طاقاتنا المهدرة بعد الثورة

حسام مقلد *

[email protected]

كلما شاهدت أو استمعت إلى تصريحات من يسمون شباب الثورة وأعضاء الإتلافات الكثيرة التي تناسلت خلال الشهور الستة الماضية تساءلت في حيرة: هل حالنا الآن هي حال أمة تريد أن تنهض وشعب يريد أن يكسر قيوده وينطلق في طريق التقدم والرقي؟! هل ما نحن فيه الآن يبشر بأننا نسير فعلا في الاتجاه الصحيح لصنع نموذجنا الحضاري اللائق بمصر وحضارتها ومكانتها؟! هل أوضاعنا وأوضاع شبابنا وطبيعة اهتمامات وتصريحات أخوتنا من المسئولين والسياسيين والمعتصمين في ميدان التحرير (وفي عدد من ميادين وشوارع بعض المدن المصرية) تنبئ عن حقيقة طموحات شعبنا وآماله وأحلامه وتطلعاته المستقبلية؟!!

هل ما شاهدناه طوال الأسبوع الماضي من تعطيل تشكيل حكومة تسيير الأعمال التي ستمكث نحو مئة يوم فقط مؤشر إيجابي على نجاح الثورة وامتلاك الشعب المصري للسلطة؟! هل معاقبة المعتصمين في التحرير لمخالفيهم (حتى ولو كانوا من البلطجية) وصلبهم على أعمدة الإنارة ينبئ عن احترامنا للآخر ولحقه في التعبير عن نفسه؟! وهل يدل ذلك على وعينا وحرصنا على تطبيق القانون على الجميع؟! ولو كان هؤلاء بلطجية فعلا فلِمَ لمْ يتم تسليمهم للشرطة أو للجيش؟! أهذا ما تريد هذه الأقلية المعتصمة أن نبدأ به مصر عصر الديمقراطية؟!!

وهل يحدث في أي دولة في العالم كالذي يحدث عندنا من رهن اتخاذ القرارات وتنفيذها بموافقة أقلية من الشعب تعتصم في الميادين؟! وهل الاعتصامات، والإضراب عن الطعام، وغلق المصالح الحكومية كمجمع التحرير، وإثارة اللغط والشوشرة ورفع الصوت والجعجعة، ورفض أية قرارات أو قوانين تصدر عن المجلس العسكري أو الحكومة (كقانون الانتخابات الجديد مثلا) هل ذلك هو أفضل الوسائل للضغط على المسئولين؟! وهل الانصياع لمثل هذه الضغوط هو الأسلوب الحكيم لتصريف الأمور بعد الثورة؟!

ما أعرفه أن خبراء التربية ينصحون الآباء بعدم الانصياع لابتزاز أطفالهم بأي وسيلة كانت؛ لأن هذا ضد مصلحتهم ويضر توازن بنيانهم النفسي والاجتماعي السوي، وبالمثل يجمع خبراء السياسة والحكم بعدم الانصياع للضغوط التي تمارسها فئات قليلة في المجتمع لتلبية مطالبها وتحقيق مصالحها الشخصية وفق أجنداتها الخاصة؛ لأن الاستجابة لضغوط هذه الأقليات يطمع فئات كثيرة أخرى في المجتمع في تحقيق مصالحها وتنفيذ أجنداتها هي الأخرى بنفس الطريقة، وهذا هو بداية الخطر الحقيقي على أية دولة؛ لأنه يكسر شوكتها، ويضعف سلطتها، ويذهب هيبتها في نفوس الطامعين فيها في الداخل والخارج، ويفتح باب التجرؤ عليها، وهذا لا يعني مطلقا عودتنا للقمع والجبروت والبطش بالناس، بل لا بد من الوصول إلى صيغة متوازنة تحفظ للدولة هيبتها في نفوس الناس وتلبي مطالب الشعب، وتطبق القانون بكل حزم وصرامة على الجميع.  

وبحسب اعتقادي لا يختلف أحد في أنه ليس منطقيا أبدا أن يذهب كل من يرشح للوزارة أو لشغل أي منصب قيادي في الدولة إلي ميدان التحرير للحصول عل موافقة الأقلية المعتصمة هناك، لاسيما وأن هؤلاء أخلاط متنافرة وفرق شتى لا تتفق على أمر واحد ولا تعبر عن ملايين المصريين!! ولا أعلم أن موافقة حفنة من الثائرين شرط من شروط اتخاذ أي قرار سياسي في أي دولة في العالم؛ لأنه لا يوجد إجماع بين البشر أساسا على أي شيء في الحياة، وليس من حق أقلية تعتصم أو تضرب عن الطعام أن تملي إرادتها على الجميع!! هذه ليست ديمقراطية وإنما هي دكتاتورية في ثوب ديمقراطي!!

