محمد عمارة: "القلم المرابط" لتحرير العقول

محمد عمارة:

"القلم المرابط" لتحرير العقول

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

"قلم مرابط"..عنوان فيلم وثائقي، يعرض لمشوار حياة العالم الكبير الذي عندما ولد نذره أبوه للعلم، فوفي نذر أبيه. زاهدا عن مناصب الدنيا وزخرفتها، عاكفاً في محراب التراث والعلم والفكر في عصر "قصف" العقول، واحتلالها، والتلاعب بها و"تخديرها"، و"عبادتها" وتقديسها، وغسل الأدمغة، وتغريبها. ألزم نفسه متحدياً والتحدي من صفاته ولوازمه بمهام ثقال، ومسئوليات جسام، وإعمال تحقيق وتوثيق وإنتاج ضخم لا ينهض به إلا "مؤسسات". إنه كما قيل:"محمد عمارة: المؤسسة، ومؤسسة محمد عمارة". ولما لا فالأمر جلل: نهوض لاستقلال العقول وتنويرها، وترميم لما قصف، وتحرير لما أُحتل، ودفع لسهام المتلاعبين بها لتستفيق من غفوتها، فتعود لإسلامها وشريعتها، ولحظيرة أمتها العربية الإسلامية.

ويبقي أن لكل زمن رجالاته، ولكل علم ثقاته، ولكل فن فحوله. وليس أقسي علي عصر من أن يخلو من رجالاته، وليس أذهب للعلم من ألا ينهض به ثقاته، وليس أضيع لفن من ألا يحمله فحوله. كذلك أن يأتي رجل قبل أوانه، أو أن يسبق زمانه. ففي الأولي سيخبو وهجه، وتضيع بذوره، ولا أمل لثماره. وفي الثانية تراه يحدو قومه بعلمه، بيد أنك تري أناساً يتبعونه فيقذفونه من خلفه.. لكن "الناس لا تلقي الحجارة إلا علي الشجر المثمر".

ولما لا فقد لقي مُجددون ومُصلحون عنتاً كبيراً، ومشقة من مجتمعاتهم، لأنهم أعادوهم إلي جادة صوابهم وأصولهم، ودعوا إلي ما فيه صلاحهم.. فرادي وجماعات. ولعل مبعث هذا العنت، وتلك المشقة هو ذلك الموقف "المتذبذب" من ذلك "الأصل المتجذر/ الجديد"، فالناس يريدونه بيد أنه تطغي عليهم تقاليد وعادات وأحوال وملابسات أبعدتهم عن جذورهم وهويتهم. و"ما أشبه الليلة بالبارحة"، فالحاجة إلي "الأصالة" ماسة، و"الوسطية والتوازن" مع "المعاصرة" مطلوب وقائم. ولعل في الإشارة إلي جهود المفكرين المجددين، و تناولها بالدراسة والتحليل.. محاولة للمّ الشمل، وإثراء التواصل، ومعالجة الجمود، ومداواة "الانهزام النفسي"، و"التخلف الحضاري"، و"القابلية للاستعمار"..استهواء واستقواء، ومواجهة الوهن الداخلي، والتآمر الخارجي، الذي يستهدف الإسلام والعروبة والأوطان، ونهوضها في آن معاً.

قافلة تتري وتتوالي

فمن بين الكواكبي، والطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب، والمودودي، ومحمد إقبال، ومصطفي صادق الرافعي، ومحمد عبد الله دراز، ومحمود شاكر، وبديع الزمان سعيد النورسي، وعبد الله كولن، وعبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، محمد أسد، ورجاء غارودي، ومراد هوفمان، وعبد الرزاق السنهوري باشا، وعبد الحليم محمود، والشعراوي، ومحمد الغزالي، والقرضاوي، وجاد الحق علي جاد الحق، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وسعيد حوي، وزغلول النجار، وعبد الله بن بيه، وفتحي يكن، وعائض القرني، وعماد الدين خليل، وراشد الغنوشي، ومنير شفيق، محمد عبد الله الخطيب، وطارق البشري، وسليم العوا.. من بين هؤلاء وغيرهم كثير ل"محمد عمارة" مكان ومكانة. إنه مشعل نور، حامل لواء، لم يكذب نفسه ولا أهله، له مدرسته وفكره ونهجه، "سلفي بعقله، عقلاني بقلبه".

