مصر أولا... مصر لنا

حسام مقلد *

[email protected]

نجحت بفضل الله مليونية الثورة أولا، إلا أنها كشفت عن مجموعة من الحقائق التي ينبغي تعاطي جميع الأطراف معها بكل الجدية والاهتمام سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي، وأعني بالتحديد حكومة الدكتور عصام شرف والمجلس العسكري الذي يتولى حاليا إدارة شئون البلاد، ولعل أهم ما أكدته مليونية 8 يوليو الأمور التالية:

أولا:

أكدت هذه المليونية أن هناك اختلافا واسعا بين خطاب معظم الأحزاب السياسية والنشطاء السياسيين ومن يسمون أنفسهم بالنخب وبين أهداف وتطلعات جموع الشعب المصري الغفيرة التي لا يهمها ذلك الترف الفكري، ولا يعنيها ما يجري من تراشق إعلامي بين مختلف التيارات وألوان الطيف السياسي الموجودة حاليا في مصر، كما أظهرت هذه المليونية أن المصريين العاديين غير المؤدلجين يمتلكون خارطة طريق محددة ورؤية واضحة جدا للإصلاح والتحول الديمقراطي السليم، ولديهم وعي سياسي فطري يستعصي على كل الألاعيب المختلفة التي يمارسها الساسة المحترفون، ولا يمكن خداع هؤلاء البسطاء أو ثنيهم عن أهدافهم الحقيقية مهما استُخدِم الكلام المعسول ورفعت الشعارات البراقة، فجموع الشعب المصري لم تشغل نفسها بالمعارك الوهمية التي صنعها البعض من خلال رفعهم لشعار "الدستور أولا" فهذا الشعار في قناعة ووعي وضمير غالبية المصريين ما كان إلا قميص عثمان الذي استخدم أسوأ استخدام للالتفاف على إرادة الجماهير، وكل هذا الغبار الثائر الذي هيجه أنصار الدستور أولا لم يفلح في أن يغير شيئا من قناعات الناس، وكل هذا الضجيج كان مجرد جعجعة بلا طحن لم تنجح في صرف غالبية الشعب عن إرادتها الحرة التي عبرت عنها في الاستفتاء.

ثانيا:

يوجد شعور عام لدى معظم قطاعات الشعب المصري بأن هناك أيادٍ كثيرة تعبث بالثورة المصرية وتريد إجهاضها والالتفاف عليها، ويسرف أنصار نظرية المؤامرة في الحديث عن سيناريوهات مفزعة للتآمر، وينطلق خيالهم الجامح في تصور خطط شيطانية تريد النيل من مصر وعزتها وشل حركتها وكسر إرادتها وإهدار هيبتها وكرامتها وريادتها في المنطقة، ورغم المبالغات المعتادة لأصحاب فكرة المؤامرة ـ وعدم قناعتي الشخصية بكثير منها ـ إلا أن هناك بالفعل مؤشرات عديدة وتحليلات منطقية تدل على وجود قوى متآمرة محلية وإقليمية ودولية  تسعى لإفشال الثورة المصرية وإبعادها عن تحقيق أهداف الثوار ومطالبهم الأساسية، ويجب علينا جميعا التصدي بوعي وحكمة لصد كل هذه المؤامرات الآثمة.

ثالثا:

هناك حالة من الالتباس والغموض والتعقيد الشديد تشوب مواقف بعض الأطراف داخليا وخارجيا من الثورة المصرية، إلا أن ما جرى خلال الخمسة أشهر الماضية من أحداث وما اتُّخذ من قرارات وما صدر من أحكام قضائية، يثير الريبة في نفوس المصريين تجاه ما يحدث، ويشكك في وجود رغبة صادقة أو نية جازمة لدى معظم المسئولين في مصر الآن في إسقاط النظام السياسي السابق بشكل تام، والتخلص من جميع رموزه وأفكاره وعقليته وفلسفته في الحكم وطريقة إدارته لمؤسسات الدولة، ويعضد ذلك كثير من التناقضات التي لا يزال يراها أبناء الشعب المصري بعد الثورة، فلا تزال البلد تدار بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، ولا تزال بعض رموز النظام السابق موجودة في مواقعها، بل يضم مجلس وزراء الثورة الحالي شخصيات جاءت من رحم النظام السابق وكانت تنتمي للجنة سياساته، فكيف يدير هؤلاء مصر الثورة ويعبرون عن آمال وطموحات شعبها وبناؤهم النفسي وتكوينهم الثقافي وعلاقاتهم الاجتماعية وعقلياتهم وعواطفهم ومشاعرهم جزء أصيل من النظام السابق يعبر عنه ويدين له بالولاء التام؟!! ويجب فعلا على حكومة الدكتور عصام شرف والمجلس العسكري تطهير مصر من كل هؤلاء دون خوف من اللعب على وتر الرغبة في الإقصاء والانتقام، فهذا غير وارد مطلقا وثورتنا العظيمة من أعظم الثورات الشعبية في التاريخ البشري ولا يمكن أن تفكر في الانتقام من أحد أو التشفي فيه، لكن لا يعقل أن تكون وجوه النظام السابق مستأمنة على تحقيق أهداف ثورة شعبية واسعة انفجرت ضده في كل ربوع مصر!!

