مصر وسؤال الهوية
حسام مقلد *
جاءت مليونية 29يوليو 2011م في ميدان الحرير بالقاهرة وميدان القائد إبراهيم بالإسكندرية للتأكيد على هوية مصر الإسلامية، فهل كانت هذه الهوية بحاجة إلى التأكيد؟ قطعا ستختلف الآراء حول هذه المسألة شأنها شأن غيرها من المسائل، وليس في ذلك ما يدعو للقلق، فتقبل اختلاف الآراء بكل سماحة ورحابة صدر هو من أوضح سمات الديمقراطية، ولكن يبقى السؤال الأبرز والأهم: هل مصر الآن بعد ثورة 25 يناير بحاجة إلى تأكيد هويتها الإسلامية ؟!
من الناحية النظرية هوية مصر محسومة منذ الفتح الإسلامي ودخول أغلبية المصريين في الإسلام، ويؤكد ذلك الأغلبية العددية للمصريين المسلمين التي لا تقل عن 93% من السكان (بحسب أكثر التقديرات إنصافا واعتدالا...) كما أن المادة الثانية من الدستور المصري المعلق حاليا تؤكد هذه الهوية، ولا خلاف في هذه المرحلة حول هذه المادة، وبالتالي فهوية مصر العربية الإسلامية لا مساس بها، وهذه الهوية تجمع المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين، فالأخوة المصريون المسيحيون هم أبناء الثقافة المصرية العربية الإسلامية، إذن لماذا حرصت الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون في مليونية 29يوليو على التأكيد على هوية مصر؟! وهل سؤال الهوية يؤرق المصريين بالفعل حاليا؟!
في الحقيقة وجد كثير من المصريين أنفسهم بعد ثورة 25 يناير على مفترق طرق، فالبعض يرفع الشعارات الليبرالية، والبعض يرفع الشعارات الوطنية، والبعض يرفع الشعارات القومية، وآخرون ـ وإن كانوا قلة ـ يرفعون دون تطرف أو مغالاة شعارات العلمانية اللائكية، وهناك قلة قليلة أخرى تتطرف في علمانيتها إلى مرحلة الفصل التام والصارم بين الدين والدولة باعتبار الدين خيارا شخصيا محضا لكل مواطن و"لا دين للدولة"... وعلى الجانب الآخر هناك الإسلاميون من إخوان وسلفيين وجماعة إسلامية...إلخ، وهؤلاء يشكلون أكثرية واضحة مقابل الاتجاهات السابقة، ووجدان وقلوب وأشواق أغلبية الشعب المصري مع الإسلاميين وتؤازرهم بقوة، وهو ما ظهر جليا في مليونية 29يوليو من خلال الملايين الكثيرة التي احتشدت في الميادين رغم شدة حرارة الشمس!!
لكن للإنصاف والموضوعية فالأغلبية الساحقة من المصريين غير معنية بهذا الجدل النخبوي والتنظير السياسي الجدلي الذي لا يهم سوى أصحابه الجالسين في الصالونات واستوديوهات الفضائيات المختلفة؛ فهذه الأغلبية تريد التنمية، تريد التطوير، تريد تيسير الحياة على الناس بشكل عملي ملموس في الصحة والتعليم وأسعار السلع والخدمات، هذه الأغلبية لا تهتم بالمصطلحات الفخمة، والشعارات البراقة، والكلمات الكبيرة الرنانة، هذه الأغلبية لا يعنيها سوى الواقع، ولن يهمها إلا أن تجد ما يصلح أحوالها ويوفر لها قدرا من الرخاء والازدهار وسبل الحياة الكريمة!!
ويجب أن نفطن إلى حقيقة مهمة هي أن الأغلبية الساحقة من المصريين مسلمين ومسيحيين أناس متدينون بطبعهم، يعتزون بدينهم وأخلاقهم، ويتمسكون بالثقافة الإسلامية الراقية المتسامحة التي تدعو لمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال والتحلي بالمروءة والشهامة والنجدة ورعاية الآخرين، والحفاظ على حرمات الناس واحترام عقائدهم ومشاعرهم الدينية، وحماية مصالحهم ورعايتها، ولا يمكن أبدا أن نرى بين هذه الأغلبية الساحقة من المصريين من يدعو لانتهاك الحرمات أو استمراء المجون والفسق، أو المجاهرة بارتكاب المعاصي، أو يتجرأ على مصادمة أخلاق المجتمع المصري المحافظ بشكل سافر فاضح، وبالتالي فهوية مصر كدولة عربية إسلامية شرقية واضحة ومحددة جدا ولا خلاف عليها.