إنه من بين قافلة تتري وتتوالي .. تتشرف بخدمة هذا الدين الخاتم، دين الإسلام، فتحرر العقول لاستقباله، وتنشر أنواره، وتدعو لهداياته، وتدافع عن تشريعاته، وتُرشد لآدابه، وتحمل علومه: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". هؤلاء العلماء سعوا ومازالوا إلي "الاستنارة بالإسلام.. لا بالغرب" ولإعادة الدين: "إلي أصله يوم نشأ، بتنقيته مما ألحقته به أهواء الناس من أباطيل وخرافات، وجمود وتقليد، وتبعية وانحراف". ويريدون من الناس الاهتداء به، و"التقدم" به.. حادياً، وحالاً لمشكلات عصرهم، تزامناً مع الارتقاء والنهوض بالعصر وفقا لنهجه الأصيل السامي.. فكريا وفقهياً، ثقافياً وروحياً، اجتماعيا وأخلاقياً، اقتصاديا وإنسانياً الخ.

إن التجديد لا يعني الإزالة والإستحداث، وتغيير الأسس، والتصرف في الأحكام، والإبتعاد عن الجوهر والمعالم والقيم: "فعبر الزمن لا تتغير القيم العليا الحاكمة لحضارة ما، فهي مثالها العام، عقيدتها، فلسفتها، وقيمها الإنسانية العليا التي تعبر الزمان والمكان.. بيد أنه لا ينبغي أن تكون حالة الدفاع عن (الذات الحضارية) أمام ما تواجهه من تحديات بمثابة غشاوة تختفي خلفها الرغبة والقدرة علي التجديد في المتغير المرن المستجد دون تفريط أو إفراط في الهوية".

ولعل "شرعية التجديد" أمر مقرر وفريد في الإسلام دون غيره، ففي الحديث الشريف:"إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (رواه أبو داود والحاكم وصححه الأئمة الثقات). فهي سُنة من السنن الدائمة، فكما يصدأ المعدن فيحول الصدأ بينه وبين فعله الحقيقي، كذلك قد تغير الأهواء علي كر السنين رسالات ومنظومات اجتماعية بالبدع والخرافات والأساطير والإضافات التي تحجب جوهرها الفعال وتعطل طاقاتها. ولكون الإسلام الدين الخاتم للرسالات السماوية، ولكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان، كان التجديد قانوناً دائماً" (د. محمد عمارة: الإسلام والمستقبل، ص:10).

"عمارة".. فكر تنويري، وإنتاج علمي

غذي "عمارة" العقول، وأنارها بعشرات المؤلفات ومن أبرزها جهوده لإبراز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية الحديثة. فقد حقق لجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وألف الكتب والدراسات عن أعلام التجديد الإسلامي مثل: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والشيخ محمد الغزالي، ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وحسن البنا، ومن أعلام الصحابة علي بن أبي طالب، كما كتب عن تيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة وعن أعلام التراث من مثل غيلان الدمشقي، والحسن البصري.

لقد هدف من تلك الجهود الكبيرة إلى إلقاء أضواء "منهجية" والمنهجية ديدنه، وله فيها خصوصية فريدة على الفكر التراثي، والمعاصر، وتحقيق نصوصهما بحيث تسهم في تكوّين عقلية علمية مرتبطة بأصولها الفكرية وتعيش العصر في آن معاً. فالقضية الثقافية التى نعاني منها برايه هي أن :"لدينا أناسًا متغربين لا يعرفون إلا الغرب، أو أناسًا تراثيين لا يعرفون إلا التراث القديم". 

من مؤلفاته: الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني، والغرب والإسلام - أين الخطأ..وأين الصواب؟ ، ومقالات الغلو الديني واللاديني، والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية ، ومستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، أزمة الفكر الإسلامي الحديث، والإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، وغيرها كثير. ولقد وصلت مؤلفاته لما يزيد عن (200) مؤلفا تتسم بوجهات نظر تجديدية وإحيائية، وتسهم في حل المشكلات الفكرية، وتقدم مشروعاً حضارياً نهضوياً للأمة العربية والإسلامية. كما أنها تُساعد في الاجتهاد الفكري لتنزيل قيم هذا الدين الخالد علي الواقع، والنهوض بالأخير ليرتقي لنسقها وهداياتها.

