أهمية التغيير في سورية..
جلال / عقاب يحيى
" سورية قلب العروبة النابض" مقولة تتردد كثيراً، وقد تثير حساسية بعض المكوّنات القطرية وغيرها، لكنها كانت التعبير عن أهمية الدور الرائد لسورية في مرحلة النهوض القومي وبلوراته الأولى، حين انطلقت منها، وبأدق : من بلاد الشام الموحّدة قبل " سايكس ـ بيكو" جنينيات الوعي، والتشكل القومي ـ التحرري، لبلورة الشخصية القومية العربية بالاستقلال، فالانفكاك عن تركيا، وحين حمل الروّاد الأوائل راية، ومهمة مقاومة الاستعمار الغربي، ورفض التجزئة، والتأسيس لمشروع النهوض بأبعادة الوحدوية، الحداثية، التقدمية، الديمقراطية.. فكانت سورية وعلى مدى عقود من الزمن المرجل الذي يولد الثورات والحركات التحررية، والحضن الكبير للعرب وحلم وحدتهم، ولكل عمل تحرري، قومي، تتقدّم الركب، وتجسّد الإيمان في مواقف بارزة.. مثلتها مرحلة الانتعاش الديمقراطي لتلك التجربة التي أعقبت الاستقلال عن الاحتلال والفرنسي، والتي كانت تئدها الانقلابات العسكرية، متعددة الخلفيات، حيناً، لتنتعش من جديد، حيناً آخر، وقوفاً عند الوحدة المصرية ـ السورية التي طوت الصفحة أعواماً، ثم إعدامها منذ انقلاب الثامن من آذار 1963 تحت رايات الأحادية، والحزب الواحد ـ القائد، وتطوراته الدرامية التي فرّخت الاستبداد المكين، والفرد" الخالد"، والتوريث التقزيم والتشويه .
و" سورية مفتاح المنطقة" وبوابة التغيير فيها، وقد فهم الأسد ـ الأب هذه الحقائق فوظفها لصالح ديمومة حكمه، والتدخل بدول الجوار، ومع فلسطين وقضيتها المركزية، حتى إذا ما نجح في سياساته، وتحالفاته، ومقايضاته الارتدادية، الانحدارية شهدت المنطقة ذلك الاستقرار المغشوش، وتجوّفت القضايا الرئيسة للأمة، وتشوّهت الأهداف الكبرى، وسقط المشروع الوحدوي، الحداثي في مستنقع أنا الاستبداد، ومصالح الفرد والطغمة .
وبقدر ما بدا أن دور سورية" الأسد" تنامى مظهرياً : أفقياً، وبات للنظام موقعه في الحسابات الإقليمية والخارجية، بقدر ما كان هذا الدور على حساب جوهر قضايا الأمة ومصالحها العليا، إن كان في فلسطين واحتلال العراق وتدميره، أو فيما يخص التحرر، واستقلالية القرار، أو في التقدم للحاق بركب العصر، أو التوحّد والتنسيق، ومواجهة الاستراتيجيات الصهيونية، والإقليمية والدولية، أو في الفاعلية والتأثير.. حين تهلهل الدور العربي وترامى مِزقاً، ولم تبقَ منه سوى بقايا شعارات للتضليل والاستهلاك، والتي أدمن عليها، بشكل خاص، النظام السوري فيما يعرف بسلسلة الشعارات المتنقلة، وآخرها : الممانعة، والتي لو صدقت هي سلبية المضمون .
إلى جانب ذلك فالشعب السوري بما عرف عنه من حيوية، وفاعلية على صعيد الأمة والمنطقة، بزخم نخبه، وتحضره، وتنوع أطيافه ومكوناته، وجذور التاريخ الفاعلة فيه : حضارات وتراكماً ثقافياً، وخبرات تجارية، وعبقريات إنتاجية.. أنما يترك بصماته القوية في محيط الأمة والمنطقة، حتى إذا ما تحرر هذا الشعب من قيود الاستبداد، وإذا ما أقام دولته الديمقراطية المدنية التي تُطلق طاقاته، وتفتح المجال لإبداعه المتنوّع.. شكل منارة تأثير كبرى في المنطقة ، وقوة جذب كبيرة سيكون لها تأثيرها القوي في جميع المجالات .
