تحت حكم البعث في سورية والعراق

هل يفضل الناس الحرية على الأمن والاستقرار؟

ياسر أبو هلالة

عندما كنت أغادر مطار بغداد، سألت السائق الذي يعبر نقاط التفتيش المديدة عن الحركة هذا الصيف. قال إنها ضعيفة، فكل الدول لا تخلو من مشاكل، مع أنه لا يمكن مقارنة أي وضع عربي بوضع العراق الذي غاب فيه الأمن والاستقرار وانهارت الخدمات الأساسية.

يشكل الوضع في العراق مرافعة واقعية للطغاة العرب. إن أي تغيير، سواء بفعل ثورة أو احتلال خارجي سيكون نحو الأسوأ. ما حصل في العراق ليس احتلالا فقط، فقبل الاحتلال شهد العراق ثورتين حقيقيتين؛ الأولى قام بها شيعة الجنوب وقمعت على عين القوات الأميركية التي كان بإمكانها أن تفعل ما فعلته في الشمال، أي تكريس واقع انفصالي عن الدولة. أما ثورة الأكراد، فهي تتويج لتاريخ من التمرد منذ استقلال الدولة العراقية الحديثة.

بالتأكيد، حصل الشيعة والأكراد على دعم خارجي في انتفاضتيهم العام 1990، سواء من إيران أم أميركا، لكن ذلك لا يضع ثورتيهم في مصافي المؤامرة، وإلا فكيف نفسر ما نشهده في كل الثورات العربية من دعم خارجي، سواء سياسي وإعلامي كما حصل في تونس أو مصر، أو عسكري كما يحدث في ليبيا.

في الجنوب، تخلى الأميركيون عن الشيعة، وتخلت عنهم إيران التي لم تكن لتدخل في مواجهة مع أميركا. وكانت النتيجة سحق تلك الثورة التي وصفت في الأدبيات الرسمية العراقية بـ"الغوغاء" و"صفحة الغدر والخيانة"، على عكس الشمال الذي حصل من يومها على حكم ذاتي حقيقي، يكاد يتحول في أي لحظة إلى استقلال تام.

يحسن بنا أن نقارن بين العراق وسورية اليوم، حتى يستفيد البلدان اللذان جمعهما حكم حزب البعث لهما في حقبة مديدة، من خبرتيهما في الاستقرار والفوضى، وحتى لا يكرر السوريون النموذج العراقي.

توجد عوامل انفصال في كل بلد، وتلك العوامل قد تكون تنوعا وإثراء في نفس الوقت الذي قد تكون فيه انقساما واحترابا. في العراق وسورية يوجد تنوع مذهبي وطائفي وقومي. حزب البعث فشل في البلدين في بناء هوية وطنية جامعة، وتقلصت الفكرة القومية إلى حزب، والحزب تحول إلى جهاز أمن في خدمة الطائفة، وظل يتقلص إلى جهاز في خدمة "الأسرة الحاكمة".

لم يكن حافظ أسد طائفيا، لكن في ظل انعدام الثقة في المجتمع والدولة اللذين يقودهما الحزب، ارتد إلى الطائفة. وانعدمت الثقة حتى بالطائفة، وتقلصت إلى العائلة التي مثلها أولا رفعت، وعندما انعدمت الثقة به انتقلت إلى الابن باسل، فبشار.

نفس التحليل ينطبق على صدام. فهو لم يكن طائفيا في البداية، وبالنتيجة، غابت ثقته بالجميع وتقلصت الدولة إلى جهاز مخابرات يقوده برزان وآل المجيد. وانعدمت فيهما الثقة، فتقلصت في "أمن خاص" يقوده الابن قصي. ولو لم يقع احتلال العراق، لشهدنا سيناريو التوريث ينتج في العراق كما سورية ومصر واليمن وغيرها.

وحافظ أسد وصدام حسين لهما مواقف مشهودة ضد الصهيونية وأميركا، والاثنان كانا سياسيين لا تنقصهما البراعة في المواءمة بين ما هو مبدئي وما هو مصلحي. حارب الأسد إسرائيل واحتضن المقاومة الفلسطينية المتوافقة معه سياسيا، وكذلك فعل صدام. والاثنان توافقا مع أميركا؛ الأول دخوله إلى لبنان بذريعة "حماية المسيحيين"، والثاني في حربه مع إيران، والتي تمكن فيها من لجم ثورة الخميني ومنع تصديرها.

في الاحتلال تتوحد الدول وتغيب التناقضات، هكذا يفترض؛ الجميع ضد المحتل. في الدول غير المكتملة تتفكك. هذا ما حصل مع العراق. ولم نشهد على الأرض أي حزب مدني جامع، ولا حركة مقاومة جامعة. الطائفة كانت الرابطة الوحيدة التي يلتقي فيها الناس.

