في عصر الإعلام السهل وثورة الاتّصالات المُلهِية

هل بقي للقراءة مكان في وطننا العربي؟

زينب.ع.م.البحراني

[email protected]

التجوّل في ممالك شاسعة من الخيال، والقفز بين مملكةٍ وأختها دون حدود في مسافةٍ لا تزيد عن قلبِ صفحة.. ارتشاف تجارب الآخرين وخوض نتائجها دون اجتياز عنائها وبذل العُمر الذي بذلوه لاكتشافها.. بناء نفسٍ قويّةٍ واثقةٍ تتقن التحايُل على الألم ولا تقبل بالهزيمة، ونسْجُ رُوحٍ حَكيمةٍ ترفض الاحتراق بشرر أصغر النّكبات.. تلك هي مُكافأة القراءة الكُبرى لكلّ من يُخلص لها كهِواية، ويُدمنها كعشقٍ دائم، مَشفوعةً بلذّةٍ مَعنويّة هائلةٍ تجود بنفسها خِلال ركض البَصَرِ على السّطور بلهفة المُشتاق للمعرفة. فلماذا تخلّى أكثر أبناء أمّتنا العربيّة في عصرنا الحاضر عن كُلّ تلك المُكافئات السخيّة ببخلهم في القراءة، وإحجامهم عن مُصافحة الكتاب؟

هذا التساؤل ضرَبَ على أوتار ذاكرة الصّحفي إبراهيم حمزة، فقصّ علينا طرفًا من ذكريات حضوره مؤتمر الرّواية العربيّة في العام المُنصرِم:"كانت الأديبة الكبيرة "سحر خليفة" تقف على مسرح الأوبرا، تلقى كلمة الأدباء فى افتتاح مؤتمر الرواية ديسمبر 2010م وتكاد تبكى وهى تتساءل بتأثر شديد: لماذا نحن غير مقروؤين؟ متى نتساوى بشعبولا وابنة عجرم؟

بعد هذه الجلسة بقليل كان يتحدث "واسينى الأعرج" و"فيصل درّاج" وغيرهما. كان متحدثو الجلسة يقولون أن الأميّة العربية تقارب 70%، وهذا معناه أنك ككاتب تتوجه إلى 30% من أمتك، وهذه النسبة مُفرقة على التلفاز والسّينما والإعلام الأسْهَل .. فماذا تبقى للكتاب؟!"

أجْواء غير مُشجّعَة

القاصّة زهراء موسى رأت أنّ الأجواء الغير مُشجّعة معنويًا على القراءة في عالمنا العربي هي السّبب، وعن هذا قالت: "ربما لأن القراءة واحدة العَادات الحَمِيدة التي يفتقدها عالمنا العربي، مثلها مثل كنس واجهة دارك، ومُمارسَة الرياضة، وغيرها من العادات التي نعلم أنها حميدة لكننا لا نفعلها لمجرد كونها غير رائجة، بمعنى أننا مجتمع لم يتعوّد على فعل القراءة، والجو حَولنا مُحبِط وغير مُشجّع، حتى العادات السّيئة مثل التدخين تحتاج لجو مشجّع، فما بالك بِعَمل جدّي ومُتعب مثل القراءة؟"

أمّا الكاتب والقاص حسن آل حمادة، والذي أصدر عددًا من الكُتُب التي تُناقش تلك المُشكلة فعلاً، منها: "أمة اقرأ لا تقر"، و"العلاج بالقراءة" و"يسألونك عن الكتاب"، وسيصدر له قريبًا كتاب بعنوان: "ستون ثانية للقراءة"؛ فقد قال: "لماذا لا نقرأ؟ في البدء أقول: لو سألنا هذا السّؤال لمواطن (عربي) -عادةً-؛ لتفاجأ وربما ابتسم ابتسامة عريضة لأنه يتوقع أن تسأله: أين ستسافر؟ أو ماذا تشاهد من مُسلسلات؟ أو أي فريق رياضي تشجع؟ وغير ذلك من أسئلة يحسبها تدخل في قائمة أولوياته. ولو توجهت بنفس السؤال لمواطن (غربي)؛ لتفاجأ وربما ابتسم ابتسامة عريضة أيضاً ليعقبها بضحكة مدوية؛ لأنه يمارس القراءة كغداء يومي، وربما حسب هذا السؤال طريقة لتمضية الوقت لا أكثر!!"

و أضاف: "لذا نحن نأمل أن يحظى موضوع (القراءة) بتركيز مكثف في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكذا في مقررات التعليم، بدءاً من رياض الأطفال مروراً بالمدرسة وانتهاءً بالجامعة؛ لتصبح القراءة عادة نمارسها طوال الوقت، لنرتقي بها في الدنيا والآخرة معاً، فالشعوب المتقدمة هي شعوب قارئة، كما لا يخفى."