******
إن قبر الاستبداد، وإهالة التراب على عقود الأحادية، والقمع، والتكبيل والتقزيم والتشويه والتهشيم والفساد والإفساد، وطي صفحة التوريث المشوّه بإطلاق مرحلة التعددية السياسية وغيرها، وتكريس الدولة المدنية الديمقراطية التي يشيدها دستور عصري يضعه الشعب عبر ممثليه المنتخبين، والذي يصون الحريات العامة، وحقوق الدولة، والمواطن، ويقر الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء والنقابات، والعمل الحزبي، وهيئات المجتمع المدني بما يليق بسورية وشعبها المنفتح، التوّاق لممارسة إرادته وذاته في نظام يختاره..سيكون ذلك بمثابة ثورة تاريخية شاملة ستنقل بلادنا من عهد التعليب والتغييب والترهيب، إلى عهد آخر مختلف في جميع المجالات، حين تفتح الأبواب مشرعة للإبداع السوري المتنوع كي يمارس الخصب في ظروف مناسبة، فيعتلي موقعه اللائق به، وهو موقع ريادي، كبير التأثير وعابر للحدود القطرية والإقليمية، بالتأكيد .
ـ وحين تلتقي الثورة السورية الديمقراطية مع شقيقتها المصرية، وهو لقاء لا بدّ أن يحدث، فإن زلزالا قوياً، عربياً سيعمّ الوطن العربي، وسيتجاوزه إلى الإقليم أيضاً .
إن مجرد تغيير نظام الاستبداد سنعكس مباشرة على الساحة اللبنانية باتجاه فك اسر هذه المنارة العربية الرائدة التي تآمر النظام العربي برمته، خاصة النظام السوري، على خنقها، ورميها في مزابل التطييف، والحرب الأهلية، والخضوع لأجهزة الأمن السورية، وسينتعش لبنان مستعيداً دوره الحداثي، والحضاري الريادي، وسينشأ وضع جديد، بميزان قوى جديد، وستضعف الطائفية وتشكيلاتها ومليشياتها لحساب الدولة المدنية التعددية، والقوى السياسية مختلفة الأطياف .
ولن يكون الأردن الذي يعاني أزمات متداخلة، بمنأى عن تأثير الثورة السورية فيه لصالح قوى التغيير، والديمقراطية فيه، وباتجاه الانتقال من الملكية الاستبدادية إلى الملكية الدستورية، على أقل اعتبار .
أما القصية الفلسطينية : أم القضايا العربية فإنها بالتأكيد لن تبقى متمرجحة في فك الصهيونية ونظامها الاغتصابي، ونفوذ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعنعنات مشاريع التسوية المتراجعة" والسلام خيار النظام العربي الاستراتيجي البائس" حين سينهض ميزان جديد للقوى، وحين سيكون ظهرها محمياً من الجماهير السورية والعربية فلا تخشى التوظيف والتآمر والطعن في الظهر، والدفع إلى الهاوية، وحين يصبح الحاكم منتخباً من شعبه، غير مزدوج الخطاب، ولا يحتاج لأن يكون بيدقاً بيد الغرب كي يضمنوا استمراره ...
ـ وحين نأتي إلى العراق المحتل، العراق المدمّر، والعراق المشوّه بتلك المسرحية الديمقراطية المفروضة عليه بقوة المحاصصة الطائفية والإثنية، وخط وفكر التقسيم والتفتيت والشرذمة، والتشنيج المذهبي..فإن تحرر سورية من نظام القهر والمنع واللجم..سيشكل منارة الإشعاع على العراق الجار، وقوة التأثير النافذة لشعبه التواق للحرية، والوحدة، والتحرر، والاستقلال..حين تتعانق رايات الحرية فتنتعش القوى الوطنية، ويصبح طرد المحتل، وتحرير العراق من الغازي، ومن آثاره، وصنائعه تحصيل حاصل ميزان قوى جديد سينشأ بسرعة، وقوة .