إذن، الحل العقلاني هو الحفاظ على حكم "الأسرة" الأسدية، أو الطائفة العلوية، وفي أحسن الأحوال حكم البعث بدل تفكيك المجتمع وفتح الأبواب للتدخل الخارجي. العراقي الذي يدفع نصف راتبه على كهرباء رديئة يحن إلى زمان كان يتقاضى فيه ما يعادل دولارات معدودة وينعم بالكهرباء، وكان يسير في كل مناطق العراق آمنا من دون أن يشاهد هذا الكم من نقاط التفتيش والحواجز الإسمنتية.

لنفترض أن قصي يحكم العراق اليوم؛ لن يحارب إسرائيل، ولن يهدد الكويت، وسيحرص على علاقات جوار مع إيران. وسيكون رئيس الوزراء شيعيا ورئيس مجلس الشعب كرديا. وسيستمتع الشعب بمشاهدة قناتي العراق والشباب، وقراءة الصحف المتشابهة التي تحتلها أخبار القائد.

سيفعل مثل بشار، لن يبني لنفسه تماثيل، سيكتفي بتماثيل القائد الضرورة الذي "استشهد" بمرض السرطان. سيحيط نفسه بنفس المجموعة التي حكمت مع والده؛ طارق عزيز سيكون نسخة عن فاروق الشرع، وسنمل من مشاهدته في المؤتمرات الصحافية. كل المساوئ الكثيرة التي يشهدها العراق ستنسب إلى عدي الشرير، معادل ماهر الأسد في سورية. وسيقول العراقيون إن قصي لا يعلم، وعلى الأقل لا يرضى بسلوك شقيقه.

هذه سيناريوهات الاستقرار البائسة التي بنت كل الأنظمة العربية استراتيجيتها على أساسها. والتاريخ أثبت أنها غير قابلة للاستمرار. لو بقي حافظ الأسد أو صدام حسين لثار الناس عليهما، وهما المسؤولان عن تلك الثورة. ولو قبلا بتداول سلمي للسلطة، لما اضطر الناس إلى تقديم التضحيات، وسيكون حالهما شبيها إلى درجة كبيرة بحال العقيد معمر القذافي. حتى "تشيه جيفارا" لو حكم الناس أربعة عقود لثاروا عليه. إن الناس في سورية والعراق مثل كل الشعوب في العالم، تفضل الحرية على الأمن والاستقرار والخدمات.. وفي النهاية سيبني الناس دولهم مهما بلغت الكلفة، لأن الحكام المستبدين لم يبنوا دولا على أساس المواطنة.

يؤمل أن تكون كلفة بناء الدولة في سورية أقل من كلفتها في العراق. والناس في سورية، كما العراق، غير متفرغين لسماع وجهة نظر الكتاب والمعلقين وتنفيذ توجيهاتهم الحكيمة. توجد نزعة للتحرر، ولا يوجد مخطط تفصيلي، هذه النزعة مكلفة للبشر، ويدفعها كثيرون عن رضا، ومن الناس من يرغم على السير مع الجموع.

مرت شعوب العالم بظروف أقسى مما مر فيها شعب العراق، ولكن البشرية قادرة في النهاية على تلمس سبل النجاة، اهتدت سريعا أم جربت وتعلمت. لم يكن التخلص من الأنظمة الفاشية المستبدة سهلا. وفي العراق نموذج كيف تُفقد تلك الأنظمة المجتمعات مناعتها ضد الاحتلال الخارجي والاحتراب الداخلي.

لقد دخلت القوات الأميركية العراق بسرعة وسهولة، لأن أحدا في العراق لم يكن يريد أن يدافع عن أسرة صدام حسين. والقوات الأميركية دخلت المناطق السنية بسهولة أكبر، لأن المقاتلين العرب كانوا يتركزون في الجنوب فقط. ولم تشهد مدينة عراقية مقاومة عراقية للاحتلال في بدايته. وعندما قرر العراقيون المقاومة، انحاز كل لطائفته، ولم نجد فصيلا عراقيا عابرا للطوائف.

في سورية لن يدافع أحد عن أسرة الأسد. ولو قررت أميركا التدخل عسكريا فلن تجد من يقاتلها حتى في القرداحة مهد الأسرة الحاكمة. أما لو قررت تركيا التدخل، فسيستقبل الجنود الأتراك بالورود. واليوم، طواعية، ضحى السوريون بأمنهم واستقرارهم لصالح حريتهم. والأمل ألا يحتاجوا لتدخل عسكري خارجي، وأن يستفيدوا من الدروس العراقية.