ولعمارة إسهامات متنوعة في العديد من الدوريات الفكرية المتخصصة، وشارك في العديد من اللقاءات والأحاديث والندوات الإذاعية والتلفازية، والمؤتمرات العلمية.

في فكر "عمارة"

لا تجلس إليه في مسجد ضمن جولاته الدعوية التثقيفية المتعددة، متحدثاً لبقاً مفوهاً بليغاً أريباً، وقد أرتدي عباءته المحببة إليه، ولا تستمتع إليه في إذاعة، أو تراه، متأنقاً ببزته ورباط عنق، عبر شاشة تلفازية أو فضائية، أو تقرا له في صحيفة سيارة، أو دورية مختارة، أو تغوص في سفر من أسفاره.. إلا ويغمرك أمواج معرفية، و"عقلانية إيمانية"، و" تنوير إسلامي"، وإقناع برهاني، وأفكار فلسفية، وإضاءات لغوية، وتدقيقات مصطلحية. رجل يستحق أن ترهف له أذنك وتنصت لكل كلمة/ فكرة/ رؤية يقولها أو يطرحها. فكر فى ثراء "الشجرة القرآنية" المعطاءة.

"عقلانية الإسلام"

إذا كانت "العقلانية الغربية" - في حقبتها اليونانية - قد انفصلت عن "الوحي.. والنقل"، لغيبة الوحي والنقل عن مجتمعنا اليوناني.. وإذا كانت "العقلانية الأوربية" - في طورها الحديث المعاصر- قد تمردت على الكنيسة ولاهوتها.. فإن هذا "الفصام النكد" قد برئت منه حضارة الإسلام، فكانت عقلانية الإسلام ثمرة من ثمرات النظر والتدبر والتفكر التي أوجبها القرآن، كما كانت محكومة- ككل ملكات الإنسان النسبية- بالعلم الإلهي المطلق والمحيط، ومتخصصة في الميادين التي يستطيع العقل الإنساني أن يستقل بإدراك حقائقها ومعارفها وقوانينها..

لقد جاء الإسلام ليحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلماء، ويرحب بالصالح النافع ف (الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها)، طالما لا يصطدم بقاعدة شرعية قطعية الثبوت قطعية الدلالة. كما لا يقيم الإسلام تناقضا بين عالم الغيب وعالم الشهادة- في مصادر المعرفة- بل يجمع بينهما، جاعلا كتاب الله المقروء- الوحي- وكتابه المنظور- الكون- مصدرين للمعرفة الإنسانية.

د."محمد عمارة" يجذب إليك العقل والوجدان ويشدك لتكون لبنة في مشروع حضاري نهضوي إصلاحي للأمة العربية ألإسلامية. تري إيمانه المتدفق، ودفاعه القوي عن وحدة الأمة الإسلامية، والذود عن ثوابتها وشرعيتها في مواجهة نفي البعض لها، أو إثارة الشبهات حول عقيدتها وهويتها. لقد أتحفتنا إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة ببرنامج "حقائق وشبهات" . حيث صال وجال في نحو ثلاثين حلقة مفنداً الشبهة الكبرى المتعلقة بالتشكيك فى "مدى قدرة الأمة على النهوض من كبوتها الحضارية اعتماداً على إمكاناتها الفكرية."

ينعَته "العلمانيون" بأنه "المنظًر للحركة الإسلامية"، فيرد قائلاً :"ذلك شرف لا أدًعيه، وهم لا يقصدون منه مدحي، وإنما استعداء السلطات ضدي".

ينتمي د. "محمد عمارة" إلى "المدرسة الوسطية" ويدعو إليها، فيقول إنها: "الوسطية الجامعة" التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين. لكن المغايرة ليست تامة ، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة.

