الثورات العربية بين الإيمان والإلحاد
الثورات العربية بين الإيمان والإلحاد!!!
حسام مقلد *
عرضت مخرجة تونسية مغمورة تدعى "نادية الفاني" فيلما بعنوان 'لا الله ... لا سيدي' وهو فيلم يشكك في وجود الله تعالى ويدعو الناس إلى الإلحاد، ويدَّعي أن الثورة التونسية قامت ضد الإيمان بالله تعالى وضد استبداد النظام السياسي، وتجاهر المخرجة بأنها ملحدة لا تصلي ولا تصوم ولا تلتزم بأي شيء من تعاليم الإسلام، وأعلنت على الملأ أنها لا تؤمن بالله وتناهض الإسلاميين، معتبرة ذلك جزءا من حرية التعبير التي تمتلكها بموجب الميثاق العالمي لحقوق الإنسان!!
وفي الحقيقة لا أملك لهذه السيدة سوى الشعور بالشفقة عليها والدعاء لها ولأترابها بالهداية، فالله جل جلاله هو الحقيقة المطلقة في هذا الوجود سبحانه عز شأنه وتقدست أسماؤه، ونحن البشر في مسيس الحاجة إليه، ألا تنظر هذه المسكينة إلى حالها وحال البشر جميعا من الضعف والافتقار إلى الله تعالى؟! وماذا ستفعل لو باغتها فيروس ضئيل ضئيل لا يُرى بالعين المجردة ولا يعرفه أحد من قبل؟! بل ماذا تصنع لو انفجر في رأسها صداع عنيف بسبب ألم حاد في أحد أضراسها وعجز الطبيب عن علاجه؟! ألم تذهب هذه السيدة التي جاوزت الخمسين من عمرها إلى المستشفيات أبدا؟ ألا تعرف شدة حاجة البشر إلى خالقهم عز وجل؟! وماذا تفعل هذه المسكينة لو احتبس البول بداخل مثانتها عدة أيام؟! وكيف سيكون حالها لو عجزت عن طرد فضلات الطعام من جسدها ولم تستطع التخلص من أذاه؟!
ولا أعلم هل هذه السيدة متزوجة ولديها أولاد أم لا، لكن ألم تشاهد يوما وهي الفنانة المرهفة الحس والوجدان ابتسامة طفل بين أحضان أمه؟! ألم تفكر أبدا في قدرة الله تعالى الذي خلق هذا الطفل الجميل من قطرات من ماء مهين ثم نماه وأنشأه وسوَّاه خلقا آخر في أحشاء أمه؟ ألم ترَ في حياتها زهرة تخرج من أكمامها ناشرة معها العطر والجمال؟! ألم تر عصفورا صغيرا يقف متحفزا وسط أخوته منتظرا عودة والديه بالطعام؟! ألم تسمع يوما تغريد الطيور فوق الأيك والأشجار؟! ألم تجلس على شاطئ البحر قبيل الغروب لتشاهد قرص الشمس البرتقالي وهو يودعنا عند الأصيل مرسلا أشعته الذهبية نحونا فتتسلل خلسة إلى نفوسنا مع نسمات الهواء العليل المنعش؟! ألم يشدها منظر الشمس ونصفها الذهبي يستحم في زرقة البحر هناك عند نهاية الأفق حيث مستودع الأسرار والحكايات؟!!
ألم تشاهد هذه السيدة عبر التلفاز العواصف والأعاصير؟! ألم تسمع عن الزلازل والبراكين؟! إن قوة الله تعالى قاهرة "وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير" (الأنعام:18) والبشر كلهم ضعاف مساكين وفي أمس الحاجة لأن تتداركهم رحمة ربهم عز وجل، فمثلا: هل تستطيع هذه المرأة أو أحد من البشر أن يعيش في نهار دائم دون ليل أو العكس؟! "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون* قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون" (القصص:71،72) وماذا ستفعل لو زاد الإشعاع الكوني حولها؟ ولو اتسع ثقب الأوزون وتفاقمت المشاكل البيئية فماذا ستصنع هذه المسكينة؟!
غريب حقا أمر الملحدين هؤلاء!! إن الكون بمن فيه وما فيه كتاب ناطق يؤكد أن أعظم حقائق الوجود هو حقيقة وجود الله عز وجل، لقد شاهدت على مدى سنوات طويلة مئات البرامج (آلاف الساعات التليفزيونية) التي تتحدث عن الكون والحياة، وبكل أسف كانت النظرة الإلحادية هي السمة الغالبة على صانعي هذه البرامج، وفكرة التطور هي الفكرة المسيطرة عليهم!! رغم أن الحقائق شديدة الوضوح والمشاهد الطبيعية تنطق بوحدانية الله عز وجل: بداية من شحنة سالبة لإلكترون في ذرة، وانتهاء بأضخم مجرة، مرورا بكافة المخلوقات الحية وغير الحية التي نراها في الأراضين والسماوات، والبحار والمحيطات، والجبال والمرتفعات، والصحراء والسهول، والوديان والسهوب، وعوالم النبات وممالك الحيوان... فمن الذي يرزق المخلوقات المختبئة في جوف الأرض هربا من حرارة الشمس الحارقة في الصحراء؟! ومن الذي يطعم فقمة أو دبا قطبيا بوجبة لذيذة وسماكة طبقة الجليد من حوله تبلغ عشرات الأمتار وتغطي كل شيء؟! ومن الذي يهدي الخلد الأعمى إلى طعامه ويحمي حيوان الكسلان من أعدائه؟! من الذي وضع السم في العقارب والحيات، وملأ ضروع الأبقار بالحليب، وجعل نحلة تنتج أشهى الأطعمة وألذها طعما وأطيبها مذاقا ونحلة أخرى لا تقدر على ذلك؟!! من الذي بسط الأرض ومهدها ورفع السماوات بلا عمد؟! من الذي أهلك الملوك والجبابرة؟! من الذي أنجى إبراهيم ـ عليه السلام ـ من النار؟! وأهلك فرعون بالماء؟! وجعل مقتل النمرود بسبب حشرة تافهة؟! ألم تسأل هذه المرأة نفسها من الذي خلقها وجعلها تولد تونسية وتحمل ما تحمله من جينات وراثية؟! ولِمَ لَمْ تولد دانمركية أو هندية أو برازيلية؟ لِمَ لَمْ تولد وهي تحمل نسخة مختلفة من الـ (الدي. إن. أيه) لِمَ حملت هذه الصفات بالتحديد؟! ولِمَ لا تستطيع أن تغير من طبيعة شكلها أو من تركيب جيناتها؟!
