نريد الاستقرار لا الفوضى الخلاقة
حسام مقلد *
يشعر كثير من المصريين بالقلق الشديد والإشفاق على وطنهم العزيز ويخافون من الأحداث المريبة التي تتصاعد منذ أسابيع، ويخشون أن تفاجئهم تطوراتها السريعة المتلاحقة ـ لا قدر الله ـ بما لا تحمد عقباه، ويزيد من حالة الهلع عند قطاع كبير من الشعب المصري ما نراه من استعراض للعضلات بين القوى السياسية المختلفة عن طريق تلك المليونيات كل جمعة، وللأسف الشديد كل الأحداث وتوابعها وتفاعلاتها وتطوراتها تؤكد على وجود حالة عميقة من الشك والريبة وفقدان الثقة بين مختلف الأطراف السياسية الموجودة على الساحة المصرية الآن، وأن أغلب هذه الأطراف لا يفكر سوى في مصالحه هو فقط دون أي اعتبار للمصالح القومية المصرية العليا، فكل طرف يخشى الآخر ويحاول أن ينال نصيبه من كعكة السلطة، ويسعى لإثبات حضوره بأي شكل قبل أن يفوته القطار، ولا يثق في الآخرين مهما أقسموا له بالأيمان المغلظة، وقدموا لهم من مواثيق وعهود!!
فالعلمانيين والليبراليين يخشون الإسلاميين، كما يخشاهم كذلك عدد من رجال الأعمال وصنائع نظام مبارك السابق (وهم الذين يتكدس لديهم المال السياسي بوفرة وبلا حدود، وينفقونه من أجل تنفيذ مآربهم بغير حساب...) والإسلاميون يشعرون بميل أغلبية الشعب إليهم وتأييدها لمشروعهم، ولكنهم يتوجسون من الالتفاف على إرادة الجماهير بأي طريقة كانت، والأحزاب الكرتونية التي ليس لها وجود في الشارع تخشى صناديق الانتخابات وبالتالي تشغب على الإسلاميين، وتزايد على مواقفهم، وتحذر منهم، وتشوه مشروعهم للنهضة المصرية، وليس لديها مانع من التحالف مع أي أحد لإحباط احتمال وصولهم للسلطة، وبعض الإسلاميين حديث عهد بالسياسة لا يعرف مداخلها ولا مخارجها ولا يجيد ألاعيبها ومكائدها، فيندفع في أقواله وتصريحاته، وقد يرتكب من الأخطاء ما يجعل الناس تتوجس منه ومن حقيقة توجهاته، وهناك بطء ملحوظ في تنفيذ مطالب الثورة وتحقيق أهدافها (وأعتقد أن تسريع وتيرة سير هذه الملفات كان ولا يزال كفيلا بإزالة حال الاحتقان التي يشهدها الشارع المصري الآن...!!) وقد تفاعلت كل هذه الأسباب والعوامل مع بعضها البعض وأدت إلى فقدان الثقة وانتشار الرِّيَبِ والظنون، وكثرة الشكوك والوساوس التي تملأ صدور الناس ونفوسهم، وزادت مخاوف البعض من انفراد البعض الآخر دونهم بالسلطة وانقلابه على الديمقراطية بعد ذلك!!
في هذه الأجواء المشحونة الملتبسة تأتي الدعوة لمليونية 29يوليو وسط شكوك متبادلة وظنون كامنة ونفوس مضطربة واتهامات متبادلة، ولا ندري هل سيتمكن المصريون خلال هذه المليونية المنتظرة من توحيد صفوفهم واستعادة تلك الروح العظيمة التي جمعتهم في ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى طوال ثمانية عشر يوما هي عمر ثورة 25يناير الشعبية المجيدة!! لقد بهرنا العالم بأسره بهذه الروح الرائعة طوال تلك الفترة، فهل نتمكن من استعادتها والحفاظ عليها؟ هل تُغَلِّب القوى السياسية المختلفة مصلحة مصر في هذه الآونة على مصالحها الشخصية؟!
إن ما جرى خلال الأسابيع القليلة المنصرمة يجعلنا ـ وبكل أسف وأسى وحزن ـ نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من التطورات الكئيبة التي قد تتصاعد مع الأحداث، ويزيد من مخاوف المتشائمين منا أنه لم يكد يمر على ثورتنا إلا بضعة أشهر فقط حتى تفرق جمعنا، وتشتت شملنا، واختلفت أحزابنا، وتصارعت ائتلافاتنا على كعكة السلطة التي لم تتبلور بعد الطريق للوصول إليها!! ووالله لا أدري أين ذهبت روح ثورة يناير التي صهرتنا معا وأظهرت أفضل ما فينا خلال أيام الثورة الأولى، فأين ذهبت هذه الروح؟ وكيف أخلت مكانها بهذه السرعة المذهلة للعصبيات الفكرية والحزبية والدينية والسياسية والمصالح الاقتصادية؟ وكيف نسمح لأطماع الدنيا ومتاعها الزائل بأن تمزق وطننا وتدمره، وتجلب الفرقة والصراعات والخراب والدمار لأبناء شعبنا؟ كيف نسمح للدسائس والمكائد والمؤامرات والفتن ـ الداخلية والخارجية، المحلية منها والإقليمية والدولية...!! ـ بأن تجهض ثورتنا وتغتال أحلامنا وآمالنا بهذه السرعة وبهذه الطريقة المخجلة؟!