كما أن الوسطية الإسلامية تعني: ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي. والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير، ويجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع ،ومن هنا فإن الله جعل وسطيتنا جعلا إلهيا :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .."(البقرة : 143.(

صلاح المجتمع الإنساني:

المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله.. في الوقت الذي يجب على الناس فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان لتعلم وتعرف وتخترع وتكتشف وتسخر هذه المادة الصماء وتنتفع بها. فإلى هذا اللون من التفكير، الذي يجمع بين العقليتين، الغيبية والعملية، يؤكد " عمارة" دوما. كما استقر الرأي في تراثنا الحضاري على أن الاجتهاد هو أداة البعث الإسلامي وسبيل الإحياء والتجديد.. وعلى أن العقلانية الإسلامية- الجامعة بين العقل والنقل- هي أداة هذا الاجتهاد وعلى هذا الدرب سارت يقظتنا الإسلامية الحديثة والمعاصرة رافضة غلو الإفراط والتفريط.

وكما لا يقيم تناقضا بين العقل والنقل في سبل المعرفة- بل يجمع بينهما، مع إضافة الحواس والوجدان إليهما، كأربع هدايات يهتدي بها الإنسان. فالمنهاج الإسلامي لا يقيم تناقضا بين المنابع - كتاب وسنة - وبين ثوابت التراث وبين المتغيرات التي ارتبطت بتجارب تجاوزها تطور التاريخ. وحول هذه الحقيقة كانت دعوة الإمام "محمد عبده" إلى: (تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى).

 "عمارة" يؤسس للخصوصيّة الحضاريّة للمصطلحات

أننا نُحارب ضمن ما نحارب "بالمصطلحات" التي هي أسس نسق فكري/ حضاري يقوم عليه، وإذا ما صلحت الأسس صلح البناء. فالألفاظ والمصطلحات من: "زاوية "المضامين" التي توضع في أوعيتها، ومن حيث "الرسائل الفكرية" التي حملتها "الأدوات المصطلحات" فسنكون بحاجة ،وحاجة ماسة وشديدة ، إلى ضبط معنى هذه العبارة، وتقييد إطلاقها، وتحديد نطاق الصلاح والصلاحية التي يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ".

وتراه يضيف:"ثمة مصطلحات،و"أوعية" عامة "وأدوات" مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية والعقدية والمذهبية، وفي ذات الوقت أمام "مضامين" خاصة، و "رسائل" متميزة تختلف فيها، وتتميز بها هذه "الأوعية" العامة و "الأدوات" المشتركة لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة، وعند كل نسق أو مذهب أو عقيدة من الأنساق الفكرية والمذاهب الاجتماعية والعقائد الدينية، وخاصة منها تلك التي امتلكت وتمتلك من السمات الخاصة والقسمات المميزة ما جعلها ويجعلها ذات مذهبية خاصة وطابع خاص".يشير ‘أي أننا:"تخلفنا اقتصاديًا فصرنا مستهلكين لبضاعة الغرب ، وتراجعنا فكريًا فأصبحنا مستهلكين للغته، وتغربت العربية".

تحرير المرأة الحقيقي

يذهب "عمارة" إلي أن تحرير المرأة الحقيقي يبدأ بنموذج السيدة "خديجة" أنموذج خير النساء واكلمهن رضي الله عنها. وهو يري أن أفكار التحرير العلمانية لا سوق لها عندنا. فقانون فرنسا - بلد الحرية - حرم المرأة من الذمة المالية المستقلة فى القرن العشرين ، والإسلام منحها لها منذ أكثر من 14 قرنًا. والمساواة الإسلامية مساواة شقين متكاملين/ متعاونين، لا ندَّين متماثلين/ متضادين . وكأن "وافدة النساء" أول تأصيل للجمعيات النسائية الإسلامية، ومشاركة المرأة فى العمل العام المندرج تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أن معايير التوريث فى الإسلام ليست الأنوثة والذكورة فقط، وثمة ردود مفحمة على دعاة المساواة بين الجنسين فى الميراث. إن التحرر الحقيقي للمرأة ليس من "الدين " ولكن "بالدين"، فالذين رأوا: "درية شفيق" (لم يقتنعوا بأنها يمكن أن تمثل المرأة المصرية).

