إما الآن وإلا فلا
إيلاف العباسي
[email protected]
جميعنا بني البشر تراودنا من الأفكار ما تشغلنا عن الأفضل, وجميعنا بني البشر تأتينا من المساوئ ما تُبعدنا عن الحق والصواب, كذلك جميعنا من تعصف بنا عواصف الأيام وأزمات الدهر, والقليل القليل جداً من يسلم منها.
بكل تأكيد وبكل حال وبكل زمانٍ ومكان فإن بني آدم بمستوى طبقاتهم وأعمارهم, بكل جنسياتهم وثقافاتهم, بكل دياناتهم ومعتقداتهم يمرون بظروفٍ ومواقف, بأزماتٍ وكروب, بفتنٍ ومحن.
كل هذه الأمور وهذه العواصف تجعل من شخصياتهم تتغير بتغير الزمان والمكان, وبتغير الأحداث ومجرياتها.
فالعيش في الغربة والبعد عن الوطن يعصف بشخصية الشخص وصفاته , معاينة واقع الأمة والعيش في أحاسيسها يُغير في شخصية الفرد , وظيفة الشخص , زواج الشخص , غنى الشخص , فقر الشخص , كل هذا وذاك من الأمور وغيرها يجعل من الشخص متقلب الصفات متغير الطباع , سواءٌ كانت بناحية السلب أو الإيجاب .
ولكن . . .
مع كل هذه التغيرات وهذه العواصف التي تعصف بالشخص والفرد يبقى هناك دوماً شيءٌ في الفرد مما لا يجب ولا يمكن أن يتغير بحالٍ من الأحوال, ذاك الشيء هو: إصراره على البحث عن الصواب, واتخاذ القرار للأفضل.
من الجميل في شخصية ذاك الرجل أو تلك المرأة أن يتمتع كل واحدٍ منهما بشيء يتميز به أصحاب الشخصيات العظيمة , والعقول الكبيرة , ذاك الذي يجب أن يكون في كل بني آدم , فضلاً عن أن يكون مسلماً على دين ونهج الله تعالى , وذاك الشيء هو الذي أعتقد أننا نفتقده كثيراً في فرد الأمة ومجتمعها . وذاك الشيء أقصد به هو
الثبات على الحق والبحث عنه , والشجاعة في التغيير .
إن الحياة التي نعيش فيها وما بها من عواصف تعصف بنا تجعلنا بكل تأكيد بحاجة لوقفة مع النفس, فالشخص يُمسي مؤمناً ويُمسي كافراً والعكس كذلك.
كل هذا يجعلنا في محنة الصابرين وبلاء المسلمين , فالإصرار على الحق أو البحث عنه والسير في ركبه والتنور بهداه يجعلنا نحتاج أن نتخذ دوماً قرارات قد تكون صعبة في حياتنا , منها ذاك القرار الذي يجعلنا نقوم بتغيير صفةٍ نشأنا عليها , أو ذاك القرار الذي يجعلنا نترك خصلةٍ تعشقها نفوسنا وتتلذذ بها ,
أو غير ذلك من القرارات التي تجعلنا نقوم بشيءٍ مُغاير لطبعنا أو قرار نتخذه مخالفٌ لهوانا وهفواتنا , بكل تأكيد ذلك من الأمور الصعبة في الحياة , ولكن أمام عظمة الشخص وعقلانيته , ,وإيمانه بالبحث عن الأفضل والإسراع نحو الأكرم تهون على النفوس من هذا النوع ذاك القرار . فقرار التغيير من أصعب القرار حتى لو أيقن الشخص بفائدته ونفعه.
ما أريد قوله وما أُلّمح أليه هو أننا بحاجة لشجاعةٍ من نوعٍ آخر في حياتنا هذه الأيام,والشجاعة التي أقصدها هي من ذاك النوع الذي يجعلنا نصبر على شهوات أنفسنا , ونترك هفوات عقولنا وما تتمناه قلوبنا , يجب أن نتحلى بتلك الشجاعة التي
نُسلّم فيها : أنفسنا , أرواحنا , عقولنا , قلوبنا , هوى أفئدتنا لله تعالى ونطرح عنا وعن شخصيتنا ما تسعى له رغباتنا وأحاسيسنا , فكم منا من الناس من يعرف أن فيه تلك الصفة البذيئة والخصلة القبيحة , والأمر الذي يذمه الناس ويُحرمه الشرع , ولكن لم يكن في الكثير منا
الشجاعة المطلوبة كي نترك هذه الأمور أو نُخفف منها شيئاً فشيئاً .
