انظري ياجورجيت

انظري ياجورجيت ؟؟!!!

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

من الحكايات الشعبية والتي  كانت تطرق أسماعنا عن رجل قاتِل أحب التوبة فجاء لشيخ فاضل فسأله

هل لو أنني تبت يمكن أن يغفر الله لي ؟

فقال له الشيخ النجار هل ترى قطعة الخشب تلك  ؟

قال له نعم

قال تعال غداً وإن رأيتها قد اخضرت وخرج منها فروع خضراء , يعني ذلك أن الله قد غفر لك , وفي اليوم التالي جاء الرجل ليرى نتيجة توبته , ودخل على الشيخ وسأله أين قطعة الخشب ؟

فقال له الشيخ هي تلك النبتة الخضراء

فنظرت إلي نظرة تنم عن الغرابة  , بعيناها الذابلتان والجميلتان ووجها العربي المليء والناصع البياض وسحر الشرق العربي فيه , ومسحة الأسى والحزن المرسومة عليه وهي صفة مشتركة بين شباب العرب ونسائها كباراً وصغارا

فقالت مع ابتسامة رقيقة خافتة زادتها رقة وجمالاً

هل تقصد بقصتك تلك  أنه من الواجب علي التوبة , وأن الله سيغفر لي مهما كنت فاعلة من ذنوب ومعاصي , مع أنني لاأجد في حياتي جرائم تقترب من قصتك ؟

فقلت لها : صحيح أن باب التوبة مفتوح دائماً لايغلق , وما قصدت بحكايتي هذه إلا مقدمة لحديث مقبل وافتتاحية لقصة حقيقية أعيشها منذ أن وعيت الحياة وعرفت مافيها وما عليها

لم أكن أعرف جورجيت من قبل  , ولا أعرف عنها شيئاً , ولكن القدر جمعنا في مكان عام  في دولة أجنبية , عندما سألتها هل أنت عربية ؟

بعدما كنت قد سمعت منها وهي تتحدث في هاتفها المحمول بكلمات عربية طرقت مسامعي

قالت نعم أنا سورية وأنت

قلت لها من الجمهورية العربية السورية  , فابتسمت وابتسمت وضحكت وضحكت , سنتكلم بلغتنا فنفسي قد تاقت كثيراً للحديث بلغتي , وبدت على ملامحها نفس الرغبة وتلاقت هنا ذرات من تراب الوطن اجتمعت بروابط تبدو كأنها وهمية ولكنها اشتبكت في هذه اللحظة بقوة عجيبة كذرتين من الأكسجين مع ذرة هدرجين  لعلها كانت هي أول ذرة ماء تجمعت في عين الفيجة وعين بقين وكونت نهر بردى

قبل أن تسألني عن اسمي بادرتها فقلت لها اسمي عبد الغني وأنت ماسمك ياصغيرتي

فقالت اسمي جورجيت

عندما عرفت اسمها روادني شعور عميق في داخلي ارتسم على وجهي يثر للرائي أسئلة كثيرة عن الذي ولج في داخلي بعد أن عرفت أن اسمها جورجيت

فقالت يبدو أنك تفاجأت من اسمي وتغير لونك فجأة عند سماعك الإسم ؟

فقلت مسترسلاً , كان لي وطن اسمه الشام فيه جبلت حبات الياقوت والزمرد واللؤلؤ وشكلت مع بعضها مجتمعة تاجاً يتداوله القساوسة والرهبان وعلماء الإسلام , وفي ذات يوم جاء قوم استولوا عليه ودفنوه في مكان عميق , ولبسوا تاجاً آخر بديلا يغسل ويكوى بلون أحمر من دم الإنسان

ونبتت مكان ذلك التاج شجرة برية أصيلة اجتمعت فيها كل خصائص التاج , من زمردها نبتت أصالتها وطلعها وشذاها هو عطر وشذى ياسمين الشام , ولكن ماأن تنبت زهرة فيها إلا ويحطمونها , وإن نبت برعم فلا ترين إلا الكلاب عليه مجتمعة للتخلص منه وسحقه وكأنه عفريت من الجان

فردت علي وقالت

لقد كرهت النظر في المرآة  ومع أنني جميلة والمرآة قد تحسدني على جمالي , ولكن جمالي يذهب أدراج الحزن المرسوم عليه , فأنا مازلت صغيرة وأشعر بنفسي أن عمري فوق الستين , وأن القبر يلاحقني في كل ساعة

فالجمال عندنا ياصديقي دفن في القهر والخوف والحزن والأسى العميق , فجمالي إما أن يكون سلعة تباع , أو إن أردت حفظه لمن خلق له فسيكون مصيرك أنك لست بإنسان

فقلت لها تعالي معي وانظري ياجورجيت

قالت أين ؟

قلت لها إلى حدود الوطن

قالت لماذا؟

قلت لها سوف أريكي شيئا جميلاً جداً لم يره أباؤك ولا آبائي من قبل ولا نحن الإثنين

وعلى الحدود وقفنا سوية مع نسمات ربيعية تهب علينا من هناك محملة بأريج عطر كلباس من الحرير حط فوق أجسامنا

فقالت هاقد وصلنا , فهذه الطيور تعبر فوقنا لتغرد فوق تراب الوطن الحبيب , ونحن نقف هنا

فكم تتوق نفسي لكي أكون الآن ذلك العصفور الجميل والذي عبر إلى هناك , فلا حدود يمنعه ولا نظام ولا شرطة ولا مخابرات , وأخذت ترفرف بجناحيها تود أن تعبر إلى هناك لتحط على تلك الشجرة

فقلت لها انظري ياعزيزتي جورجيت

تلك الشجرة هي قصتي , هي أصلي وأصلك وأصل كل حر في هذا الوطن

هي نبتت من التاج المرصع بالزمرد والياقوت والياسمين , كنت أمر عليها دائماً , أراها تجاهد من أجل البقاء , كلما أزيل منها غصن أخضر ينبت مكانه أغصان وأغصان , تجاهد تصارع العواصف والرياح وحتى الوحوش ومنهم الخنازير , سنين طويلة والعمل الدؤوب مستمر من أجل فنائها ومحوها من الوجود كله , ولكن جذورها الممتدة في أعماق الأرض , أبت الفناء

ومنذ شهرين أو ثلاثة شهور تحدت أعداءها ونبتت فروعها واْ غصانها وكلما أزيل منها فرع ينبت مكانه الآلاف من الأغصان

انظري ياجورجيت كيف أن أصلها ثابت وفرعها في السماء

فأرادت أن تطير وتحط عليها وشاركتها إرادتها وأملها وودت الطيران معها إلى هناك

فنظرت لوجهها الجميل والذي زاد تألقا وضياءاً واختفى عنه آثر الأسى والحزن بعد أن امتد إلينا غصن من الشجرة يلفنا بحنان ويعبر فينا إلى أرض الوطن الحبيب