ويلاحظ وهو محق أن هناك:" إهمالاً لميدان الفنون والآداب، وهذا هو الذي جعل الإبداع في هذه الميادين وقفًا على التيارات الفكرية غير الإسلامية ، فنحن كما نفتقر إلى قيادات نسائية فى العمل السياسي والاجتماعي والدعوي". ونراه يشير دوما إلي أننا :"نحتاج إلى فقه جديد يمحص ثروتنا الفقهية القديمة ، ويضيف إليها فى كل المجالات لا فى قضية المرأة فقط".

خبرته في الحوار مع (الآخر)

يقول د. "محمد عمارة" في مقدمة كتيبه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " ( ص 5-14) : ( مع كل ذلك، فتجربتي مع الحوارات الدينية –وخاصة مع ممثلي النصرانية الغربية- تجربة سلبية، لا تبعث على رجاء آمال تُذكر من وراء هذه الحوارات التي تُقام لها الكثير من اللجان والمؤسسات، وتُعقد لها الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات ، ويُنفق عليها الكثير من الأموال. وذلك أن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، فالحوار إنما يدور بين "الذات" وبين "الآخر"؛ ومن ثم بين "الآخر" وبين "الذات"، ففيه إرسال وفيه استقبال، على أمل التفاعل بين الطرفين، فإذا دار الحوار –كما هو حاله الآن- بين طرف يعترف بالآخر، وآخر لا يعترف بمن "يحاوره"، كان حواراً مع "الذات"، وليس مع "الآخر"، ووقف عند "الإرسال" دون "الاستقبال"، ومن ثم يكون شبيهاً –في النتائج- بحوار الطرشان" .

موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا "الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء". كما تصل المفارقة في عالم الإسلام إلى حيث تعترف الأكثرية المسلمة بالأقليات غير المسلمة، ولا تعترف الأقليات بالأغلبية! فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟! ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!

أما السبب الثاني لعزوفي عن المشاركة في الحوارات الدينية –التي أُدعى إليها- فهو معرفتي بالمقاصد الحقيقية للآخرين من وراء الحوار الديني مع المسلمين، فهم يريدون التعرّف على الإسلام، وهذا حقهم إن لم يكن واجبهم، لكن لا ليتعايشوا معه وفقاً لسنة التعددية في الملل والشرائع، وإنما ليحذفوه ويطووا صفحته بتنصير المسلمين! وهم لا يريدون الحوار مع المسلمين بحثاً عن القواسم المشتركة حول القضايا الحياتية التي يمكن الاتفاق على حلول إيمانية لمشكلاتها، وإنما ليكرسوا –أو على الأقل يصمتوا- عن المظالم التي يكتوي المسلمون بنارها، والتي صنعتها وتصنعها الدوائر الاستعمارية التي كثيراً ما استخدمت هذا الآخر الديني في فرض هذه المظالم وتكريسها في عالم الإسلام. فحرمان كثير من الشعوب الإسلامية من حقها الفطري والطبيعي في تحرير الراضي المغتصبة المُحتلة، وتقرير المصير والسيادة في القدس وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا والسنجق وكشمير والفلبين الخ .. كلها أمور مسكوت عنها في مؤتمرات الحوار الديني).

"عمارة".. ملامح ذاتية.

هذا " الثمانيني"، أطال الله في عمره ونفع بعلمه، "محمد عمارة مصطفى عمارة" 8) ديسمبر (1931 الموافق 27 رجب عام 1350 ه ، مفكر إسلامي، ومؤلف ومحقق ومتحدث وعضو مجمع البحوث اﻹسلامية باﻷزهر. نذره أبوه للتعلم والعلم جنينًا، وكان عليه الوفاء بذلك النذر.. يافعاً وشاباً وراشداً وشيخاً. ولد بمركز" قلين"- كفر الشيخ- حفظ القرآن وجوده وهو في كتاب القرية. وتفتحت ونمت اهتماماته الوطنية والعربية وهو صغير. تفرغ لمشروعه الفكري وكانت مكتبة جارهم الثرية مفتاحًا لتحديد أهدافه الثقافية. كتب باكراً الشعر والقصة والمقال ، ولكنه تفرغ للكتابة الإسلامية المتخصصة. وكان أول مقال نشرته له صحيفة (مصر الفتاة) بعنوان (جهاد عن فلسطين). حصل علي ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة 1965م، والماجستير في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة 1970م ، ونال الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة 1975 ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية والبحثية منها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي .

