بسيطة بريئة مليئة بالأمل والتفاؤل كنا نشعر بأن كل الأمور ممكنة ولاشيء مستحيل في قاموسنا أو يستعصي على إرادتناالغضة الوليدةالتي ضخمناهابأحلامنا فأخذت حجماً أكبر من حجمها الحقيقي في الواقع...  ليس لنا من دنيانا إلا أن نسابق أعمارنا لنبدو أكبر من سننا في ملبسنا وسلوكنا في طريقة كلامنا  .. و في الانخراط حتى في بعض النشاطات السياسية التي تشعرنا بالنضوج والتميز على أقراننا، وحتى في إقحام أنفسنا فيما نعلم وفيما لانعلم بأحاديث السياسة ومايدور في أروقتها من مؤتمرات بل مؤامرات واتفاقيات وأدوار، كنا لانعي من الحقائق إلا الغلاف البراق أما مافي الداخل وما هو مكتوب بالحبر الأسود  فيظل خفياً ولواطلعنا عليه لأنه مكتوب بحبر سري ولأننا كنا نقرأ مافوق السطور ولا علم أوخبر لنا فيما يكون مابين السطوروالذي اكتشفنا فيما بعد أننا كنا مخدوعين فيه كثيراً فلم تكن الصورة التي رسمناها ببراءة الأطفال هي الصورة الصحيحة ولا الكلمة المنطوقة خبراً أو المقروءة على الورق المثقل بالأكاذيب تحمل المعاني النقـية التي كانت تتبادر إلى أذهاننا للوهلة الأولى ، كانت ملغومة وتحمل في طياتها ألف معنى ومعنى ،زئبقية يسهل التهرب منها إلى غيرها مموهة يصعب استبانة ملامحها ، مطاطية تسحبك معها طولاً وعرضاً... خبرة وحنكة في صياغة الكلام حسب الحاجة والوقت والظرف ،حسب الطلب ... ولهذا لم يكن لأي شيء مما كتب قيمة ومعنى ولكن بالرغم من أنه زمن الخديعة وزمن الهزيمة إلا أنه زمن جميل لاأدري لماذا؟! ألأنه ارتحل فأحسسنا بقيمته ونحن شعوب فطرنا على عدم تقدير الأشياء إلا بعد فقدها ؟ أم لأن فيه نكهة البؤس والأسى التي خلقت فينا إرادة التحدي ،مزيج من مشاعر شتى متناقضة غلفت تكويننا... إحساس بالانكسار والألم والأمل والتحدي ،إحساس بالزهو قوي بالقومية العربية طغى على كل الأحاسيس السلبية في ذلك الوقت لذلك فقد حفرت هذه الأحاسيس فينا أخاديد لا يمكن محوها وطمسها من نفوسنا ولايمكن نسيانهالأنهاامتزجت بدمائنا،صبغتنا بصبغة متميزة، وشكلتنا تشكيلاً فريداً.

قد لا يكون ذاك الزمن هو الأفضل والأمثل وقد يكون الأسوأنسبياً، لكنه يمثل بالنسبة لنا شيئاً مهماً  لأننا نعتبره زمن التهيئة والتمهيد  لما نحن فيه الآن ...حيث مهدنا فيه الطريق و أزلنا الصخور من الأرض هيئنا التربة سمدناها ورويناها بدمائنا ودموعنا، سيجناها بأحلامنا وأمانينا . وحرثُ الأمس أثمر حصاد اليوم ثورات وطنية غيرت وجه العالم العربي شئنا أم أبينا، وهاهي الأيام التي ناءت بحملها وأثقالها تضع حملهابعد مخاض صعـب مولوداًخرج إلى النور لكنه يحتاج إلى الرعاية والاهتمام كي يشتد عوده ويقوى ويكون قادراً على إثبات نفسه ووجوده لقد كانت الثورات إيذاناً بالقطاف والحصاد لزمن القهر والمعاناة ،انتهت السنوات العجاف وحان وقت الرخاء والعطاء والخصب والنماء ، فالأرض لاتُخرج مافي داخلها سريعا إنها تختزنه تحتضن وليدها انتظاراً لمرحلة المخاض والولادة تهيئ له التربة تخصبها وتزيل مابها من شوائب وحجارة تعيق خروج المولود  الجديد إلى النور.  قد تبقى الأجنة فيها فترة طويلةقبل أن ترى النور تنتظر الوقت المناسب لإخراج ما بداخلهاثم يأتي يوم تتحرك فيه البذور لتتوالد فوق سطح التربةسنابل خير وبركة  ترتفع شامخة مزهوة مبتسمة وتظهر كأجمل ماتكون ثوراتٍ مضمخةٍ بشذى الشها دة والتضحيات هذه الثورات  التي أكدت روابط الوحدة العربية  التي كثيراً ماتغنينا بهافي مدارسنا ، وهاهو واقعنا يؤكدعلى وجودها فعلاً لاقولاً ،كثيراً ما تشدقنا بها وحفظناها عن ظهر قلب في دروس التربية الوطنية وكنا نشعر بثقل وعبء حفظها وننوء تحت وطأة الدهشة في حفظ ما لايلمس أو يطبق على أرض الواقع، وكثيراً ما كان يتردد هذا التساؤل على أذهانناوألسنتنامغلفاً بالاستنكار:

 وأين هي هذه الروابط ؟!

 لقد جاءت  الثورات العربية لتزيل هذه الدهشة وهذا الاستنكارفما كان محض تنظيرفي الماضي أصبح الآن منظوراً في مرمى أهداف الثورات التي اشتعل أوارها بدءاً من تونس مروراً ببلدان عربية أخرى نادت وتنادي بالحرية والديمقراطية وقدمت في سبيل ذلك الكثير من التضحيات فقد بذلت الدماءوالأرواح الغالية رخيصة في سبيل الهدف الأغلى والأسمى وهو الحرية بالرغم من البطش والقمع لكن إرادة الشعوب لاتلين فهي أقوى وأصلب من كل أساليب البطش والتنكيل ...والمفارقة العجيبة ان فرق الموت التي كانت تحصد أرواحهم  كانت تخيرهم بين حرية دامية وعبودية آمنة فأي الأمرين يختارالأحرار؟! وسريعاً ماتأتي الإجابة بلون الدم ووهج الشمس وملمس الصخور حينما يكتب الأحراروالشهداء بالدم الأحمر القاني  مالم يستطع كتابته الكبار بحبرهم الأسود فالدم أبلغ في التعبير وأصدق في الإجابة لقد كتبواحروف الحرية من دفق دمائهم وهجاً من نور الشمس لاينطفئ  رسَّخواجذوروحدتناالتي عجزناعن تحقيقها  حينما بُحت أصواتنا ونحن ننادي بها عقوداً من الزمان

 " وحدتنا من المحيط إلى الخليج " لقد تجلت الوحدة في هذا التعاضد وهذا التلاحم الرائع الذي تجلى  بين الشعوب العربية على امتدادمساحةالوطن الواقع في سويداء القلب المنعكس على مرايا العينين والعائم فوق بحار الشوق الممتدة بلا شطآن.....والذي كان من إفرازاته  فتح معبر رفح الذي أكد على أن الدم العربي لن يتحول يوماً ما إلى نفط يـُتاجر به ولا إلى غاز يباع بأبخس الأثمان ولا إلى ماء يتنازع عليه ،إنه هذا السائل الحيوي الذي يحمل في لزوجته