أرجع وأكرر وأقول إن قرار التغيير ليس بالأمر السهل وليس بالموضوع الهيّن على النفوس , ولكن حينما
تتعلق نفوسنا بالله تعالى , ونترك شهوات قلوبنا وهفوات عقولنا أمام ما يُريده الله تعالى ويأمر به فإن هذا التغيير من أسهل ما يكون , بل في وقتها أقوله جازماً سنشعر بلذة هذا التغيير , لأنه دخل في مرحلة العبادة لله تعالى والنية الخالصة التي من أجلها سارعنا للتغير وجاهدنا من أجله .
فالإيمان بالله تعالى ومحبته والتعلق به يُهوّن علينا كل الصعاب ويُخفف علينا كل الأزمات , ويُجاوز بنا كل مراحل التعب والمشقات التي نتخوف أو نعاني منها .
لقد بات التغيير في شخصياتنا وصفاتنا من متطلبات الحياة , ليس كي نسير بأنفسنا نحو هدف الصواب أو غاية الحق فقط بل أيضاً كي نسير بهذه الأمة نحو الأفضل ونحاول أن نلتقطها من دائرة الأمم المتخلفة والشعوب الجاهلة , فالتغيير يبدأ مني ومنك , ثم ممن حولك من أهلك , ثم من دائرتك المقربة من أهلٍ وأصدقاء , وهكذا تتوسع دائرة التغيير حتى تصل إلى أعلى الهرم في الأمة , ليتشكل بعد ذلك جيل النصر والتمكين الذي وعدنا الله , ووعد الله به
الأمة بأن يُمكّن لهم ويستخلفهم في الأرض .
فالتغيير يبدأ منك أولاً ليشمل باقي شرائح وأركان المجتمع الأخرى
وما أحلى تلك النفس التي تأبى إلا أن تعيش في دائرة محاسبة النفس اليومية أو الأسبوعية , بل وحتى الشهرية , تلك النفوس التي جعلت لها في يومها أو خلال أسبوعها أو بعد مضي شهرها جدولاً ووقتاً كي تجلس مع نفسها لترى ما فعلته وقامت به طوال الأيام الماضية , لا من أجل الترف وتضييع الأوقات بل من أجل محاسبة النفس على التقصير وتأنيبها على المخالفات وتشجيعها على الصالحات والأمور الجيدة التي قام بها .
هكذا كان صحب رسول الله وسلف الأمة الكرام , ولهذا ملكوا الدنيا بمشارقها ومغاربها وأوصلوا الإسلام شرقاً وغرباً حينما غيّروا من أنفسهم أولاً وانطلقوا يُغيرون معالم الجهل والتخلف في المجتمع مما حولهم , فسارت خيولهم تسرح في بلاد الروم وتدكّ حصون كسرى ودولته المجوسية , ولم يأتي ذلك عن فراغ , بل جاء لصفاء نفوسهم وجمال صفاتهم وروعة قلوبهم وما تحتويه من صفات الخير والصلاح والإصلاح .
إن الصلاح الأكبر في الأمة يبدأ من قلوبنا, فإذا صلح القلب صلح الجسد ومن ثم صلحت الأمة, والعكس كذلك صحيح.
آن أوان التغيير في حياتنا , التغيير بما تتطلبه الحياة من صفات الخير وبذر الصالحات في أيامنا كي نحصد ثمر السعادة في دنيانا قبل آخرتنا .
آن أوان التغيير وأن نكون تلك الشخصية التي تأبى إلا أن تعيش عيش السعداء الأحرار عن ضغائن النفوس وحماقات التخلف وجهالات الأعراف .
آن أوان التغيير كي نتلمس أخطاء ما فينا ونقوم بتغييرها لما يُسعد دنيانا ويُنجينا في آخرتنا .
آن أوان التغيير كي نركب في سفينة النجاة التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم قيادتها لصحبه الكرام , وجيلاً من بعد جيل تولى قيادتها وتوجيه شراعها علماء الأمة وكبار رموزها , وهاهي الآن تسير متلاطمة الأمواج في بحرٍ هائج ليس له من سكون , وآن لنا أن نركب هذه السفينة ونرمم بناءها ونأخذ بقيادتها نحو بر الأمان , ونرفع شراعها الذي تبلى تحت
ضربات الكافرين ومن معهم من زنادقة الأمة ومنافقيها .
آن أوان التغيير الذي يُوصل بنا إلى رفع الهمة وبناء العزيمة, وإرجاع الأمة لسالف عهدها وماضي زمانها , نُعيد ترميم ما تم هدمه من أخلاقياتها ونرفع رايات عزها وننشر أخبار نصرها .
إذا كان التغيير يبدأ بخطوة, فالخطوة تكون منك , فلا تتردد في ذلك وكن شجاعاً وقل إما الآن وإلا فلا .
آية قرآنية : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (
دعاء نبوي: اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على طاعتك