لأنّهم أعداء ما جهِلوا

أما عن أسباب عزوف الناس عن القراءة، فقد أوجزها في قوله: "عزفنا عن القراءة نتيجة لعزوفنا عن القرآن الكريم وتعاليمه، ولتركنا العمل بتعاليم السنة المطهرة، وهما يدفعان الناس دفعاً للقراءة والتعلم، ويكفينا قوله سُبحانه وَتعالى: {اقرأ}، وقول الرّسُول الكَريم (صلّى الله عليه وآلِه وسلّم): "اقرأ وارقَ". إضافةً إلى قصُور وضعف مناهج التعليم والتربية في الوطن العَرَبي والإسْلامي، واعتمادها على عَمَلية التلقين والحفظ في الأغلب، مما جعل الكثير من الطلبة يبتعدون عن القراءة والكتاب بعد أن غرست في نفوسهم صورة من العداء التقليدي للكتاب المدرسي المقرر عليهم. و غياب مفهوم التعليم والتثقيف الذاتي عند الكثير من الطلبة. ثم منافسة الوسائل الإعلامية للكتاب وخاصة الفضائيات والإذاعات، لما تحتويانه من برامج ترفيهية، وإثارة وجذب للمشاهد أو المُستمع، مع الغياب الواضح للبرامج الهادفة. أضف إلى ذلك التوظيف السيئ للنوادي والوسائل الترفيهية على اختلاف أشكالها وأنماطها. عدا عن العقلية (الكروية) لدى الشباب بدلاً من العقلية القرائية، والتي ربما تكوّنت بسبب التركيز المُكثف عليها في وسائل الإعلام في بلداننا؛ فالكثير من أبناء مُجتمعاتنا همّهم الوَحِيد وتطلّعهم الأمْثل يكون مُنصبّاً باتجاه الرياضة ونجومها!! وإن قرأوا فإنهم يقرؤون في مجال الرّياضة (البدنية) فقط.. وفقط!! وأمّا الرّياضة (الفكرية والعقلية) فلا محل لها من الإعراب في قاموس حياتهم اليوميّة. ولا يسعنا أن ننسى حالة الإحْباط واليَأس التي يعيشها الإنسان في المُجتمع العربي والإسلامي بشكل عام؛ فالبعض من الشباب يتساءل: ماذا سنجني من القراءة؟ هل ستصنع لنا صَاروخاً نغزو به الفضاء؟ هل ستمنع عنا اعتداءات الصّهاينة المُغتصبين لأرضنا وحقوقنا؟ هل ستحل لنا مُشكلة البطالة؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي لا تكاد تقف عند حد"

ويختم حديثه مؤكّدًا: "هذه بعض الأسباب، وأتصور أن أهم سبب سيُحفزنا على القراءة هو الوعي بأهميتها فـ"الناسُ أعداءُ ما جهلُوا" -كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام)؛ فمن يدرك هذا الأمر ويعي فوائد القراءة وأهميتها في الارتقاء بفكره وسُلوكه وحياته ومُجتمعه؛ فإنه سَيلجأ للكتاب دوماً، وسيأخذه بقوَّة ليضعه بين يَدَيه؛ مقلباً أوراقِه. إذ علينا أن نقرأ، وأن نتمسك بالكتاب حتى لا يفاجئنا طوفان الجهل كل يوم، وحتى لا نبقى في الدّرك الأسْفل من الجَهل"

ثورة الاتصالات

الكاتب عبد الحفيظ أبو ناب بدأ حديثه بحقائق إحصائيّة مُعلنًا: " تذكر بعض الإحصائيات ان نصيب الفرد العربي من القراءة هو نصف صفحة في العام بالمقارنة مع ما يقراه الانجليزي 11 كتابًا في السنة و سبعة كتب بالنسبة للقارئ لأمريكي!"

ويؤكّد:"إن ثورة الاتصالات- اقصد الإنترنت بالذات- كانت بحق نقمة على القراءة و المُطالعة في الوطن العربي، في الوقت الذي شهدت فيه القراءة ارتفاعا ملحوظا في الدّول الأوروبية؛ خاصّة مع ظهور الكتاب الإلكترونيالذي سمح لهم بحمل "مكتبة" كاملة تضمّ آلاف الكتب أينما يذهبون، و هذا يساعدهم على القراءة في أي مكان و في أي زمان، وبالموازاة مع ذلك استغل العامة من الناس عندنا هذه الثورة التكنولوجية فيما يضر و لا ينفع "