وقد حصل على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، منها "جائزة جمعية أصدقاء الكتاب، بلبنان سنة 1972م"، وجائزة الدولة التشجيعية بمصر سنة 1976، ووسام التيار الفكري الإسلامي القائد المؤسس سنة 1998م. يشار إلي أن "محمد عمارة" قد عاش سلسلة من تحولات فكرية أثرت مشواره الفكري، ورسخته وصقلته. فهو يُعد واحداً من: "كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من الفكر الماركسي إلى الإسلام...وكانت هذه الكوكبة هي ألمع وجوه اليسار فأصبحت ألمع وجوه ومكاسب التيار الإسلامي".

من مؤلفات د. محمد عمارة

التفسير الماركسي للإسلام.المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية.معالم المنهج الإسلامي.الإسلام والمستقبل. نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام.معارك العرب ضد الغزاة.الغارة الجديدة على الإسلام. جمال الدين الأفغاني بين حقائق التاريخ وأكاذيب لويس عوض.الشيخ الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية. الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ.التراث والمستقبل.الإسلام والتعددية. الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية. الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا: إسلامية الدولة والمدنية والقانون. الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين. الجامعة الإسلامية والفكرة القومية. قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية. عمر بن عبد العزيز. جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام. محمد عبده: تجديد الدنيا بتجديد الدين. عبد الرحمن الكواكبي. أبو الأعلى المودودي. رفاعة الطهطاوي. علي مبارك. قاسم أمين. معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار. الصحوة الإسلامية في عيون غربية. الغرب والإسلام. أبو حيان التوحيدي. ابن رشد بين الغرب والإسلام. الانتماء الثقافي. التعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية. صراع القيم بين الغرب والإسلام. الدكتور يوسف القرضاوي: المدرسة الفكرية والمشروع الفكري. عندما دخلت مصر في دين الله. الحركات الإسلامية: رؤية نقدية. المنهج العقلي في دراسات العربية. النموذج الثقافي. تجديد الدنيا بتجديد الدين. الثوابت والمتغيرات في فكر اليقظة الإسلامية الحديثة. نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم. التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالتجديد الإسلامي. الحملة الفرنسية في الميزان. الحضارات العالمية: تدافع أم صراع. إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين. القدس بين اليهودية والإسلام. الأقليات الدينية والقومية: تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق. السنة النبوية والمعرفة الإنسانية. خطر العولمة على الهوية الثقافية. مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية. بين الغزالي وابن رشد. الدين والدولة والمدنية عند السنهوري باشا. هل المسلمون أمة واحدة. الغناء والموسيقى حلال أم حرام. أزمة العقل العربي. المواجهة بين الإسلام والعلمانية. تهافت العلمانية. الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية. القرآن. محمد صلى الله عليه وسلم. عمر بن الخطاب. علي بن أبي طالب. قارعة سبتمبر. الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي(تحقيق). الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني(تحقيق). الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده(تحقيق). الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي(تحقيق). الأعمال الكاملة لقاسم أمين.. (تحقيق). الأعمال الكاملة لعلي مبارك(تحقيق). رسائل العدل والتوحيد(تحقيق). كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام(تحقيق).

في الختام:

لقد ساهم "محمد عمارة" في إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل العربي المسلم، ووصف أسباب عافيته، وانعتاقه، وسعي لتحريره وتحرره من أسر البيئة وضغوط الواقع والمناخ الثقافي التغريبي، والنمطية الفكرية المسبقة لينهض من جديد، وليشرب من المعين الصافي .. القرآن والسنة النبوية المطهرة. لقد عزم على تقديم مشروع فكري أستهدف منه تكوين العقلية الإسلامية المتوازنة . كما أجتهد "عمارة" لإشاعة "التنوير الإسلامي"، الجامع بين الشرع والعقل.. بين الحكمة والشريعة.. بين آيات الله المنزلة وآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.

