غير أن بعض الظن حدس

غير أن بعض الظن حدس..!

حسين حسن السقاف

[email protected]

أول ما خطر على بالي وأنا أتسلم  من المطبعة نسخ روايتي (الرجل الحوت) هو أن أذهب إلى ميدان الجامعة في العاصمة صنعاء لأتلو على ثوار التغيير الإهداء الذي خصصته للثوار في ساحات الحرية والتغيير في وطننا العربي الكبير باسم (دمعة وهمسة) والدمعة هي على الشهداء الذين ذهبت أرواحهم في سبيل هذه الغاية  أما الهمسة فهي لتحذير الشباب من سُراق الثورة وقراصنتها ممن قد يختلطون بهم .

لم يمض أسبوع على تسلمي هذه الرواية حتى استدعى الأمر سفري إلى القاهرة  فتحركت من مدينتي سيئون مرورا بالعاصمة صنعاء التي مكثت بها يومين ، أول ما وصلت صنعاء توجهت إلى حي الجامعة حيث مسلة الحكمة اليمانية  وكنت أحمل عدد ثلاث نسخ من روايتي  لأمنحها لشباب التغيير ، وصلت إلى موقع اللجنة الإعلامية  بجانب المسلة أمام بوابة الجامعة سلمتهم النسخ التي أحملها وطلبت منهم أن يقرئوا الإهداء في المنصة التي كان عدد من الشباب يتزاحم حولها؛كانوا يريدون التعبير عن مشاعرهم تجاه الثورة ، انتظرت حتى كان الناس يتهيئون للذهاب إلى شارع الستين لتأدية صلاة الجمعة فذهبت في زمر الذاهبين إلى الصلاة.

 في اليوم التالي عدت إلى ساحة التغيير وقصدت أحد الخيم الكبيرة والأنيقة نسبة إلى غيرها ، كان بها قرابة عشرة من الكهول وقد بدا لي من كلامهم  وهيئاتهم أنهم من المثقفين ؛ لم أكن أعرف إلاَّ البعض منهم ، فقط من صورهم ؛ عدا واحدا وهو الأخ محسن خسروف  الذي ربطتني به معرفة قديمة وهو يكتب في بعض الصحف ،كانوا يتداولون الرأي فيما بينهم . عرَّفتهم بنفسي وذكرت لهم بأنني قادم من حضرموت وأنني خصَّصت أحد عتبات روايتي الأخيرة إهداءً للثوار وذكرت لهم شيئا منه وكنت أحفظ الأبيات الشعرية التي ضمنتها ذلك الإهداء وعند ما فرغت من إلقاء هذه الأبيات أعجبوا بها وصفقوا لها.

خلال زيارتي للقاهرة كثيراً ما كنت أذهب إلى ميدان التحرير ، لأختلط بشباب الثورة في الميدان غير أنني أول ما زرت الميدان كان في يوم جمعة  وكان هناك حشدٌ كبير وكنت وقتئذ أحمل في يدي نسخة من روايتي المذكورة ، جلست حينها على يمين مدخل شارع طلعة حرب المفضي إلى ميدان التحرير  أحتسي - في ما بقي من ظل العمارة المطلة على الميدان - فنجانا من الشاي من أحد الباعة المتجولين الذين يفترشون حاشية الشارع  وكان من حولي باعة الأعلام الوطنية و الاكسوارات والميداليات ومساحيق الألوان التي يوشمون بها وجوه الصبية والفتيات تلك الألوان المكونة لغالبية أعلام الدول العربية التي أشتملها قول الشاعر صفي الدين الحِلي الذي جعلني المشهد أستحضر قصيدته :

سل الرماح العوالي عن معالينــا  **  واستشهد البيض هل خاب الرجاء فينا

بيضٌ صنائعـُـنا سودٌ وقائعُنــا **  خضرٌ مرابعُنــا حمرٌ مواضيـــنا

كنت حينها أرقب المنصة الخشبية بجانب الدرابزين الحديدي الأخضر للشارع ، كان البعض من الراغبين في التعبير عن مشاعرهم النثرية والشعرية  يتدافعون على المنصة .

