النضال السلمي ووسائله

محمد علي شاهين

[email protected]

فشلت كافّة نداءات الإصلاح لوقف تغوّل الأنظمة الديكتاتوريّة على الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في العالم الإسلامي ولجم استبدادها، ووقف استشراء فسادها.

وعجز حكماء الأمّة عن منعها من الظلم وميلها عن الباطل إلى الحق، وكف أيديها عن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.

وزاد التعسّف والتسلّط والفساد حتى سقطت أعذار أمّة افتقدت خلال مسيرتها الطويلة من الحكم الراشد إلى حكم الجور، عادلاً مثل أبي بكر (رضي الله عنه) فهم بحكمته معنى الطاعة في أمّته وشروطها حيث يقول: أطيعوني ما أطعت الله فيكم فان عصيته فلا طاعة لي عليكم".

وظنّ قصّار النظر وفاقدو البصيرة أنّ الشريعة تأمر بالذل والخنوع، وقد فاتهم أنّ جمهور العلماء أوجب عصيان الحاكم الذي يعصي الله في رعيّته ولا يتقي الله فيهم، فانتفت طاعة من خان الله ورسوله، وسفك دم شعبه وشرّده، واغتصب أموال الدولة وأراضيها، وكمّم أفواه الأحرار، ووالي الأعداء، وقرّب إليه المنافقين، وتاجر بأقدس القضايا. 

وكان على الشعوب المسلمة في غياب الخليفة الصالح، وأهل الحل والعقد، أن تأطر الأنظمة على الحق أطراً حتى يزعنوا له، بالنضال السلمي أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وإمّا بالثورة المسلّحة عليهم حتى يسمعوا كلام الله. 

وتلفّت شباب الأمّة حولهم فإذا حركات التحرّر الوطني من الاستعمار والأنظمة المستبدّة في العالم تذخر بالتجارب الناجحة والنماذج الحيّة الرائعة، وأنّهم لا يعيشون في هذا العالم وحدهم.

فلقد شهدنا بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفييتي، ثورات شعبيّة سلميّة بلون الزهور التي حملها المتظاهرون، أو بلون الحبر الذي خضّب أصابع المشاركين بالانتخابات، أو بلون الوشاح الذي يرتدونه، غيّرت مجرى التاريخ في بلدانها مثل: الثورة الورديّة في جورجيا في عام 2003 التي حقّقت أهدافها دون سقوط نقطة دم واحدة، واستطاع ميخائيل ساكاشفيلي الذي قاد المتظاهرين إلى مبنى البرلمان اقتحام بوابة قاعة البرلمان ممسكاً بوردة حمراء ذات ساق طويلة وصاح بوجه شيفرنادزه "استقيل"، ملوحاً بالوردة في وجه الرئيس الجورجي، وثورة القرنفل في البرتغال في عام 1974 التي تعد نقطة تحول في تاريخ البرتغال، إذ حولت النظام السياسي من نظام ديكتاتوري حكم لأكثر من نصف قرن إلى نظام ديموقراطي،  والثورة البرتقاليّة في أوكرانيا نسبة إلى لون الوشاح البرتقالي الذي ارتداه المتظاهرون في عام 2004، ضدّ نتائج الانتخابات المزوّرة.  

وحرّكت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري المشاعر الوطنيّة في الرابع عشر من آذار وأضرمت ثورة الأرز السلميّة المطالبة برحيل القوات السوريّة المتهمة باغتياله، وغيرها من الثورات التي قصمت ظهر الأنظمة الدكتاتوريّة وفضحتها، وكان من حقّهم أن يستلهموا من هذه التجارب أسلوب نضالهم السلمي ويبتكروا وسائله. 

لقد وجدت الأفكار الاحتجاجيّة هوى متّبع في أوساط المثقّفين الشباب في العالم العربي، وأرضاً خصبة لمشروعها الإصلاحي، بسبب تراكم الأخطاء على مدى عقود، وتفشّي الفساد في كافّة الميادين، وتغوّل أنظمة الاستبداد على مناحي الحياة، واستخدام العصا الغليظة لقمع الأفكار، وغباء الأقليّة الطائفيّة المتمترسة وراء الحزب القائد للدولة والمجتمع، وتحالف أعمدة الحكم مع البورجوازيّة الوطنيّة، والمؤسّسة الأوقافيّة الانتهازيّة، فأثمرت ثورتهم ثمراً طيّباً. 

