الثورات العربية ومشروع النهضة (1)
محمود المنير
مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت
الربيع العربي المأمول الذي هبت نسائمه وبشرت بمجيئه الثورات العربية في مطلع هذا العام لم يكن قط وليد لحظة عفوية ثارت فيها الشعوب وقلد بعضها البعض ، فثمة ثائرون أعدوا لهذا الربيع العربي وبشروا بنسائمه وعبيره عبر الأفكار، هؤلاء الثائرون هم من تحدثوا وحلموا بنهضة الأمة ومشروعها الحضاري بعدما شاهدوا فصول انحدارها المدوي وغيابها عن المشهد الحضاري بغياب الفاعلية والتأثير ، وكما كانت هناك ثورة على أرض الواقع أسقطت نظامين من الأنظمة الفاسدة والمستبدة في المنطقة العربية فقد كان هناك ومازال ثورة في الأفكار يحملها رواد النهضة عبر العالم العربي والإسلامي ، وينبغي ألا يكون هناك أي تعارض بين الطريق الذي سلكته الثورات العربية والطريق الذي ينشده رواد النهضة ، لذا وجب علينا أن نرسم ملامح الطريق ونتحاور ونبحث عن المسارات المؤدية لأن تُحدث هذه الثورات العربية السلمية نهضة حقيقية لأمتنا العربية والإسلامية ولا تتحول إلى فوضى عارمة ترتكس فيها الشعوب كما يخطط أصحاب الثورة المضادة في كل بلد شهد ويشهد ثورة من أجل تحقيق الحرية والإصلاح والتغيير، والتي هي من أهم دعائم مشروع النهضة ومرتكزاته الأساسية .
قراءة تاريخ الثورات :
من الضروري أن يصاحب هذه الثورات التي قامت بها شعوبنا العربية قراءة تاريخ الثورات السابقة لتسلك نفس الطريق الذي سارت عليه وهنا ممكن الخطر، لأنه لم تتشابه ثورة في التاريخ مع الأخرى وإن تشابهات في بعض الدوافع والأسباب، فلابد من إمعان النظر في دوافع هذه الثورات التي نقرأ فيها، وطبيعة الخصوم، وملابسات الواقع الذي قامت فيه، ومكونات مجتمعها الذي قام بها ، والوسائل التي استخدمت للقيام بالثورة، والنتائج النهائية الفعلية التي ألت إليها تلك الثورات..
فهناك ثورات غيرت مجرى التاريخ ، ودعوات إنسانية عالمية غيرت وجه العالم، ومنها دعوات الأنبياء عليهم السلام لتغيير أقوامهم في أعظم سلسلة من الثورات الشاملة لتحرير الإنسان على مر التاريخ من كل قيد يحول بينه وبين خالقه الذي أرداه حراً مدى الحياة ، وثمة فرق كبير وبون شاسع بين ثورة شعارها في أقوى فعالياتها "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وأخرى "اشنقوا آخر قيصر بأمعاء آخر قسيس..." فعلى أي أساس يمكن أن نبنى نهضتنا من جديد ؟!
نعلم أنه ليس من السهل في ظل المخططات التي تحاك ليلاً ونهاراً لتحويل هذا الربيع العربي إلى خريف عاصف ، وشتاء قارص ، وصيف ناري ملتهب، أن تتحقق النهضة المنشودة وقيمها ودعائمهما بين عشية وضحاها ، فالأمر يحتاج لسنوات وجهود مضنية من المفكرين والقادة و العلماء والكتاب وأصحاب الرأي الفكر ، ويحتاج لتضافر كل الطاقات ، وهذا الأمر يتوقف على الحفاظ على أهداف الثورة ( حرية – كرامة – عدالة اجتماعية ) ووسائلها السلمية والقيم الإنسانية والشعبية العادلة التي تصبغها، وهي القيم التي ينبغي أن تتمسك بها في كل مراحلها، لأن الحفاظ على هذه القيم يساهم بشكل كبير في صناعة المستقبل ويقود إلى طريق النهضة المنشودة .
نماذج عديدة فأيها نختار؟!
وسط الزخم التاريخي الهائل من تاريخ الثورات ومآلاتها عبر تاريخ البشرية ،تتعد النماذج وتتنوع التجارب فأيها نختار؟ فلو نقبنا في تاريخ الأنبياء السابقين لوجدنا مآلات متباينة لنهاية ثورات الأنبياء على الكفر والإلحاد والطغيان من قبيل "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا" (40: العنكبوت).. وهي تعني إبادة خصوم الثورة ، وهناك النموذج الفذ العادل الرحيم الذي يؤسس لمجتمع جديد والى تبناه النبي – صلى الله عليه وسلم - .. حيث كان خياره الأساسي.. "اذهبوا فأنتم الطلقاء".. وأهدر دم أربعة فقط، ثم عفا عن اثنين منهم..
وبما أننا بشر ولسنا أنبياء ، وقد يحتج قائل بأن هذا مسلك الأنبياء ، فقد يكون أفضل الخيارات المناسبة هي المحاكمة العادلة الرادعة لكل من نهب مقدرات الشعب ، وعاث في بلادنا فسادا كما يحدث الآن.
وهناك نموذج آخر قام به مانديلا في جنوب أفريقيا.. حيث قرر عدم الانتقام من البيض، واكتفى بعقد محاكمات مفتوحة هدفها إقرار البيض بخطئهم، مجرد جلسات اعتراف أقرب للتطهر النفسي، لم يعدم أحداً.. ولم ينتزع الأراضي من البيض بل تركها لهم.. حتى لا يوقع البلاد في فوضى.. كان يريد دولة جنوب أفريقيا بلا ثارات.. وكان يسعه أن يتصفح كتب الثورات ليجد ألف سبب مقنع لأن يقتل ويفتك بخصومه، لكنه ربما لم يجد سبباً واحداً مقنعاً يمكنه من بناء جمهورية التسامح.. جنوب أفريقيا. لم يفعل مثلما فعل الثوار من قبله.. لأنه ربما أراد غير ما أرادوا !!
وعلى الاتجاه الآخر سجل لنا التاريخ ثورات كانت نهاياتها دموية.. كان شعارها المرفوع.. "اشنقوا آخر قيصر بأمعاء آخر قسيس".. كما حدث في الثورة الفرنسية والتي سفك فيها آلاف الدماء .
النموذج الدليل :
ربما مما سبق تتضح الصورة وتنجلي معالم المسارات لأننا بصدد نهضة أمة عظيمة تريد أن تقود البشرية والفرصة الآن مواتيه لأن تقدم هذا النموذج الدليل ، وربما إصرار الشعوب العربية على سلمية هذه الثورات كما حدث في مصر وتونس ومصر واليمن وسوريا حاليا يدعم خيار" اذهبوا فأنتم الطلقاء" ، فلا يظن أحد أن تاريخ الثورات يعلمنا أن نسحق خصومنا، بل يعلمنا ما هو أهم.. أن ننظر إلى ملامح المستقبل الجديد الذي نريد ، والذي تتكون ملامحه منذ أن يبدأ الثوار التفكير في كيفية التعامل مع خصومهم وهم في قبضتهم..هل ينهون ثورتهم بحمام دماء، أم يكتفون ببضع قطرات.. أم يتجنبون ذلك قدر الإمكان؟! هنا يبدأ طريق الثورة في مساره الصحيح لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الثورات .
وللحديث بقية ..