الحق أن دعوى الإلحاد باطلة شكلا وموضوعا، ورغم ما يثيره الملحدون من شُبَهٍ لم يستطع أعظم فلاسفتهم أن يقدم برهانا عقليا واحدا يقنع به العقل السوي الذي يجد كل يوم بل كل لحظة في هذا الكون الشاسع أدلة دامغة على وجود الله تعالى ووحدانيته المطلقة عز وجل، وإذا كان الإسلام قد منح تلك المخرجة التونسية ـ كغيرها من البشر ـ حق أن تختار لنفسها ما تعتقده انطلاقا من قوله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف:29) ومن قوله عز وجل: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (البقرة:256) لكن ليس من حقها أن تصدم المجتمع التونسي المسلم بهذه الطريقة الفجة بما تحمله من أفكار وتعابير وإيحاءات مثيرة تتحدى مشاعر المسلمين التونسيين ـ متدينين وغير متدينين ـ بهذه الطريقة المستفزة المغرضة، لاسيما في هذا الوقت بالتحديد الذي يبحث فيه التونسيون عن الحرية والديمقراطية.
على أن الملمح السياسي هو الملمح الأبرز في هذه القضية وليس الملمح الفكري؛ إذ ما سر سماح السلطات التونسية بعرض هذا الفيلم في هذا الوقت بالتحديد؟ وعندما اعترض بعض الشباب التونسي وطالبوا بمنع عرض الفيلم في إحدى صالات العرض في العاصمة التونسية وتظاهروا مطلقين الهتافات المنددة بالفيلم تحرش بهم العلمانيون وحدث منهم ما نسميه في العامية المصرية بـ (جر شكلهم) وذلك لاستفزازهم واستثارة غضبهم للوقوع في الخطأ وارتكاب شيء من أعمال العنف، وهو ما حدث بالفعل وعندما وقع الصدام أسرع العلمانيون والملحدون التونسيون يصرخون ويولولون، وبادروا بالاتصال بالمجلس الأوربي لحقوق الإنسان، فلماذا فعلوا ذلك وكان بإمكانهم الذهاب إلى المحكمة التونسية التي لا تبعد عنهم سوى أمتار؟!! لكنها المؤامرة الكبرى على الثورات العربية حيث السعي إلى اختلاق المشاكل وتفجير الأحداث، واستثارة الصدامات والقلاقل هنا وهناك لتشويه الثورات العربية السلمية التي نجحت، ووقف انطلاق مسارها الصحيح المتجه بنجاح نحو إقرار نظام سياسي صحيح يوفر المناخ المناسب لولادة نماذج ديمقراطية عربية ناضجة وناجحة؛ كي لا تكون قدوة لغيرها من البلدان العربية.
وما حدث مؤخرا في تونس هو عين ما جرى في مصر في أحداث قرية صول، وفي إمبابة، وعند ماسبيرو، وعند مسرح البالون، أرأيتم كيف وجد العلمانيون الفرصة في كلام بعض الإسلاميين للغمز بهم والطعن في نيتهم بالانقلاب على الديمقراطية إن هم وصلوا للحكم؟! أنسيتم عبارات التخويف والترويع التي يفزع بها هؤلاء الشعب المصري على خلفية كلمات أو مواقف يندفع فيها بعض مشايخنا وراء حماسة العاطفة؟!
ولا أستبعد أبدا أن تتكرر هذه الفتن ويحدث مثلها ـ لا قدر الله ـ غدا أو بعد غد هنا أو هناك في أية قرية أو مدينة مصرية أو تونسية، وعلى الإسلاميين ـ خاصة السلفيين...!!!!ـ أن يفطنوا إلى هذه الألاعيب جيدا، وألا يستدرجوا إليها بسهولة، وأن يعلموا أنهم مراقبون ومستهدفون، وأن ردود أفعالهم وتصرفاتهم المختلفة ترصد بكل دقة، وليست محسوبة عليهم فقط بل هي محسوبة على التيار الإسلامي برمته بكل أجنحته وفصائله، ولا نبالغ إن قلنا: إن هناك جهات كثيرة داخل وخارج الوطن العربي تسعى إلى تشويه الإسلاميين وإفشال مشروعهم النهضوي، من خلال استدراجهم إلى أية أعمال عنف واسعة النطاق تستعدي عليهم الجماهير؛ ويكون ذلك ذريعة لإجهاض حركاتهم والانقضاض عليهم بقسوة وإعادتهم إلى السجون مرة أخرى!!
* كاتب إسلامي مصري