 بعد أن شربت الشاي حملت نفسي إلى المنصة على قدمي التردد والإقدام ، قصدت شاباً كان ينظِّم حركة الصاعدين إلى المنصة ، عرَّفته بأنني روائيٌ قادم من اليمن وفتحت كتابي وطلبت منه أن يُلقي الإهداء بالميكرفون ؛ عندها ابتسم وأشار بطرفه إلى شاب أخر كان ينظر إليه ؛ جاء الشاب وقراء بصوتٍ خافتٍ سريع الإهداء ثم أبتسم قائلا : جميل أصعد لتُلقي الإهداء بنفسك على مسامع الحشد وكان يقول مع صاحبه للمحتشدين على المنصة: أفسحوا لأخيكم الروائي القادم من اليمن ليقول كلمته ، وسرعان ما خلت المنصة من محتشديها وارتقيت درجاتها اليسيرة وبعد أن تم تقديمي للحشد قرأت الإهداء كاملاً وهو:=

دمعة ٌ وهمسة

    ليس لديَّ ما أهديه إلى الشهداء ودمائهم الزكية الطاهرة وإلى الثوار الشباب في ساحات الحرية والتغييـر في وطننا العربي الكبير الذي تتشكل اليوم ملامح نهضته ووحدته الحقيقية .. لقد منح هؤلاء أمتنا المحتضرة - بفعلهم – قُبلة الحياة . فكانت تضحياتهم من أجل  عودة سمونا ، و سعادتنا، وسيادتنا على أرضنا..

  لا يسعني إلاَّ الالتحام بهم ، ووضع يدي على أيديهم ، ومعانقة صوتي لأصواتهم، والمطالبة بمطالبهم السلمية البعيدة عن النـزق ، الملتزمة بالأخلاق العامة.

   لقد صنع هؤلاء – بفعلهم - لوحة (بانورامية) ، مشرقة، رائعة ، تعكس جوهر تراثنا وقيمنا. وغرسوا لوحتهم في رحم التاريخ ليسجلها لنا بأحرفه النيـرة في صفحاته الوضَّاءة.. لذلك فإنني أردُ على من خالفني الرأيَ بهذه الكلمات التي أنشأتها:

كُنـا أصحــاب سمــوٍ

كُنـا أصحــاب سيـادة

كنـا كالإخــوة نـعيش

كنـا في الأوطـان سـادة

فسُلِبـنا كـل ذلـك!!

أوتـدري من "سلــبنا" ؟

إنهـم أهـل السمـــو

والمعــالي  والسيــادة

ختاماً فإنني أهمس في أذن إخوتي الشباب:

- تحملوا مسؤوليتكم في الحفاظ على ثوراتكم من لصوص الثورات وقراصنتها..!!

أخوكم المؤلف

عمد الحشدُ في الميدان على التصفيق الحار لتلك الكلمات فتملكني شعورٌ بأن الإهداء قد وصل إلى المهدأ إليه في القاهرة  وانتابني إحساسٌ غريبٌ خشيت أن يكون من وسوسة عزازيل فتمتمت ببعض الاستغفارات والتحاميد لله الذي حقق ذلك، وما أن ترجلت من المنصة حتى تقاطر عددٌ من المحتشدين الىَّ ،كانوا يسألوني عن حال الثورة في اليمن..كيف انقسم الناس في اليمن بين مناصر ومناوئ للثورة . غير أنني لم أخبرهم بأن الثوار في ساحة التغيير في صنعاء لم يسمح لهم من اعتقدت بأنهم قراصنة الثورات - الذين حذرت منهم - بالسماح بإعلان هذا الإهداء لأسباب عدة لعل أهمها هو أنه كان عليَّ أن التمس لهم سبعين عذراً وثانيها هو أن بعض الظن أثم ..غير أن بعض الأخر حدس.