التجميد والتجديد وصراع البقاء
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
منذ قديم الزمان ونزعة الخلود والبقاء تساور الإنسان. وهذا ما
دلت عليه أثار القدماء من موميات وجثث محنطة. وظلت فكرة البقاء والتشبث في الحياة
حتى بعد الرحيل منها تساور ملوك وفراعنة العصور على اختلاف الزمان والمكان.
كان فراعنة الزمان من القدماء ، لا يقتنعون أنهم سيتركون مجدهم
وملكهم وأن الموت سيقهرهم ويردهم ترابا كما خـُلِقـُوا أول مرة؛ وأقنعوا أنفسهم
وأتبعاهم بأنهم آلهة و أنهم صنو الخلود ولذا بحثوا عما يحفظ صورتهم أمام شعوبهم
المستعبدة؛ فورثوا ملكهم وعرشهم وعبيدهم لأبنائهم وبنو لجثثهم المحنطة أهراما تبعث
الرهبة وتوحي بالخلود.
وقد أحب فراعنة العصور الخلود حتى لو كانوا على شكل خرقة بالية
، فحنطوا جثثهم بالقار (الأسفلت أو ما يعرف بالزفت) !! وقد سميت ب"المومياء" وهي
كلمة يونانية بمعنى القار لما يعتريها من السواد .
لقد تطورت الحضارة البشرية وتطورت معها أساليب الحفظ للمواد
والأجسام. كان القدماء فيما مضى ينزعون الماء "سر الحياة" من اللحم ويجففونه على
حرارة الشمس أو النار فتصير "قديدا" أو يغرقون السمك بالملح فيصير "فسيخا". ...
واليوم هناك أنظمة تبريد عالية ومتطورة تحفظ المواد والأجسام من التحلل والتعفن
لفترة محدودة ومحسوبة من الزمن، أو حقن مواد مطهرة في الأوعية الدموية لتصل إلى
جميع أجزاء الجسم لتحفظه من التحلل والتعفن.
وفيما كان فراعنة العصور القديمة يحنطون جثثهم ويبنون لها
أهرامات، صار فراعنة العصر الحديث يصارعون على الخلود فيورثون ذريتهم ملكا جبريا
ويبنون أحزابا منزوعة الماء لتضمن لهم الخلود ويتم حفظ الوضع بتجميد النظام الحاكم
على درجة حرارة تحفظ بقاء الحزب الحاكم من التحلل أو التعفن !!!
إنه حلم الخلود والبقاء الذي يراود النفس البشرية التي تكره
الرحيل والفناء. .. حلمٌ لا يراود التعساء والفقراء والمغموسون بالهم ... لكنه في
الغالب يراود زعماء السياسة والحكومات وأباطرة المال والثروة... فهم يكرهون أن
ينتقلوا من دنيا عمروها لدار آخرة خربوها ولم يؤمنوا بها أو يعملوا لها يوما .
ففي عالم المال والأعمال وعلى سبيل المثال ... اتفق الملياردير
المصري صاحب محلات "هارودز" الشهيرة بلندن مع خبيرين لتحنيطه بعد وفاته مقابل
مليوني دولار وأوصي بتعليقه على ساعة فوق برج يعلو محلات "هارودز" الذي يمتلكها
.!! ومن حكم في ماله الخاص فما ظلم !!
ولكن هذا يزرع جثته المحنطة فوق محلاته وثروته التي يعز عليه
فراقها ... "ولله في خلقه شؤون" ... فقد يكون ألهمه ربه ليكون لمن خلفه آية من
أولئك الطامعين للثروة والملك ... ولكن كثير من الزعماء السياسيين وقادة
الأحزاب والحركات ظنوا أنهم قد امتلكوا البلاد والعباد فقرروا أن يحنطوا أحزابهم
وحكوماتهم وانظمتهم وسياستهم البالية ويجمدوا البلاد لتحفظ مومياتهم فوق رؤوس
الناس.