وظنّ بعض الشباب أن اللاعنف يخلو من التحدّي والمواجهة والتضحية، وأنّ إدارة وسائل الاتصال الحديثة بسطحيّة تغني عن عالم الأفكار والمبادئ وتجارب الآخرين من أحرار العالم، وتعصم حركتهم السلميّة من مكر أنظمة الاستبداد، وأنّ المستبد وزبانية نظامه الفاسد ومرتزقته يستسلمون بسهولة لكلمة (ارحل)، وأنّ وردة ساكشفيلي وكلمة (استقيل) قادرة على صنع التغيير المنشود.

ومع هذات فقد أضاف الشباب العربي إلى أسلوب الصراع المدني مع الأنظمة الديكتاتوريّة الفاسدة إضافات جديدة: خروجهم من بيوت الله بعد صلاة الجمعة بأعداد غفيرة، وحراستهم الممتلكات العامّة ومنعهم التخريب، وتلقيهم الرصاص الحي بصدور عارية، ونظمهم الأهازيج التي عرفها جيل الاستقلال، وترديدها بجرأة ملء حناجرهم، وفضحهم حكام الجور والاستبداد وحجم الفساد، وانشقاق الأحرار، والانسحاب من حزب السلطة، وتعريتهم منافقي الأنظمة، وهتكهم حقيقة المتاجرين بأقدس قضايا الأمّة، وجعلونا نسخر من تلك الأصنام البائسة التي نصبت لتعبد من دون الله وهي تتدحرج تحت أقدامهم.      

ولم تكن ثورات الشعوب العربيّة وحركاتها الاحتجاجيّة السلميّة في الماضي والحاضر في تونس ومصر وليبيا وسوريّة واليمن بدعا في تاريخ الثورات العالميّة. 

ففي أمريكا ألقى المحتجون على ضريبة الشاي حمولة ثلاث سفن بريطانيّة في عرض البحر بميناء بوسطن، كانت الشرارة التي أشعلت الثورة الأمريكيّة عام 1773، وحركة المطالبة بالحقوق المدنيّة بزعامة مارتن لوثر كينغ في الولايات الأمريكيّة الجنوبيّة، وحركة الاحتجاج على الحرب في فيتنام والحرب على العراق في أمريكا. 

وأدركت بريطانيا بعد هدم الامبراطوريّة الإسلاميّة في الهند أن مصدر الحركة الاستقلاليّة هم المسلمون، فاصطنعت غاندي وسلّطت الأضواء عليه في مسرحيّة نفيه إلى جنوب إفريقيا، فكان بطل المرحلة في غياب زعماء المسلمين الذين زجّتهم في السجون، وحرمتهم من حريّة الحركة، حتى أنّهم كانوا يستخدون المناديل الحريريّة لكتابة بيانات الثورة خلال المرحلة السريّة التي مرّت بها قضيتهم العادلة، وعلى رأسهم الشيخ محمود بن الحسن الديوبندي الذي وضع خطّة لتحرير الهند من الإنجليز، بالاستعانة بالحكومة الأفغانيّة، والخلافة العثمانيّة، وهيّأ لها جماعة من تلاميذه، وممن يثق بهم من أصحابه، ولمّا اشتدت عليه الرقابة في الهند سافر إلى الحجاز، سنة 1333/1915 وأقام بمكّة وقابل الوالي التركي غالب باشا سراً، والتقى بأنور باشا، وجمال باشا بالمدينة المنوّرة، وأخذ منهما وعداً بتأييد قضية بلاده في صراعها ضد الاستعمار البريطاني، وأخذ يتصل بالحجاج الهنود ويحثهم على الثورة، واتخذ المناديل الحريريّة وسيلة للاتصال مع أنصاره في القارّة الهنديّة، فسميت حركته ب(حركة المناديل الحريريّة). 

واستطاع غاندي قيادة حرب الاستقلال بطريقة سلميّة مبتكرة تحفظ مصالح الانجليز وأرواحهم، فبدأ بالمفاوضات، ثم بالاحتجاجات، ثمّ بالمقاطعة، ثم بعدم التعاون مع السلطات، ثم بالعصيان المدني، فكان هذا التدرّج درساً عمليّاً قلّدته الشعوب في صراعها ضد أنظمة القمع والفساد.

