هل بدأ عصر الإسلاميين
حسام مقلد *
لا شك أن الثورات العربية قد أحدثت زلزالا سياسيا هائلا في المنطقة والعالم، ولا يمكن لأحد أن ينكر دور الإسلاميين وخاصة الإخوان المسلمين في إنجاح هذه الثورات الشعبية العارمة لاسيما في مصر؛ ومن ثم لم تعد السياسة التقليدية المنكرة لوجود الإسلاميين لم تعد مجدية ولا مقنعة لأحد، ولغة المنطق والمصالح المشتركة تقتضي من جميع القوى المحلية والعالمية الاعتراف الواضح والصريح بوجود هؤلاء الإسلاميين، والاعتراف بتأثيرهم الكبير في بيئاتهم الاجتماعية المحيطة بهم، وضرورة التعامل معهم وفق قواعد وشروط جديدة تماما تراعي مصالح الجميع وحق كافة الشعوب في احترام خصوصياتها الدينية والثقافية والحفاظ على مصالحها الحيوية في إطار من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك!!
إن الإسلاميين حقيقة راسخة فعليا على أرض الواقع، وينبغي على جميع دول العالم التعامل مع هذه الحقيقة المؤكدة من منطلقات أخرى غير تلك المنطلقات المختلة التي تبناها أغلب حكام العرب، وخدعوا بها شعوبهم وشعوب العالم، فالواقع أننا أمام ظروف ومتغيرات تاريخية مهمة وحاسمة، ولم تعد تنفع معها أعمال الترقيع أو الترميم السياسي هنا وهناك، ويجب تبني استراتيجيات جديدة ومختلفة تماما عما ساد طوال العقود الماضية، وليست الثورات العربية فقط هي العامل الوحيد رغم أنها المتغير الأبرز الذي طرأ على الساحة مؤخرا، لكن علينا ألا ننسى فشل ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وبالتالي سقوط منطق العنف والعنف المضاد، والتأكيد على الخطاب الإسلامي المعتدل، وها نحن نكاد نرى نهاية هذه الحرب المجنونة التي حاولت تشويه الإسلام، وتنفير الناس منه وإلصاق تهمة الإرهاب به، والترويج لفرية أنه دين دموي لا يمكن لأتباعه أن يندمجوا مع الثقافة الإنسانية الحالية التي تدعو إلى الحرية والديمقراطية والتسامح وقبول الآخر والتعايش معه في أمان وسلام ورفاهية واستقرار!!
وليس سرا ـ فهم يعلنون ذلك... ـ أن نقول: إن جماعة (الإخوان المسلمين) لها تواجد ما في نحو ثمانين دولة من دول العالم، سواء أكان تواجدا فكريا نظريا أو تواجدا عمليا تنظيميا، وقطعا يختلف ذلك التواجد قوة وضعفا من دولة لأخرى، ولعل ما يؤيد ذلك تلك النكهة الإخوانية الواضحة الكامنة وراء ما لمسناه خلال الأعوام القليلة الماضية من زخم شعبي عالمي غير مسبوق وحالة التعاطف الكبير مع القضية الفلسطينية، وقد شهدنا قوافل الحرية البرية والبحرية تنطلق من أكثر من دولة، ورأينا كيف شارك فيها نشطاء سياسيون ودعاة سلام من كافة الأديان والتوجهات السياسية، وليس بخافٍ دور الإخوان المسلمين (فكرا أو تنظيما...!!) في دعم وتسيير هذه القوافل، بالتنسيق طبعا مع كافة القوى الوطنية والإنسانية الأخرى المشاركة في هذه الفعاليات التي أنجزت هدفا عظيما إضافة إلى الهدف الرئيس المتمثل في دعم قضية الشعب الفلسطيني وتخفيف حدة الحصار على غزة، ولفت أنظار العالم إلى مأساة ومعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار، وهذا الهدف العظيم الآخر هو البرهنة عمليا على أن المسلمين ـ والإسلاميون منهم على وجه التحديد ـ ليسوا شياطين ولا زعماء لإمبراطوريات الشر والعنف والإرهاب كما حاول أعداؤهم أن يشيعوا عنهم، بل هم جزء أصيل من البشرية، وشركاء حقيقيون في القيم الإنسانية العامة كالحرية والعدالة والديمقراطية، وأكدت خطأ ما يسمى بحالة (الاستثناء العربي) وأفشلت حملة الإسلاموفوبيا التي خفتت مؤخرا وأوشكت على الزوال.
