هيهات منا الذلة

محمد العلي

استغاثها طفلها وقد استبد به الجوع ، وعضه بنابه !. ضمته إلى صدرها ، قبلته ، شمته ، لكن ذلك كله لم يسكت وحش الجوع الذي ينهش في أمعائه .

ألقمته ثديها الذي جف منذ أمد ، فلا يندُّ بقطرة ، فبَرِمَ به تضجراً ، ولفظه من فمه !.

أعطته " اللهاية "[1] التي لا تسمن ولا تغني من جوع !.

في أمس الذاهب نفذت أخر علبة حليب أطفالٍ في بيتها ، واستقرضت له وجبة عشائه من عند جيرانها ، من آخر علبة حليبٍ كانوا يمتلكونها .

الطفل يتلوى من شدة الجوع ، ويبكي بكاءً مرَّاً ، ويصرخ صراخاً محموماً ، ويفحص الأرض برجليه . تفطر قلبها أسى ..

خرجت أمه تسعى عليه كالمجنونة ، تذهب ذات اليمين وذات الشمال !. السوق مسكرة ، والشوارع خاوية خالية ، والمدينة ساكنة موحشة كالمقبرة إلا من أزيز الرصاص الذي كان يقطع جدار الصمت ، ويلعلع من حينٍ لآخر ... اقتحمت حاجزاً لما يسمى بالأمن ، فأوقفوها ، وسألها كبيرهم :

-         أين تذهبين ؟. وماذا تريدين !؟.

أجابته بأسى ولوعة :

-         أبحث عن حليبٍ لرضيعي . يكاد يقضي جوعاً !.

فأجابها قائلاً : " ارجعي فأرضعيه حرية !!" . وقهقه بسخرية .

سمعت الحكاية ، وهي حكاية واقعية من حكايا درعا التي لا تنتهي ، وليست من بنات الخيال ، فانكسر قلبي لهذه الأم المسكينة ووليدها ، وجرى على لساني هذه الكلمات عفواً ، وهي زفرات ألم من وحي المأساة . قلت :

قالها " البصطار "[2] بسخرية

" ارجعي فأرضعيه حرية !!"

عـلَّهـا تسـدُّ جوعـته

أو تردُّ عنه سهام المنيَّة

سنقطـع عنه حليبه ودواءه ورِيَّـه

أو يحني مع القطيع هامته

فنفيض عليه أنهار الحليب منا هديَّـة

صرخـت أمُّـه : أمـوت

ويموت صغيري ، وتحيا سوريَّا

أما عرفتني أيها المفتون

السـادر في غـيِّـه

فأنا الخنساء أم الشهـدا

وأنا خولة ونسيبة المازنية

نحن الحرائر اللاتي رضعن

وأرضعن كرامة وحرية

أما سمعت هتاف درعـا

وحمص ودوما والمعضمية

أما سمعـت نشـيدهم :

" المـوت ولا الدنـيَّـة "  

                

[1] هي – لمن يجهلها – ثدي مطاطي كاذب ، يعطى للطفل ، ليسكت إلى حين

[2] - البسطار : حذاء العسكري ، وهو رمز النظام العسكري الدكتاتوري