وحذّر شعبه من اليأس إذا لم تتحقق أهدافهم، ودعاهم لابتكار أسلوب آخر من أساليب المقاومة إذا سدّت الطرق، فلكل زمان ومكان ثورته. 

وقاد القس (ديزموند توتو) نضالاً سلميّاً ودعا إلى العصيان المدني من أجل تحرّر السود من النظام العنصري، ولم يكل عن الدفاع عن حقوق المظلومين والمقهورين، وكان الضمير الحي لإفريقيا، ورأى توتو أن ما جرى في جنوب إفريقيا يمكن ان يكون انموذجا لدول اخرى تفتقد الحريّة والكرامة وتعاني من التمييز العنصري. 

أمّا ردّة فعل الحكام العرب الذين انتهت صلاحيتهم بسبب التقادم والفساد تجاه الثورات الشعبيّة والاحتجاجات السلميّة في بلادهم فتتراوح ما بين خالع لنفسه معترف بخطئه (بن علي ومبارك)، إلى مكابر عنيد متمسّك بعرش السلطة لا يتورّع عن زجّ البلاد والعباد في أتون الفتنة (القذافي وبشّار)، غير عابئ بما يجرّه تمسّكه بالسلطة على أمّته من دمار، وعلى نفسه من  عار. 

لأنّ المكابرين لا يدركون أنّ هذه الاحتجاجات حق طبيعي ووسيلة حضاريّة من وسائل المطالبة بالحقوق المشروعة، ويعتبرون أنّ الحراك الشعبي بهذه الكيفيّة خروج على القانون وتعويق للتنمية وضرب للممناعة.

ومن الجدير بالذكر أن القانون لا يجرّم العصيان المدني بسبب عدم وجود نص قانوني يحرّم هذا النوع من االمقاومة، لأنّه مظهر من مظاهر التعبير عن الرأي، وباعتباره حق من حقوق الشعب لتحقيق مطالب مشروعة، فلا يحقّ لأيّة جهة ممارسة العنف ضدّ المقاومين السلميين.

ومن أجل تعزيز أساليب الصراع السلمي مع الأنظمة الجائرة، فقد رأينا في هذا المقام تسليط الضوء على بعض الأساليب العمليّة لتكون زاداً للقيادات الشبابيّة في نضالها المشروع.

إنّ كتابة الشعار السياسي على الجدران تعتبر رسالة موجّهة لنظام كمّم الأفواه وحرم الشعب من وسائل التعبير، ولقد دفع أهل درعا ثمن هذا الشعار أظافر أطفالهم، لكنّها كانت الشرارة التي أشعلت نار الثورة في طول البلاد السوريّة وعرضها.

أمّا الكتابة النقديّة للأوضاع الفاسدة، وطرح البدائل، وكشف حجم الفساد، وتمجيد البطولة، فهي أسلوب متمدن للنضال السلمي، وخاصّة إذا كان القلم يعبر بصدق عن عذابات الناس وأمانيهم، وخاصّة تلك المقالات التي مهّدت للثورة وأبقت على جذوتها مشتعلة.

ولا يخفى دور الآداب والفنون في إشعال جذوة النضال، فكم من قصيدة حفظتها شعوبنا لشاعر عربي أدّى مهمته التنويريّة بجسارة، فكان لسان الشعب المعبّر وضميره الحي، فلا عجب أن تأتي قصائد الشعراء في هذه المرحلة من حياة الأمّة إضافة قيّمة لديوان العرب.

وكانت مهمّة المثقفين العرب في الخارج أينما وجدوا استنهاض الهمم، وحشد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لكبح جماح الديكتاتوريّات، وكف أيديها عن الولوغ في دماء المواطنين، بجرأة لا تقل عن كشف الصدور أما فوهات البنادق وسكاكين الشبيحة.

ومن أساليب المقاومة السلميّة مقاطعة صحف النظام وإذاعته ومحطات تلفزيونه، وكشف أكاذيبه ومغالطاته في وسائل الإعلام المحايدة، وبناء إعلام الوطني حرّ يتجاوز صوته حدود الوطن السجين.

وتوزيع المناشير والبوسترات، وعرض صور جرائم القمع السياسي، وتعليق اللافتات والرايات،  واستخدام كافّة وسائل الاتصال الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وبث المشاهد المثيرة من خلال أجهزة الاتصال إلى المحطات الفضائيّة العالميّة، ووكالات الأنباء والصحف.