والحقيقة نحن جميعا نثق ثقة كبيرة جدا في جيشنا المصري العظيم، ونحن على يقين تام وقناعة كاملة بأن قواتنا المسلحة ستنجز مهامها الوطنية خلال هذه الظروف الحساسة بالغة الدقة على أفضل وجه ممكن، وبإذن الله سوف تجري الانتخابات في مصر في وقتها المحدد، وسيتم تسليم الحكم للسلطة المدنية المنتخبة التي يختارها الشعب بمحض إرادته بكل تحضر وهدوء وسلاسة، وفقا للجدول الزمني المعلن، وأعتقد أن أشواق ورغبات وأصوات أغلبية الشارع المصري مع الإسلاميين، فغالبية المصريين ـ بغض النظر عن الدين: مسلم أو مسيحي، والجنس: رجل أو امرأة ـ قد سئموا فعلا كل المشاريع التي تتبناها التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية والاشتراكية... إلخ، فهذه المشاريع قد فشلت فشلا ذريعا على مدى العقود التسعة السابقة منذ سقوط دولة الخلافة الإسلامية عام1924م في إنتاج نموذج ناجح لدولة وطنية قوية وعصرية تلبي طموحات مواطنيها في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتوفير الرفاه والاحترام لجميع مواطنيها وليس فقط للطغمة الفاسدة التي تحكم، ويبقى النموذج الإسلامي المعتدل يمثل طوق النجاة لهذه الجماهير الهادرة التي تُجْمِعُ على ضرورة منحه الفرصة الكاملة لتحقيق وإنجاز ما يعد به من حرية وعدالة ورفاهية واستقرار ومواطنة حقيقية لجميع السكان أيا كان الدين أو اللون أو الجنس.
ورغم ذلك التفاؤل الواضح إلا أن الإسلاميين عليهم الآن أن يتحملوا بكل إخلاص وأمانة مسؤوليتهم الوطنية الخطيرة في هذه الظروف الاستثنائية شديدة الاضطراب للوصول بسفينة الوطن إلى بر الأمان وسط هذه الأمواج العاتية المتلاطمة والأجواء الهائجة التي تعصف بنا من كل جانب، وليضع الإسلاميون نصب أعينهم تجارب التاريخ ودروس الأمم والشعوب، وليدرسوا بكل دقة واهتمام التجارب التالية للخروج بأبرز الدروس والعبر وتلافي السلبيات وتعظيم الإيجابيات:
1. تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية في أوائل التسعينات من القرن المنصرم.
2. تجربة الانتخابات الفلسطينية ونجاح حماس وموقف الدول الكبرى من ذلك...!!
3. تجربة الإسلاميين في السودان، ودور بعض الرموز هناك في إفشال هذه التجربة...!!
4. تجربة المجاهدين الأفغان، وكيف تحول أخوة الجهاد ضد الأفغان إلى فرقاء متنازعين تحاربوا وتصارعوا على السلطة!!
5. تجربة الإسلاميين في الصومال منذ بدايتها وصولا إلى مليشيات ما يسمى بشباب المجاهدين.
6. التجربة الإسلامية في إيران والسعودية وتركيا مع تفهم اختلاف طبيعة الظروف والملابسات في كل دولة.
7. تجارب الثورات الملونة في دول الاتحاد السوفييتي السابق.
8. التجارب الاقتصادية لدول مثل الهند والبرازيل وكوريا والصين.
