حرية الاعتقاد 2
حرية الاعتقاد
(2)
د. نعيم محمد عبد الغني
كادت مصر مؤخرا أن تصطلي بنار الفتنة الطائفية التي يوقظها من أجداثها ملعونون ينفخون في نارها حتى تحرق الوطن بمن فيه، وهذه الفتنة تأتي بسبب اعتناق أحد المسيحيين الإسلام، أو بناء كنيسة في السر، وهذا يفرض علينا البحث في مسألة حرية الاعتقاد التي كثر فيها الكلام قديما وحديثا، مما يمثل ذلك صعوبة في تكوين رأي في المسألة.
إن انتقال المسيحي إلى الإسلام كان أمرا معروفا لا غضاضة فيه، فمصر كانت قبطية ثم دخل كثير من أهلها الإسلام دون إكراه، وظلت قلة من أهل مصر على دينهم القبطي، ولم يجبرهم أحد على الدخول في الإسلام، ولكن إذا دخل أحد الإسلام طوعا لا كرها، فإن تحوله إلى دين آخر يعد ردة تقتضي أن يطبق عليه حد الردة التي قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيها: (من بدل دينه فاقتلوه). رواه البخاري
إن مسألة الردة تثير إشكالية عظيمة، مفادها كيف نجمع بين حديث (من بدل دينه فاقتلوه) وبين قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256 ] وبين قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا* أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99 ] وبين الحديث القائل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل).
وألخص الجواب عن هذه الإشكالية في النقاط الآتية:
أولا: لا يكره الإسلام أحدا على الدخول فيه، بل يأمر المسلمين بأن يعرضوه ولا يفرضوه، فلا إكراه في الدين، والشواهد على هذا المبدأ كثيرة، ومنها ما رواه زيد بن أسلم حيث قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: "لا إكراه في الدين"، واستدل العلماء على أن آية (لا إكراه في الدين) ليست منسوخة بقول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار واغلظ عليهم) وأن العمل بحكمها لا يزال باقيا.
ثانيا: حديث (أمرت أن أقاتل الناس) وما أثيرت حوله من شبهة انتشار الإسلام بحد السيف لا يدل على إكراه الناس على الإسلام، بل إن الإسلام عرض من قبل الفاتحين أولا، ثم الجزية مقابل أن يحمي المسلمون من أراد الثبات على دينه السابق، ثم قتال الأنظمة التي كانت تفرض على الناس عقيدة بعينها ودينا بعينه، ولنا أن نتتبع التاريخ لننظر ظروف معارك الفتح الإسلامي، من الذين كانوا يقاتلونهم؟ إنهم كانوا يقاتلون أنظمة مستبدة ظالمة فأزالت دولتهم ليتمتع الناس جميعا برخاء في ظل حكم يحترم الإنسانية جميعا، بل لقد أسقط الإسلام الجزية عن الذين لا يقدرون عليها، وشدد في حماية أهل الكتاب ومن في حكمهم. حارب الإسلام الرومان والفرس الذين أذلوا الناس بالضرائب وجعلوهم عبيدا، فجاء بمبادئ تقضي على كل ما يمتهن الكرامة وينتقص الحرية، وهذا جعل للإسلام انتشارا كبيرا، يقول صاحب البردة:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم
إلا على صنم قد هام في صنم
فعاهل الروم يطغى في رعيته
وعاهل الفرس من كبر أصم عمي.
ثالثا: يعرض الإسلام على الناس بكل تفاصيله ويبين لهم قوانينه التي ينبغي على من يدخل في الإسلام أن يلتزم بها، فعلمهم الحرية المنضبطة، وحدد لهم المباحات والمحظورات، ومنها أنه يفرض على أتباعه عدم الخروج من الإسلام والدخول إلى دين آخر، أو يحذرهم من أن ينقضوا الإسلام بنواقض حددها الفقهاء تحديدا قاطعا، فإذا فعل أحد المسلمين هذا فإنه يستتاب ثلاثا ثم تقام عليه الحجة ويعلن إعلانا صريحا لا لبس فيه بأنه خرج من الإسلام أو أتى بشيء ينقض هذا الإسلام ولا يزال مصرا على هذا الشيء الذي يؤدي إلى كفره، وبعدها يقتل، وهكذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم، حيث قتلوا من ارتد عن دينه أو أتى بناقض من نواقض الإسلام كمنع أداء الزكاة، فأما الأولى فقد أخرج البخاري في صحيحه أنا أبا موسى الأشعري بعثه النبي أميرا على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل قاضيا، فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال انزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هذا؟ قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال اجلس، قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات. فأمر به فقتل. وفي صحيح البخاري أيضا: أن علياً أتى بزنادقة فحرّقهم وبلغ ذلك ابن عباس فقال: (أما أنا فلو كنت لم أحرقهم؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُعَذّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- من بدل دينه فاقتلوه).
وفي البخاري لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) . فقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه. فقال عمر فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
إذا ما فلسفة الإسلام في قتل المرتد؟ وهل إذا دخل أحد الإسلام وطلبه أهله أو جماعته يرد إليهم؟ تلك إشكالية نحاول بحثها في اللقاء القادم إن شاء الله.