وتحطيم كافّة الأصنام المنصوبة في الساحات العامّة، وإنزال كافّة صور الديكتاتور، وشعارت حزبه، لنزع القداسة من قلوب الشعب التي أحاط بها نفسه.

ومن البديهي أن يقف رجال الدين مع الشعب وذلك بإصدار الفتاوى الشرعيّة ضد الفساد، والدعاء في الصلاة الجهريّة على الظالمين، والتكبير في المآذن وعلى أسطحة المنازل في ساعات معيّنة. 

ومن الأساليب المشروعة: المسيرات الشعبيّة وإشراك النساء والأطفال في فعالياتها، والاعتصام في الساحات العامّة (ساحات التحرير والتغيير)، والجلوس وسط الشارع لمنع مرور الدبابات والعربات العسكريّة، وارتداء قميص أو شال بلون معيّن.

ومن أساليب الصراع السلمي الاقتصادي مع الأنظمة الفاسدة حرمان أعمدة النظام من تهريب الأموال المنهوبة، وكشف أرصدتهم بالخارج، ومقاطعة مصانع ومتاجر الفاسدين وعملاء السلطة؟، ومقاطعة بضائع الدول المساندة للدكتاتوريّة.

وفي مرحلة متقدّمة من النضال إعلان الإضراب العام بإغلاق المتاجر، ومقاطعة الدوائر الحكوميّة، وتعتبر سوريّة رائدة في هذا اللون من النضال السلمي، ففي عام 1936 قامت حملة شعبيّة لمقاطعة شركة الكهرباء الفرنسيّة بدمشق بسبب رفعها اجرة تذكرة الترام نصف قرش، وما لبث الإضراب أن شمل جميع المدن السوريّة فأغلقت المتاجر والمعاهد والدوائر الحكوميّة، ثم تحوّلت المطالب إلى ثورة عارمة للمناداة بالاستقلال، وقد استمرّ الإضراب العام الذي يذكره المعمّرون السوريّون ستين يوماً.  

وافتعال الأزمات الاقتصاديّة، والامتناع عن دفع الضرائب والرسوم وفواتير الماء والكهرباء والهاتف، وسحب المدّخرات من البنوك وتحويلها إلى مواد تموينيّة وعملات أخرى، وسحب الرواتب من البنوك لإرباك النظام وإخلاء البنوك من السيولة الورقيّة.

وافتعال أزمة في الإنتاج لإرباك النظام الجائر بخفض كميّة الإنتاج في مصانع الدولة وذلك باتباع أسلوب (التباطؤ في العمل).

وممارسة العصيان المدني في ميدان الخدمات، وذلك بافتعال أزمة مرور حقيقيّة بخفض سرعة السيارات (التباطؤ في السير) داخل المدن بالتدريج يوماً بعد يوم. 

وتعبئة بنزين السيارة في يوم معيّن من أيام الأسبوع بشكل جماعي، والامتناع عن تعبئة الخزّان في بقيّة أيام الأسبوع لإرباك عمليّة تكرير البترول وتخزينه وتوزيعه.

والامتناع عن الصلاة خلف رجال الدين المنافقين، ومقاطعة الموالين للنظام بالامتناع عن مجالستهم ومؤاكتهم ومشاربتهم حتى يمتنعوا عن الظلم وينحازوا إلى أمتهم، حتى سقوط النظام وتحقيق المطالب المشروعة.

وليعلم الثوّار أنّ أخطر امتحان تتعرّض له حركة المقاومة هم أبناؤها الذين يصدّقون الوعود الكاذبة فيذعنون، وأولئك الذين لا يملكون الصبر لتحقيق النصر فينسحبون من المعركة قبل تحقيق أهدافها، وأولئك الذين يمتطون ظهر الثورات للوصول إلى مآربهم وأهدافهم الخفيّة. 

وعندما يسرف النظام في القتل، وتسدّ أبواب التغيير السلمي، ويصبح النضال السلمي مضيعة للوقت، تكون العودة الحميدة إلى ساح الجهاد فرض عين، ويكون السير على نهج: الجزائري والخطابي والمختار وهنانو الذين أخذوا بأيدينا نحو الحريّة والاستقلال هو السبيل الأمثل.