وعلى الحركات والجماعات الإسلامية التي تريد الخوض في معترك الميدان السياسي أن تتبنى مشروعا وسطيا معتدلا يوازن بين مختلف الأمور، ويبرع في فهم وتحديد الأولويات، لا أن يبدد طاقة الشعب في أمور سطحية وشكلية بسيطة، أو يضخم من بعض السفاسف التي لا شأن لها؛ حتى لا تتشتت الجهود وتتمزق الصفوف، ويتحطم الأمل في نفوس الجماهير الغفيرة التي تنتظر على أحر من الجمر أن تقطف ثمرة كفاحها المتواصل، ولنا في رسولنا الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة فلم يشغل المسلمين منذ البداية بالشكليات، بل تدرج معهم في بناء الدولة الإسلامية الراشدة على أسس راسخة من القيم النبيلة والمبادئ السامية والأخلاق الرفيعة، ولم يجرهم إلى ساحات الخلاف والانقسام والجدال حتى لا يفشلوا عملا بقوله تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال:46] وقوله عز وجل: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا" [النحل:92].
إن أي مراقب للمشهد السياسي الدولي يدرك بوضوح أن العالم قد تأثر بقوة بزلزال الثورات الشعبية العربية، وهناك جهود محمومة أوربية وأمريكية تسابق الزمن لمواكبة هذه الثورات والعمل على استيعاب متغيراتها الزلزالية التي أحدثتها؛ لاحتواء آثارها الإقليمية والدولية شديدة الخطورة على المديين المتوسط والبعيد، وعلى الإسلاميين في مصر بكل تنويعاتهم الفكرية أن يدركوا أن أنظار العالم أجمع تتجه إلى مصر تتابع وتراقب وتحلل وتقيِّم، فليكونوا على أقصى درجات الوعي والنضج، وليتمتعوا بأقصى درجات الحيطة والحذر، ولينتبهوا جيدا لكل كلمة يقولونها ولكل تصريح يدلون به في الندوات والمؤتمرات وأمام وسائل الإعلام؛ فإن الناقد بصير كما يقولون وكل حواسه مرهفة كالهوائيات والحساسات المصممة والمستعدة لالتقاط أي هفوة وتضخيمها ونشرها وبثها على الفور؛ لتكون ثغرة كبيرة يهاجم الإسلاميون من خلالها ويؤتَوْنَ من قِبَلِها.
وليتنبه الإسلاميون المصريون ـ وبخاصة السلفيين ـ إلى الأسئلة الجوهرية والمنطقية والوجيهة ـ من وجهة نظري ـ التي سوف تطرح عليهم من قبل جهات كثيرة في الداخل والخارج لاستطلاع رؤيتهم حول نموذج الدولة التي يؤيدونه ويتبنونه ويدعون إليه، ودور وموقع الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها المتنوعة في هذا النموذج، وموقفهم من إسرائيل وكيفية التعامل معها، ورؤيتهم لقضية المرأة ودورها في المجتمع، وموقف الأغلبية من الأقلية الدينية، ومدى التسامح مع الحركات الفكرية التي تغالي في أطروحاتها العلمانية ومواقفها السلبية من الدين، والموقف من الاتفاقيات الدولية كإعلان حقوق الإنسان واتفاقية كيوتو البيئية... وغيرها!!