لكن الذي حدث بعد نجاح ثورة 25 يناير، وتوجُّهِنا لوضع دستور جديد للبلاد ـ وهو ما سيؤشر على رسم ملامح مصر خلال العقود القادمة ـ هو أن أصحاب الرؤى المختلفة بدأ كل منهم يدفع الدولة باتجاه تبني رؤيته، وهذا من حق الجميع شريطة أن يتم ذلك بالوسائل الديمقراطية السلمية دون فرض شيء على الجماهير أو الالتفاف على إرادتها في النهاية، لكن غير الإسلاميين رأوا رجحان كفة الإسلاميين واقتناع الشعب بهم وامتلاكهم لأغلبية كبيرة؛ فخافوا على رؤاهم وتوجهاتهم السياسية، وتملكتهم الخشية من نجاح الإسلاميين في الوصول للحكم ومن ثم التمكين لرؤيتهم وحدهم في وضع الدستور القادم، وصياغته على هواهم بما يحقق مصالحهم الفكرية والسياسية والأيدلوجية وحدهم دون مصالح الآخرين!!
هكذا زعموا وروجوا من خلال فضائياتهم المختلفة، وحاولوا التأثير في الشعب وأغلبيته الصامتة، ومارسوا ـ ولا يزالون ـ الضغط على المجلس العسكري، وراحوا يخوِّفون الناس من بعبع الإسلاميين، وصورت لهم أوهامهم أن الإسلاميين سيسيطرون على الحكم ويفرضون على الرجال المصريين إطالة اللحى ولبس الثياب القصيرة، وعلى النساء لبس النقاب واتشاح السواد والتزام المنازل، وتراقصت أشباح الثورة الإيرانية وأشباح نظام حكم حركة طاليبان الأفغانية أمام مخيلة الليبراليين المصريين، وعاودتهم مزاعمهم أو لنقل هواجسهم وكوابيسهم القديمة المتعلقة بفرض الحدود وقطع الأيدي وجلد السكارى، وأخذتهم أوهامهم ومخاوفهم بعيدا بعيدا حيث كان الناس يسافرون على الجمال والخيول، وإذا أراد الواحد منهم أن يقضي حاجته كان يذهب إلى الخلاء حاملا معه بعض الأحجار ليستجمر بها!! وهكذا بالغ البعض في رسم هذه الصورة المفزعة لمصر في عهد الإسلاميين القادم حيث لا سياحة ولا فن ولا دراما ولا موسيقى ولا غناء، ليس هذا وحسب، بل لن يكون هناك ملاعق ولا أشواك ولا أدوات مائدة ولا حتى أدوات سباكة صحية حديثة... حيث سيرجعنا المصريون المتدينون للأكل بالأيدي ولعصر الكنيف، ولن يوجد في مصر في ظلهم سوى اللحى الطويلة والثياب القصيرة، والقلوب القاسية الغليظة، والنفوس المنكسرة الكئيبة...!!
هذه هي الصورة القاتمة التي يروج لها خصوم الإسلاميين لإرهاب الناس وتخويفهم منهم، ولا أدري من أين تأتي كل هذه المخاوف المتوهمة؟! إننا نرى أغلب الإسلاميين يستخدمون أحدث أنواع الهواتف المحمولة، وبعضهم يمتلك أفخم أنواع السيارات الفارهة، وجلهم يمتلك الكمبيوترات وأحدث أنواع اللاب توب، ويتعاملون مع الإنترنت بفعالية كبيرة، فلِمَ الذعر؟ ولِمَ الزعم بأنهم سيُخرِجون مصر من عصر العلم والتكنولوجيا ويرجعونها إلى عهد البداوة والتخلف الحضاري؟!
لكن للأمانة والموضوعية فبعض التيارات الإسلامية لا تمتلك رؤية متكاملة لشكل الدولة المدنية الحديثة في مصر، دولة الديمقراطية والحرية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتكتفي برفع شعارات عامة وتردد عبارات مطاطة تحتمل كل شيء، ومن هنا فعليها أن تسارع إلى وضع برامج عملية محددة توضح للمواطنين الملامح الأساسية للدولة المصرية المدنية ذات المرجعية الإسلامية، وتشرح بشكل محدد موقفها من: قضايا التنمية والبحث العلمي، وقضايا المرأة، وقضايا الحريات السياسية وتداول السلطة، والقضايا الفكرية والثقافية والفنية الأخرى.
نعم هوية مصر العربية الإسلامية واضحة ومحددة وراسخة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، لكن هويتها السياسية والاقتصادية بحاجة ماسة اليوم إلى مزيد من التوضيح والتأكيد، فهل سنكون دولة ديمقراطية حقيقية تؤمن بالتعددية والتداول السلمي للسلطة، ويأمن فيها كل مواطن على نفسه وأهله ومصدر رزقه مهما كانت رؤاه وتوجهاته السياسية والفكرية؟ وهل سنكون دولة مدنية حديثة تسير فيها الأمور كافة بكل شفافية ووضوح، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية، ويجد كل مواطن ما يحتاج إليه، ويصل إلى ما تؤهله له قدراته وإمكاناته دون معاناة ودون وساطات أو محسوبيات، أم سنظل دولة للنخب والأقليات التي تمتلك وحدها السلطة والثورة والنفوذ، وتحتكر كل شيء وتسخره لتحقيق مصالحها الشخصية؟!!
* كاتب إسلامي مصري