اليوم نجد في منطقتنا العربية أنظمة محنطة وأحزاب جاثمة
كالأهرامات ، ترفض التغيير وتفرض التجميد السياسي والحزبي والفكري .... وتزعم
الخلود !! وهي تخوض صراعا صعبا ومريرا مع الجيل الشبابي الجديد التواق للحرية
والتغيير والتجديد. لأنهم يعرفون أن التغيير والانفتاح سيطوي صفحتهم ويركلهم
لقبورهم فقد قرروا تجميد النظام السياسي وتجميد القانون وتجميد التاريخ وضبطه على
الحرارة الحزبية والتشريعية والقانونية التي تحفظ جثثهم من التآكل !!
في عالمنا العربي تخرج علينا موميات الأنظمة والأحزاب والحركات
المتآكلة لتقترح تعديلات، وتدعى فتح المجال الحريات في ربع ساعتهم الأخير ...
ويتغافلون المطلب الرئيسي للجماهير ؛ وهو دفن الموميات طبقا للشريعة وإتباعا لسنة
الله في خلقه ... فإكرام الميت دفنه !!
وفي كل مكان من عالمنا ... لا شك أنك ستجد هناك من يكره التغيير
ويرفض فك التجميد لأن فيه بقاء مصلحته وحلمه في الخلود الذي يراود كل المتسلطين
والشبقين للسلطان والصولجان، ولذلك فهم يقمعون كل من طالب بالتعديلات أو نادى
بالحريات .... ولذلك نجد القوانين الدستورية والحزبية والتشريعية ... مجمدة على
حالها منذ صعود الفرعون للعرش وترفض التعديل والتغيير أو التجديد.... لأن أي تجديد
يعني بدء مرحلة التآكل والتعفن فيمن يطمحون للخلود.
ولكن رياح التغيير والتجديد قد عصفت و بدأ ذوبان الجليد بنار
الشباب ... فهل تستطيع الموميات مقاومتها ؟؟!!
أختم معكم يا سادة يا كرام بأبيات للشاعر إيليا أبو ماضي من
قصيدته "موميات" وقد كتبها حين عرج في إحدى سفراته على فندق فخم ، فلم ير إلا
عجائز ... ستذكرونها كلما رأيتم صور أغلب زعماء الدول والحكومات و الأحزاب والحركات
في عالمنا العربي الفسيح ....
لمن يضوع العبير ؟ لمن تغنّي الطيور ؟ .. لمن تصفّ القناني ؟
لمن تصبّ الخمور ؟ .... و لا جمال أنيق و لا شباب نضير ... بل موميات عليها
أطالس و حرير... راحت تقعقع حولي فكاد عقلي يطير ..... ولاذ قلبي بصدري كأنّه
عصفور ... لاحت له في الأعالي بواشق و صقور ... و قال : ضويقت فاهرب ! قلت :
الفرار عسير ..... ما لي جناح و لا لي سيّارة أو بعير ... صبرا ، فهذا بلاء مقدّر
مسطور .... و رحت أسأل ربّي و هو اللطيف الخبير .... أين الحسان الصبايا إن كان
هذا النشور ؟ ... ليت الحضور غياب و الغائبين حضور .... بل ليت كلّ نسيج براقع و
ستور .... فقد أضرّ و آذى عينيّ هذا السفور .... هذي العصور الخوالي تطوف بي و
تدور ... من كلّ شمطاء ولّى شبابها و الغرور .... كأنّما الفم منها مقطّب
مزرور ... كيس على غير شيء من الحلى مصرور .... كأنّما هو جرح مرّت عليه شهور
...
يا طالب الشهد أقصر لم يبق إلا القفير .... كأنّما الوجه منها
قد عضّه الزمهرير
في فندق أنا أم في جهنّم محشور ؟ ..... و هل أنا فيه ضيف لساعة
أم أسير ...
يا ليتني لم أزره و ليته مهجور ..... فليس يهنأ فيه إلاّ
الأصمّ الضرير.