في الحقيقة على الإسلاميين في مصر والعالم (خاصة السلفيين...!!!) أن يدركوا أننا شركاء في الإنسانية وينبغي أن يكون لنا دور واضح في التخطيط لإيجاد مستقبل أفضل لكل بني البشر، فشئنا أم أبينا وشاء الآخرون أم أبوا نحن جميعا نتقاسم قيما إنسانية مشتركة وأساسية في عالم اليوم كالعدالة الاجتماعية والمساواة والدعوة إلى توفير الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية لكل الناس في كل المجتمعات، وبدهي أن هناك مصالح مشتركة لجميع الأمم والشعوب في توفير عالم أفضل خال من الأوبئة والأمراض والمجاعات والحروب الأهلية أو الدينية والفتن الطائفية، بمعنى أنه ينبغي توفير الصحة والأمن والرفاهية والرخاء والاستقرار للجميع، فعلينا أن نريهم من أنفسنا خيرا بالأقوال والتصريحات والأفعال، وفي نفس الوقت علينا أن نعلمهم احترامنا، وأن نجبرهم بسلوكنا المنضبط على عدم التدخل فى شؤوننا الداخلية، والتوقف عن دعم الحكام الغاشمين والنخب الديكتاتورية الظالمة المستبدة التي تريد أن تحكمنا بالحديد والنار بحجة أنها ترعى مصالحهم وتدافع عنها، فمصلحتهم الحقيقية مع الشعوب وليست مع الحكومات والسلطات الحاكمة، يجب أن نجبرهم بقيمنا وإصرارنا وعزيمتنا على احترام إرادة الشعوب العربية واحترام ثقافتها.
وفي هذه المرحلة التاريخية الحاسمة بالغة الدقة والحساسية ينبغي ألا ينشق عن الصف كل من له رؤية مختلفة عن غيره من زملائه داخل أي حزب أو جماعة، وينبغي كذلك ألا نقصي أي أحد من المصريين أو نهمش دوره لاختلافه معنا في الرأي، مهما كانت رؤيته السياسية ومرجعياته الفكرية أو الدينية، وينبغي أن يسود بين الجميع حسن الظن والتسامح وسلامة القصد والنية، وعلى الجميع إخلاص العمل لله، وشحذ الهمة، وتعبئة الطاقات، واستفراغ الجهد والوسع، فمصر الآن في أمس الحاجة إلى جهود جميع أبنائها المخلصين مسلمين وأقباط من كل التوجهات ومن كافة الأحزاب؛ فمسيرة البناء طويلة جدا، وميراث الفساد الذي ورثناه عن العصر البائد طيلة العقود السابقة ميراث كثيف مضنٍ، وكل مجال من مجالات الحياة في مصر وكل شبر من أرضها بحاجة إلى عزيمة أبنائها الأشداء، وعقولهم المبدعة وجهودهم الجبارة، ونفوسهم الصافية الزكية، وقلوبهم الطاهرة النقية الخالية من الأحقاد والمطامع التي لا تعرف الدسائس، ولا تسمح أبدا بتدبير المكائد وحياكة المؤامرات ضد مصر وأهلها الأوفياء البررة.
علينا جميعا مهما كانت قناعاتنا ومهما اختلفت أحزابنا، ومهما تباعدت رؤانا أن نتحد ونتعاون معا من أجل مصر وإعادة بنائها، وينبغي أن نبدأ مسيرة الإصلاح والنهضة على أسس متينة ودعائم راسخة قوية دون فرقة أو تنازع، وعلى جميع القوى السياسية في مصر وبخاصة الإسلاميين أن يضربوا لنا القدوة الصالحة والمثل الأعلى في التضحية والإيثار، وتقديم مصلحة مصر وأمتها العربية والإسلامية؛ لأنها مصلحة باقية دائمة بإذن الله على كل المصالح الشخصية الزائلة والمؤقتة، وليتنا نشكل ائتلافاً واسعا من كل الأطياف السياسية وكافة التوجهات الفكرية لرسم خارطة طريق واضحة المعالم تحدد كيف ننهض بمصرنا الحبيبة؟ وكيف نبني ديمقراطيتنا الحديثة ودولتنا المدنية ذات المرجعية الإسلامية(فكرا وحضارة وثقافة) على أسس راسخة ودعائم قوية من المشاركة الإيجابية وقبول الرأي والرأي الآخر دون فرقة ونزاع؟ وما أجمل أن نتحلى جميعا بالصبر وطول النفس وهدوء الأعصاب ونتحمل ما يصدر عن الآخرين من صخب وضجيج، "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" [الرعد:17].
* كاتب إسلامي مصري