 "جين "العروبة وبصمة الأخوة ورائحة الشهادة وعبق التاريخ وعظمة من يجري هذا السائل المبارك في شرايينه، لقد كان من  ثمارها وحدة المشاعر بين أبناء الضاد والتي تجلت بأروع وأبهى صورها في ذكرى النكبة والنكسة حيث هبت  الجماهير العربية المتعطشة للحرية لتخترق الأسيجة الشائكة التي انغرست في لحومهم فتقاطرت دماؤهم على ذرات التراب التي رسم عليها الغاصبون الحدود بأوهامهم ظناً منهم أنهم سيكونون قادرين على فصل الروح عن الجسد ... فاخترقوهابأجسادهم وأرواحهم بل ألغوها لأنه لاوجود لها في الأصل  .... وليؤكدوا على وحدة الهدف ووحدة المصير وحدة الآلام والآمال ووحدة المشاعر وليثبتوا للعالم أجمع أن فلسطين التي يحاولون إقصاءها وتحييدهاوتحويل قضيتها من قضية عربية إسلامية إلى قضية إقليمية للانفراد بالشعب الفلسطيني في الداخل ومحاولة تمييع وطمس قضية اللاجئين في الخارج ليست إلا جزءاً مهماًفي جسد العروبة  بل هي قلب العروبة النابض ولن يستطيع أحد كائناً من كان  أن يبترها من هذا الجسد ولا إخراجها من النفوس التي رضعت لبن حبها وتقديسها لقد  حرمونا منها، من أن نكحل عيوننا برؤيتها كل صباح  وهي تغتسل بنور الشمس وأجبرونا على الرحيل عنها قسراًفأظلمت صباحاتنا لأن الشمس صارت في حداد ...رقصوا على جراحنا وأقاموا دولتهم وفوق أكوام جثث الضحايا شربوا أنخابهم وقهقهوا ولكنهم ماعلموا أنهم سيشربون أنخاب هزيمتهم قريباًوأنهم سيرقصون رقصتهم الأخيرة قبل إقامة مأتمهم

ليصبحوانسياً منسياًتلفظهم الحياة كما لفظتهم من قبل كل دول العالم .

قدنتوه أحياناً عن دربنا لكن سرعان مانستعيد بوصلة اتجاهناالمبرمجة نحو "القدس "عاصمة أبدية لدولتنا فلسطين ، وكامل التراب الفلسطيني وطناً لنا غير منقوص ذرة من ترابه ... لن يفرضوا وجودهم علينامهما فعلوا فمصيرهم هم يعرفونه أكثر مناولابد لكل ليل مهما طال من  نهاية ... التمسك بالثوابت وعدم التفريط بهاأو التخلي عنهاهومايجب أن نحرص عليه كل الحرص وألا نفرط به ، وهوما أكدت عليه كل الفصائل وإن تباينت في آرائهاواتجاهاتها لكنها كلها بلااستثناءات تجتمع عند الضرورة تحت قبة الصخرة وفي ساحات المسجد الأقصى تجمعها حروف ستة  لايسقط منها حرف واحد أبداً

 " فلسطين " كلمة السرالتي لاينفك من تأثير سحرها  أحد ، هذا ما أكدته  الوحدة واللحمة العربية والفلسطينية خاصة و التي تبلورت بالمصالحة الوطنية بين فتح وحماس والتي أثبتت أنها هي الجدار الذي ستتحطم عليه عربدة الصهاينة  وصلفهم حينما راهنوا على أن الكبارسيموتون والصغارسينسون وهاهم الصغار غدوا رجالاً كباراً ولم ينسوا. فكيف ينسون وجودهم وكيانهم ووجدانهم ؟!.. من ذا الذي ينسى روحه ؟؟! و كيف يمكن للإنسان أن يعيش جسداً بلاروح كيف ستدب الحياة في أوصاله؟!..هم لم ينسواولن ينسوا بل  توارثوا قضيتهم و مفتاح بيتهم  حفيداً عن أب عن جد وهم بدورهم سيورثون ذلك لأبنائهم وأحفادهم إلى أن يأتي يوم الثأر والقصاص ... وصايا الأمهات والجدات وقصص الوطن حاضرة بقوة في أذهانهم وأحاديثهم عن مرافئ الحنين المرسومة في أذهانهم والتي لا تغيب عن ناظرهم  لقد اقتحموا  السياج الشائك الذي لم يقف حائلاً أمام شوقهم لوطنهم وسيقتحمون كل ما يقف أمام إرادتهم وعزيمتهم التي لاتلين لاشيء بقادر على أن يحجز الروح بعيداً عن الوطن ضحوا بأرواحهم التي فاضت على ذرات التراب الذي اختلطت وامتزجت بدمائهم التي قدموهامهراً للحرية عروس الشهداء واسترخصوهالأجل عيون الوطن الأغلى والأسمى .وستبقى التضحيات وأعراس الشهداءتترى

مادامت فلسطين هناك يلفها  الضباب رابضةخلف أسوارها تنتظرفارسها ومحررها..صلاحها وحطينها  فهل سيطول الانتظار؟!