في الحقيقة لا يوجد أدنى شك لدى غالبية الشعب المصري في انحياز الجيش لمطالبهم وحمايته لثورتهم، وما كان أجدر بشباب الثورة وائتلافاتها الكثيرة (...!!!) ألا تسمح لقلة من الناس بالتطاول على الجيش أبدا، ومحاولة الوقيعة بينه وبين الشعب وتعميق حالة الارتباك والقلق والخوف والتوجس لدى الجماهير، فمن شأن هذا الشحن المتواصل وتوتير الأجواء المستمر أن يلهب المشاعر والأحاسيس، ويُفْلِتَ الأعصاب، ويفجِّر الوضع برمته في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للهدوء وبناء الثقة، والإعداد للانتخابات؛ ليتم الانتقال الهادئ والسلس للسلطة المدنية المنتخبة من قبل الشعب، وبدلا من هذا الموقف الحالك الذي وضعنا فيه أنفسنا أو وضعنا فيه بعض أبنائنا كان حريا بنا أن نفكر في مستقبل مصرنا الغالية بطريقة إيجابية أكثر، وقميص عثمان الذي يرفعه البعض الآن، ويرددون حوله الكلام في كل الفضائيات وأعني به: حقوق الشهداء، ومحاكمة رموز النظام الفاسد السابق، ورفع الحد الأدنى للأجور....إلخ، كل ذلك مهم ولا شك ولابد من تنفيذه بالسرعة المطلوبة، لكنه ليس الطريق لبناء دولة مصر الحديثة المدنية المستقلة، فمعركة مصر ليست مع الماضي، وإنما هي مع المستقبل وتحدياته الخطيرة علميا وتقنيا ومعرفيا، والطريق للوصول إلى هذه الغاية معروفة جيدا ومحددة ومرسومة وفقا لخارطة الطريق التي وافق عليها الشعب وأقرها بأغلبية كبيرة في الاستفتاء الحر الديمقراطي الذي جرى بعد الثورة في شهر مارس الماضي، فما سر محاولات الالتفاف على إرادة الجماهير وتعطيل المسيرة المتفق عليها التي أكد المجلس العسكري مرارا أنه متمسك بها وملتزم بتنفيذها في التوقيتات المحددة؟!
إننا نخشى أن يجرنا بعض الشباب في غمرة اندفاعهم وشدة حماستهم ودون قصد منهم للوقوع في الفخ الذي نصبه لنا أعداء مصر، ويريدون جرجرتنا نحن المصريين للسقوط فيه للدخول في نفق مظلم أو هوة عميقة سحيقة نتخبط فيها لعقود قادمة!! وحقيقة لا أفهم كيف يقدم بعض الناس على خنق أحلام أمتهم ووئد آمالها بأيديهم؟ ولا أعلم لماذا ينخدع هؤلاء لأعدائهم بهذه السهولة؟ ولا أفهم لماذا نساعد أعداءنا علينا لنفشل أنفسنا ونخرب بيوتنا وندمر أوطاننا بأيدينا؟! وكل هذا من أجل ماذا؟! من أجل الفوز بالحكم السلطة!! وأي حكم هذا الذي يناله المرء بعد أن يدمر أهله ووطنه؟!
إن معظم تجارب التاريخ القديم والحديث تزيد من قلقنا وتعمق مخاوفنا، لاسيما التجارب السلبية الفاشلة التي وقعت خلال الخمسين عاما الأخيرة في بلدان العالم الإسلامي والتي ـ للأسف الشديد ـ لا تبشر بخير، كتجربة وقوع المجاهدين الأفغان في الصراعات والنزاعات والحروب، وتجربة ثورة الإنقاذ الوطني في السودان التي انتهت مؤخرا بانفصال الجنوب عن الشمال وإعلانه دولة مستقلة!! وأكثر ما يفتُّ في أكبادنا ويشعل النار في قلوبنا أننا لا نتعلم أبدا، ولا نريد أن نتعلم من تجاربنا وتجارب السابقين، ورغم أننا جميعا نعرف تماما مصير الفرقة والخلاف ربما أكثر مما نعرف أنفسنا، إلا أنه مع ذلك لا تزال العصبيات والمطامع والمصالح الشخصية تحرك مشاعرنا وتملي علينا تصرفاتنا!!
والله تعالى أسأل أن يحفظ مصرنا الغالية وأن يلهمنا جميعا الرشد والصواب في هذه المرحلة المهمة بالغة الدقة والحساسية في عمر ثورتنا المباركة، وأتمنى من كل قلبي أن نكف عن المليونيات ونعطي الدواء الوقت لكي يعمل ويظهر أثره ناجعا بإذن الله، وأن نتجه بكل قوة نحو البناء والتعمير كلٌّ في مجاله، وأن نعزز من ثقتنا في بعضنا البعض، وأن نعلم جميعا أن هذا هو وطننا جميعا، ولا مجال أبدا بعد الآن لإقصاء أحد ولا تهميشه أو الجور على حقه، ولا مجال لأن يظن أي طرف من أطراف المجتمع أنه وحده يحتكر الحقيقة، وأن من حقه ازدراء الآخر واحتقار أطروحاته، ولا مجال للتخوين ولا للتشفي أو الانتقام؛ فهذا ليس من أخلاق الشعب المصري العريق وصفاته الكريمة، وأؤكد مرارا على أن معركة مصر ليست مع الماضي، وإنما هي مع المستقبل وتحدياته الخطيرة التي لا نهتم بها، معركتنا الحقيقية والتحدي الأكبر أمامنا هو بناء مصر المدنية الحديثة العصرية العادلة الديمقراطية الرائدة عربيا وإقليميا ودولياً، فلنشمر جميعا عن سواعد الجد ولنبدأ على الفور في بناء مصرنا الحبيبة.
* كاتب إسلامي مصري