نعم كلنا يريد تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعيش في حرية ورخاء وازدهار، كلنا يريد وضع حد أدنى للأجور بحيث يحصل كل مواطن مصري على ما يلبي مطالبه ويكفي احتياجاته الأساسية ويوفر له الحد الأدنى والقدر اللائق من الحياة الإنسانية الكريمة دون دوامة الديون والأقساط التي تلاحقه طوال حياته لتلبية الحاجات الملحة له ولأسرته، وبالتأكيد كل منا يريد أن ينال رموز النظام السابق وفق القانون والقضاء العادل جزاءهم العادل على جرائمهم البشعة بحق الشعب المصري، ولا شك أن كل منا يطمح أن يحصل على حقوقه بيسر وسهولة، وأن يصل إلى ما تؤهله له قدراته وإمكاناته دون واسطة أو محسوبية، ولا أشك لحظة في أن كل مصري أصيل يحب مصر ويحرص على مصلحتها، لكن هل ما يحدث في ميدان التحرير الآن وغيره من الميادين من إرباك للحكومة والمجلس العسكري، وتعطيل للمصالح وإهدار للطاقات وتضييع للأوقات هل هذا هو ما ثرنا من أجله؟!!

الحق أن الشعب قد ضج من هذه المليونيات والإضرابات والاعتصامات، ويجب على جميع الاتلافات والقوى السياسية المصرية أن تبادر الآن وفورا إلى صرف الناس من ميدان التحرير وكافة الميادين الأخرى فكفانا إهدارا للطاقات وتضييعا للجهود والأوقات، فهناك خطة واضحة وجدول زمني محدد لإجراء الانتخابات، والحكومة الحالية لن تمكث أكثر من أربعة أشهر على أقصى تقدير، وبالتالي لا داعي للتشبث بتغيير أسماء معينة أو الإتيان بأسماء أخرى، والأجدى أن ننطلق جميعا لمحو وإزالة ثقافة الجشع والطمع والأنانية التي بدأت تتسرب إلى نفوس الطامحين إلى السلطة، ولنبادر بتطهير قلوبنا وتخليص عقولنا ونفوسنا من شوائب وأدران المطامع السياسة التي توشك أن تحرف ثورتنا عن اتجاهها الصحيح، وعلينا جميعا أن نحسن الظن في بعضنا البعض، وأن نثق في وطنية كل منا، وأن نبادر إلى شحذ هممنا، وإخلاص نوايانا، وتوجيه كل طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي جوهري وحقيقي في نفوسنا وأفكارنا وقناعاتنا وتوجهاتنا وتصوراتنا عن الآخر، وتعاملاتنا مع بعضنا البعض، وإدارة حوار راق وبنَّاء فيما بيننا؛ فهذه هي البداية الصحيحة والحقيقية لتغيير منظومة الدولة كلها بجميع هياكلها ومؤسساتها ومجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

نعم الثورة المصرية لها أعداء كثر داخليا وإقليميا ودوليا ممن تصطدم مصالحهم مع مشروع النهضة المصري، وهذا ما يعرفه الجميع، وهو ليس بغريب على السياسة، فتصادم المصالح هو الأصل بين الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعات والأمم المختلفة، ولكن الدول المتحضرة تسعى للوصول إلى نوع من التوافق ولو على الحد الأدنى من المصالح المشتركة لتوفير مناخ من السلام والاستقرار والتعاون المشترك، وأمر طبيعي أن يجد مجلسنا العسكري نفسه واقعا تحت ضغط رهيب من الداخل والخارج، لكننا على ثقة كبيرة بأن رجال هذا المجلس المخلصين الشرفاء لن يسمحوا لمثل هذه الضغوط باستنزاف طاقاتهم وتشتيت قواهم بعيدا عن القضايا الجوهرية التي تهم مصر في المرحلة الحالية.

وعلى جميع القوى الشبابية والوطنية المصرية الآن أن تفكر جديا في إنقاذ وتحسين اقتصاد مصر المتداعي، وأن تستعد استعدادا جيدا وغير تقليدي لإجراء الانتخابات التاريخية القادمة في مناخ حقيقي من النزاهة والشفافية والديمقراطية، والسعي لإنجاز الاستحقاقات السياسية القريبة وفق الجدول الزمني المحدد، وعلى كل حزب أن يتخلص من الكلام النظري المعاد المكرر والممل الذي لا فائدة فيه، ولم يعد يقنع أحدا من المصريين، وأفضل منه أن يضع كل حزب خارطة طريق عملية محددة لإعادة بناء مصر بناء حضاريا شاملا!!

في الحقيقة علينا جميعا أن نكف عن إهدارا الطاقات وتضييع الجهود والأوقات، والبدء فورا بالعمل الجاد الخلاق من أجل مصر في كل القطاعات وعلى كافة المستويات، وعلى وسائل الإعلام أن تتقي الله في مصر وشعبها الطيب، وتكف فوا عن إثارة الجماهير وشغلهم بالمهاترات والصوت العالي، وأجدر بها وأولى أن تعلم شبابنا فن الاختلاف، وتدربه على ممارسة ثقافة الديمقراطية الحقيقية، ووضع كل شيء في حجمه الطبيعي دون تهويل أو تهوين!!

                

 * كاتب إسلامي مصري