رابعا:

زاد من حدة شكوك الثوار ومخاوفهم طريقة التعامل حكومة الثورة والمجلس العسكري مع مجرمي النظام السابق وضباط شرطته المتورطين في جرائم قتل المتظاهرين والمتهمين بارتكاب الكثير من الجرائم وتجري محاكمتهم حاليا بطريقة بطيئة وغير ناجزة، وبعضهم نال البراءة الأمر الذي أثار مخاوف أبناء الشهداء والضحايا بوجود شبهة التواطؤ، وإحساس الجماهير باعتماد نفس طريقة النظام السابق في التعامل مع الشعب من حيث تجاهل مشاعره ومطالبه والاستعلاء عليه، وإهدار مبدأ العدالة وسيادة القانون، والانحياز لجانب ضباط أمن الدولة وكأنهم فوق القانون، وقد قامت الثورة لتغيير كل هذا وتحقيق العدالة والحرية والمساواة بين جميع أبناء الشعب، وكون الحكومة الانتقالية تسير عكس ذلك، وتكرس نفس المفاهيم القديمة فهذا يعني أن النظام السياسي السابق لم يسقط بعد رغم سقوط كبار رموزه، وهذا يؤكد امتلاك ذلك النظام منظومة قوية وعقلية استبدادية لديها شبكة معقدة جدا من البُنَى الاقتصادية والاجتماعية لا تزال تتحكم في مسارات الأمور حتى الآن!! ولا بد من البدء فورا في تفكيك هذه الشبكة من أجل مصر وشعبها.

خامسا:

لقد كان النظام السابق حريصاً جداً على محاربة النزاهة وإشاعة ثقافة الفساد بين الناس؛ لإفساد أكبر عدد من الناس من باب كسر الأعين، وإخراس الألسنة، وقطعا أدى ذلك إلى وجود خلل حقيقي في منظومة القيم، وتلوث الضمائر، واهتزاز المعايير الأخلاقية لدى قطاع كبير من كبار الموظفين في سلم البيروقراطية المصرية؛ وهؤلاء يريدون حماية مصالحهم ويظنون أن الثورة خطر عليها، ومن هنا يمكننا القول: إن النظام الفاسد الذي حكم مصر طيلة العقود الماضية لا يزال حاضرا بقوة رغم سقوط رأسه وكبار رموزه ، لكنه لا يزال متغلغلاً في بنية المجتمع البيروقراطية ولا يزال يدير دولاب العمل ودواوينه المختلفة بنفس العقلية الاستبدادية السابقة!! وتخليص المجتمع المصري من هذا النمط من التفكير يحتاج إلى علاجات جذرية وقرارات جريئة تؤلف قلوب هؤلاء وتكتسبهم في صف الثورة وتدمجهم فيها، أو تقوم باستبعاد كهنة المعبد وسحرة فرعون تماما من الساحة إن لم نستطع تغيير قناعاتهم وأيديولوجياتهم السابقة، وإلا فسيكون هؤلاء أكبر عقبة تعترض طريق الإصلاح؛ لأنهم سيعملون في الخفاء ضد الثورة التي يرونها خطرا داهما عليهم وعلى مصالحهم.