أعد النظر، مرة ومرة، في إنتاجه علي تنوعه، تجد ركائز ثرية واضحة ومميزة دالة علي مشروعه الفكري: التعقل، التفكر، التدبر، التأمل، سلم الأولويات، تدقيق المصطلحات، دحض الشبهات، مقارعة الحجة بالحجة، تهافت العلمانية، تحرير المرأة، الاستنارة بجهود الأفذاذ السابقين، الوسطية، بلا إفراط ولا تفريط، الشمول ، التوازن، قضية اللغة، ترشيد الصحوة الإسلامية، عالمية الإسلام ومستقبل الإنسانية، الثقة بنهوض الأمة، وتغلبها علي قضاياها المصيرية .. شاء من شاء، وأبي من أبي، ورضي من رضي، وسخط من سخط، وهذا هو ديدن أمثال هؤلاء العلماء المفكرين وما أبدعوه. لقد كان ، مازال جل جهد المفكر الكبير، تنشيط العقول، والعودة إلي الذات الدينية والثقافية والحضارية، والتصارح والتصالح معها.. إفرادا ومجتمعات وأمة واحدة. أمة تسعي للخروج من تشتتها وتشرذمها لتستعيد هويتها وخصوصيتها وريادتها.

صفوة القول:

"ما أشبه الليلة بالبارحة".. لو لم تكن المجتمعات في حاجة للتغيير لما رأينا دعاة ودعوات، وأحيانا "صرخات" لا تنقطع مطالبة بإعادة البوصلة لاتجاهها السليم. دعوات ودعاة ينهضون بتمحيص قضايا النهوض، والتحرر، والتغيير، والتنوير، والتنمية، والتربية، والتعليم، والإعلام، والوعي بالحقوق والواجبات، ونيل الحريات، وطرق التفكير والإبداع، ومقاييس النجاح والسؤدد، ومكانة المرأة وتقدمها، وطرق التصرف فيما يستجد من مجريات وأحداث، ومعني السوية بين الناس، وطريقة الحكم، والمشاركة المجتمعية والمدنية، والنظم الاقتصادية الحاكمة، وترتيب الأهمية بين الحاجات البيولوجية والحاجات الثقافية الخالصة وغير ذلك. ويبقي أن التجديد فيما يقبل التجديد من أفكار وأعراف وتقاليد هو حاجة مجتمعية، تريدها "العامة"، ويعي ضروررتها، وينهض بتبعاتها "النخبة"، ومنهم أستاذنا الكبير د. "محمد عمارة". "نخبة" حملت ومازالت تحمل "مشاعل النور"، وتعي الفرق بين قيم ثابتة لا تقبل تغييراً، وأخري متغيرة متطورة، فتنهض بمسئولياتها، وتبث روحها فتغلغل في ثنايا وجنبات الحياة، فتحيا، بهم وبجهودهم، المجتمعات بعد موات، ويحيون هم بما عانوه في سبيل هذه الغايات، وما تركوه من جهد وعلم يُنتفع به. ولاشك ضمن هذه القافلة المباركة تبرز جهود "محمد عمارة"، ولا نزكي علي الله أحدا. وحسناً يفعل مركز الإعلام العربي إذ يكرم أمثال هؤلاء العلماء والمفكرين والنابغين النابهين، وهم أحياء. ليكون رائداً في الإجابة عن السؤال القديم الجديد منذ أن تفتحت أعيننا على الحروف: كيف يتم تكريم العالم والمفكر والأديب والنابغ، وماذا نفعل للوفاء بحقهم وهم أحياء. ونطمع منها، أيضا ، أن تكون مُبادرة، ومتضافرة مع سواها من المؤسسات، في طرح مشاريع أدبية أو فكرية يكون فيها أمثال "أ.د. محمد عمارة" مصدراً للمعرفة والتنوير. لتحقق شيئاً من الأماني المختزنة لدى طلاب العلم، ومحبي الثقافة والفكر.