ـ أما دول الخليج العربي بإماراته ومشيخاته وملكياته، خاصة تلك المغرقة في التخلف والاستبداد.. فإنها لن تكون بمعزل عن الزلزال العربي، بل إن التغيير السوري لصالح الديمقراطية سيكون له تأثيره المباشر فيها، يضرب أضعف حلقاتها الرخوة المهيأة للانتفاض، وفعل التغيير ..
ـ حتى بلدان المغرب العربي، وتونس قاعدة التغيير الديمقراطي، وموطن الشرارة الأولى، فإن تأثير الانتصار السوري سيكون كبيراً فيها وهي التي تعيش مخاضات مباشرة، وتنضج فيها عوامل التغيير الديمقراطي ..
ـ وبمعنى واقعي يتجاوز الأحلام المشروعة إلى قراءة أفق مستقبلي بين الأيدي، فإن انتصار الثورة السورية الديمقراطية، ولقائها الموضوعي، الحتمي مع الثورة المصرية المنتصرة على الفترة الانتقالية، وقوى الشدّ إلى الماضي ،سيوفّر الإمكانية الواقعية لولادة مشروع عربي جديد لحمته الشعوب، وسداه الحريات العامة، وأفقه حداثي، تقدمي، توحيدي يفتح صفحة جديدة لتاريخ جديد، ويضع الأمة في موقع القدرة على الدفاع عن مصالحها العليا، وردع الاستراتيجيات والمشاريع الخارجية : إقليمية كانت أم خارجية، والتعامل معها بما يتوافق ومصالح وتطلعات الأمة العليا وشعوبها، وحقوقها المشروعة .
******
لهذه الأسباب يقف النظام العربي(القديم ـ المهترئ) موقف المتفرج، بله الحذر من أحداث سورية، عينه على أوضاعه الداخلية المأزومة، ويده على قلبه من نجاح الشعب السوري في تأسيس نظام بديل .
ـ ولهذه الأسباب، وغيرها، يقف الغرب مواقف بائسة، مترددة، انتظارية، ما زالت تراهن على" قابلية الرئيس الشاب على قيادة مرحلة الإصلاح" فتبلع، وتغض النظر عن كمّ الجرائم المرتكبة بحق الشباب الثائر، وعن الفظائع التي ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري الأعزل، بينما تدرس الصهيونية مخاوف احتمالات سقوط نظام الطغمة، والقلق كبير من بدائل شعبية تأتي بقوى تمثل الشعب فلا ترهن قرارها ومصيرها لضغط خارجي، أو مقايضة على حساب المصالح العليا للوطن، ولا تسمح ببقاء جبهة الجولان صامتة، ومحتلة، ولا بالوضع الفلسطيني المتعب، والمثقل بالضعف، وتخلي النظام العربي عن فلسطين عملياً .
ـ ولهذه الأسباب، وغيرها مما هو داخلي، تعاني الثورتين : التونسية والمصرية إرباكات الانتقال، وتدخّل القوى القديمة، والتابعة لمنع استمرار الثورة حتى مصبّاتها الطبيعية، ومحاولات حرفها، وإثقالها بالمزيد من التناقضات والانشغالات متعددة الأشكال ..
*******
إن التغيير الجذري القادم في سورية سيدشّن، بالتأكيد، مرحلة جديدة في حياة بلدنا، ووطننا.. وستلتقي على أرضيته قوى التغيير من مختلف أرجائه لإنهاض الأمة من عثارها، وصياغة مشروع يليق بها، وبشعوبها التواقة للحياة الحرة الكريمة، وسيكون الشباب المبدع، الشباب القائد لهذه الثورات عمادها، وحادي ركبها إلى المكانة التي تليق بها.
كاتب وروائي ـ الجزائر