سادسا:

طبيعي جداً بعد السنوات الطويلة من سيطرة نظام مبارك على جميع أوجه الحياة في مصر وحربه التي كانت شبه معلنة على النزاهة ونظافة اليد طبيعي أن تصاب مصر بأدران وأدواء اجتماعية خطيرة كانتشار الرشاوى والفساد المالي والإداري وخراب الذمم وموت الضمائر، وهشاشة بنية منظمات المجتمع المدني، ووجود جيوش جرارة من الانتهازيين والطفيليين والمنافقين، وطبيعي جدا وصول ذلك الفساد أو جزء منه إلى مؤسسات خطيرة في الدولة كوزارة الداخلية وبالتحديد قطاع أمن الدولة الذي كانت مهمته حماية أمن النظام وحماية مشروع التوريث والدفع إليه وتهيئة المجتمع للقبول به من خلال وجود تحالفات واسعة مع رجال الأعمال والتزاوج بين السلطة والثروة، وامتلاك السطوة والنفوذ وتكوين طبقة عريضة من المنتفعين والوصوليين وكل هؤلاء يمكنهم أن يكونوا فلولا للنظام تسعى لتجميع قواها وتنظيم أنفسها من جديد لضرب الثورة في مقتل، ولا يستبعد أن يتعاون بعض هؤلاء مع أعداء مصر في الداخل والخارج للحفظ على مصالحهم الشخصية ولو أدى ذلك للانقضاض على الثورة والإجهاز عليها، وبالتالي لا بد من اتخاذ إجراءات فعلية وفورية وجذرية وشاملة لتطهير هذه الوزارة وبناء جهاز شرطة عصري على أسس حضارية يحمي مصالح الوطن ويحافظ على هيبته وفي نفس الوقت يحترم كرامة المواطن، وهذا يستلزم وضع خطة طموحة شاملة بدءا من معايير اختيار طالب كلية الشرطة وطريقة إعداده وتكوينه المهني والنفسي والثقافي.

سابعا:

يحتاج الإنسان أحيانا لجراحات عاجلة تستأصل جزءا منه لإنقاذ حياته، والتأخير في ذلك الإجراء قد يكون شديد الضرر وفيه خطورة حقيقية على حياته؛ ولذلك يجب التحرك سريعا جدا قبل فوات الأوان، ونفس الشيء يحدث للمجتمعات بعد الثورات الكبيرة، وثورتنا المباركة التي صنعها شبابنا الأوفياء الأبرار بدمائهم وقوة إرادتهم تفرض علينا جميعاً الآن أن نبحث عن طرق علمية وعملية سريعة لتفكيك بنية النظام الفاسد الذي حكمنا طيلة العقود الماضية، وتطهير البلاد منه، وتجب مبادرة جميع القوى المصرية الآن وفورا لمحو وإزالة كل السلبيات والعيوب التي رسخها فينا النظام السابق، ولنبدأ بمحو ثقافة الجشع والطمع والأنانية، ولنبادر بتطهير قلوبنا وتخليص عقولنا ونفوسنا من شوائب وأدران تلك المنظومة الفاسدة التي فرضت علينا وعشنا فيها بسبب مناخ الظلم والفساد والإفساد الذي شاع في مجتمعنا طوال السنوات الماضية.

ثامنا:

ينبغي لنا الآن أن ندرك الواقع كما هو دون تهويل أو تهوين، ويجب ألا نغالي في الفرح أو نسرف في التفاؤل، وألا نبالغ كذلك في القلق والحذر والترقب والتشكيك في نوايا بعضنا البعض؛ ويجب علينا أن نتوحد خلف المطالب العامة التي نجمع ونتفق على أنها تحقق مصلحة مصر؛ فمصر أولا.. مصر لنا جميعا، وعلينا أن ننحيَ جانبا كل نقاط الاختلاف، وألا نلح عليها ونستدعيها باستمرار في حواراتنا ومناقشاتنا المختلفة؛ فمن شأن هذه الحال القلقة المضطربة المتشككة في الآخر المخونة له المتهمة لنواياه غير القادرة على رؤية الواقع كما هو بما فيه من تحديات ومبشرات ـ من شأن هذه الحال أن تُنْسِينا أو تشوش على أذهاننا تحديد الأهداف الكبرى والغايات السامية التي قامت الثورة من أجلها، وأن تسبب لنا نوعا من الإرباك وفقدان البوصلة، والوقوع في الشقاق والنزاع والغرق في الفوضى لا قدر الله، وحتى لا يحدث ذلك علينا جميعا الآن وفورا أن نبادر إلى شحذ هممنا، وإخلاص نوايانا، وتوجيه كل طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي جوهري وحقيقي في نفوسنا وأفكارنا وقناعاتنا وتوجهاتنا وتصوراتنا عن الآخر، وتعاملاتنا مع بعضنا البعض، وإدارة حوار راق وبناء فيما بيننا؛ فهذه هي البداية الحقيقية لتغيير منظومة الدولة كلها بجميع هياكلها ومؤسساتها ومجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وعندئذ سنلمس جميعا ما يحدث من تغيير ونشعر به ونجني ثماره!!

                

 * كاتب إسلامي مصري