صور ناطقة للتحوت والروابض 42+43+44

أحمد الجدع

[42]

-------------------------------

انتشرت الرشوة ، وأصبحت هي القانون ، وأصبح الذي لا يرتشي شاذاً ، وأصبح الذي يرتشي ذكياً وألمعياً وصاحب نظرة بعيدة .

لقد أصبحنا نعيش الزمن الذي قال فيه رسولنا الذي صدقنا في كل ما قال : يأتي على الناس زمان يؤمن فيه الخائن ويخون فيه الأمين .

لا يعرف أحدهما الآخر ، فقد التقيا في مكان واحد بلا معرفة ولا ميعاد ، أخذ الرجل يتكلم عن البحبوحة التي يعيش فيها الموظفون ، فهم يحصلون عن طريق الرشوة على أضعاف رواتبهم ، والمسؤولون يغضون الطرف عن ذلك ، بل يشجعون هذه الظاهرة الجديدة ، ويرون أنها ظاهرة (صحية) تبعث السعادة في الموظفين فيقبلون على عملهم بنشاط .

قال الآخر ، وكان مدرساً : أكل الموظفين يسرقون ويرتشون ؟

قال الرجل : نعم ، كلهم .

قال المدرس : إنني والله لا أسرق ولا أرتشي .

قال الرجل : إذا كنت حقاً لا تسرق ولا ترتشي فأنت تعمل مدرساً ، فالمدرس المسكين ماذا يسرق ؟ ولماذا يرتشي ؟

أيسرق قطعة من الطباشير ، أم قلم رصاص ، أم مسطرة ، إنه هنا غني عن السرقة ، ثم لماذا يرتشي وليس بيده ما يرتشى من أجله ؟

يا سيدي المدرس ، إنك لا ترتشي لأنك مدرس ، ولو كنت في مركز آخر وفي وظيفة غيرها لارتشيت وسرقت ، وربما كنت أكثر من غيرك ذكاء في هذا الميدان .

قال المدرس : لا يا سيدي ، الشرف والأمانة لا علاقة لهما بالوظيفة ، إنهما يتعلقان بالشخص نفسه ، وفي مدى تمسكه بالفضائل التي أمر الله بها .

لم يعجب الكلام هذا السيد المبجل ! فصاح في وجه المدرس : إنك تتحدث عن فضائل وأخلاق انقضى زمانها ، ونحن اليوم في زمان آخر ، إذا كنت مصراً على التمسك بهذه الفضائل فأنت وما حملت نفسك ... وعليك بتدبير معاشك في زمن لا ينفع المعاش صاحبه ...

وافترقا ...

حسبنا الله .

==========

[43]

-------------------------------

هناك رجال ، وهناك أشباه الرجال ، وهناك رجال ولا رجال .

عندما بدأت صحوة الرجال بعد احتلال الصليبيين القدس الشريف ، وبدأ آل زنكي تنظيم صفوف المسلمين بدأ الأمل بالنصر ، وعندما تولى نور الدين محمود زنكي أمور المسلمين اقترب النصر وصار قاب قوسين .

لم يُر نور الدين باسماً قط ، فلما سئل عن ذلك قال قولته التي أدت إلى النصر المبين على يد صلاح الدين من بعده ، قال : كيف أبتسم والصليبيون يحتلون بيت المقدس ؟!

هذا الرجل الفحل حرم على نفسه مجرد الابتسام وهو يرى أعداء الله يحتلون بيت المقدس .

ولكن ... عندما احتل اليهود في عصرنا القدس ومسجدها الأقصى في ستة أيام ، وبدأ الذهول والوجوم مسيطراً على وجوه الناس ، وكفت الإذاعات عن أغانيها والمسارح ودور السينما عن عروضها خاف فرعون هذه الأمة أن يصحو شعبه ويحاسبه ، فقام مقاماً لا ينسى ، وقال قولته : لسنا أول شعب يهزم عودوا إلى غنائكم ومرحكم ، وأرسل مغنيته إلى باريس تغني على مسارحها : هل رأى الحب سكارى مثلنا ؟!

وعادوا إلى ما كانوا عليه من أسباب الهزيمة !

وعندما احتُلت بيروت ، وهُزم القوم ، وذُبحت صبرا وشاتيلا في مذبحة العصر وخشي المناضل أن يحاسبه قومه دعا لاحتفال في عدن ، غنوا فيه وأنشدوا ، ذلك لأنها ليست الهزيمة الأولى التي نمر بها ، فالهزائم متوالية فلماذا نقف هنا عند آلاف الشهداء الذين ذبحوا جهاراً نهاراً ولا يبكي لهم أحد ؟

لا يبكي لهم أحد ؟

ليت ذلك كان ... فإن قومنا نسوا البكاء والرثاء وأخذوا بالطرب والغناء .

حسبنا الله .

==========

[44]

-------------------------------

كان ذلك في دولة عربية ، تحتل حصص الشريعة الإسلامية في مناهجها المقام الأول ، وتأتي بعدها اللغة العربية .

أليس هذا طبيعياً في دولة دينها الإسلام ولغتها العربية ؟

ولكن هذه الدولة بدأت تؤمن بالتحديث المتدرج ، وماذا كان التحديث يعني عندها ؟

إنه كان يعني التدرج في التخلي عن تدريس الدين الإسلامي واللغة العربية ، فأخذت في كل سنة تنقص الحصص المخصصة للدين واللغة .

وما إن مرت سنوات حتى كادت أن تمحو حصص الشريعة ، ولم يبق للطلاب منها سوى حصة أو حصتين ، ولم يبق لهم من العربية إلا القشور يدرسونها أو لا يدرسونها فإن ذلك عند المسؤولين سواء .

وكانت الخطوة الأخيرة التخلي عن حصة الشريعة في جمع درجات الطلاب ، فأصبحت الشريعة خارج المنهج ، وكان شيئاً متساوقاً مع خططهم أن يهمل الطلاب ما كانت دراسته لا تهم المسؤولين ، وأصبحت خارج الزمن !!

أما اللغة فقد فعلوا بها ما فعلوا بالشريعة ، ولكنهم لم يصلوا إلى إلغائها في مجموع الدرجات ، فهم إن تخلوا عن شريعتهم فقد قالوا إنهم ليسوا دولة دينية ، يدلسون على الناس ، ويداورونهم حتى لا يقولوا إنهم ليسوا دولة إسلامية ، وكيف يتخلون عن اللغة وهم يملؤون الفضاء بالتغني بالقومية العربية ، وينفخون بالوناتهم التي ما لبثت أن انفجرت عن فراغ !

لم يلغوا تدريس اللغة ، ولكنهم حاربوا مناهجها ، وناصروا العامية ، وتجاوزوا الفصحى واتهموها بما لم يتهمها بها أعداؤها !

أنتجوا لنا جيلاً يكره لغته ويعيب دينه ، وأي جيل هذا .

قالت لي طالبة صغيرة السن وافرة العقل : هذه ليست مدارس ، هذه سجون للأجيال يتخرجون فيها وقد مسحت عقولهم وأصبحوا كالبهائم يساقون إلى الذبح وهم لا يعلمون .

قالت : أليس الجهل بالدين واللغة والتاريخ ذبحاً أليماً ؟!

حسبنا الله .