وأضاف: "كل الوقت ضاع أمام الشاشات الثلاث: أوّلها شاشة الكمبيوتر فالسّاعات الطّوال يقضيها الشخص أمام شاشة الكمبيوتر سواء مع المواقع الاجتماعية كالفيس بوك في عملية نسخ-لصق ليس إلا، دون إنتاج أفكار و لا ابتكار؛ يأخذ من الإنترنت و يضع على صفحة موقعه، كمن يملأ دلو الماء من البحر و يفرغه فيه!، قولي لي - رحمكم الله- هل زاد بعمله هذا في نسبة ماء البحر؟ و عندما ينتهي من الكمبيوتر يكون ملاذه الأخر هو التلفزيون الذي يأخذ وقت لا بأس به من أوقات العامّة من الناس، ليأتي بعده دور شاشة الهاتف النقّال. متى يقرأ الواحد منا مادامت هذه الأشياء كلها محاطة به، و تأخذ من وقته الشئ الكثير؟! "

و تابع: "لو توجهين سؤالك هذا إلى شاب ممن يعتبرهم المُجتمع نُخبة، واقصد بذلك خريجو الجامعة لوجدتِهم الأكثر عزوفا عن القراءة ،لان هذه الطبقة من الناس ظنوا أنّ علاقتهم بالقراءة وطلب العلم انتهت بحصولهم على الشهادة الجامعية. كما أنّ طُموحاتهم و أهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها لا تعدو عن شراء المنزل، الزواج، السيّارة، ووما إلى ذلك.. هذه المشاريع المستقبلية هي الحياة كلها بالنسبة لهم. وإذا سألت احدهم لماذا لا تقرأ و تطالع الكتب رد عليك: ما الفائدة من القراءة و المطالعة هل سننتج صاروخا؟!.. و ماذا فعل الذين يقرءون انظر حالة البؤس و الشقاء التي يعيشون فيها؟"

ويؤكّد في الختام:" إن الحضارة العربية الإسلامية بلغت أوجها بفضل القراءة و التدوين. قراءة تراث الأمم الغابرة و حفظه عن طريق الترجمة و خلق أفكارٍ جديدة. و لأن السّبيل الوحيد للحصول على العلم هو القراءة فقد كانت ملاذهم الوحيد. و بعد أن ساد اللهو العبث و انصرف العامة من الناس و خاصتهم الى اللهو و الغناء و الترف و بدا نجم الحضارة يأفل يوم تخلى المسلمون عن القراءة و الكتابة. و منذ ذلك الوقت و أبناء هذه الأمة في عداوة مزمنة مع القراءة "

لِكلّ عَصرٍ حَاجَاته

أمّا الشّاعر والنّاقد مقداد رحيم فقد كان له رأيًا مُغايرًا، استهلّه بقوله: "لكل عصر من العصور حاجاته وأدواته ووسائله، وأما الكتابة والقراءة فقد كانت الأداة الأولى للتعلم والتثقف والتسلية قبل الإذاعة بنوعيها المسموع والمرئي، وعند انتشارهما خصص الناس جزءاً من وقتهم لهما، فكان الأمر يبدو غاية في التعقيد. ولا أشك في أن الإقبال على القراءة كان أشد قبل أن يصبح البث المرئي ملوناً. وكان على المرء أن يشتري ورق الرسائل والظروف ثم يقصد دائرة البريد بنفسه لكي يرسل رسالة ينتظر وصولها بعد أسبوع أو يزيد ، ثم إذا كان يُعجَب بقلم كاتب ينتظر الكتابَ أو الصحيفة لكي يقرأ ما يصدر عنه.

 أما اليوم فقد صرنا نحمل الإذاعات بنوعيها مع التزايد المذهل للمحطات، والكتب والصحف والمجلات في جيوبنا عبر شاشات الهواتف المحمولة، أو عبر أجهزة الحواسيب التي أصبحت بعدد أعضاء الأسرة في البيت الواحد أو عدد المسافرين في مطار أو محطة قطار باستعمال الإنترنيت، هذا الاكتشاف المذهل، وأصبحت رسائلنا تصل إلى أهدافها بلمح البصر عبر الآفاق، فقل استخدام الورق، وقلت حاجتنا إليه كتاباً وقراء، وصرنا متعودين على استخدام حاسة البصر أكثر من سواها"

 ويُضيف: "على أنني أجد في هذه التهمة ظلماً إذا نسبتْ إلى الوطن العربي دون سواه، لأن أدوات الكتابة والقراءة أدوات عولمة والعولمة ليست من منجزات عالمنا العربي الذي ما زال يبحث عن حريته في طرائق التعبير، بل إنَّ العالم كله شهد شيئاً من العزوف عن استخدام أساليب القراءة القديمة. غير أنني ما زلت أظنُّ أنَّ الكِتاب مطبوعاً على ورق ما زال يحتفظ ببقية هيبة، وشيء من أهمية، وكثير من متعة، لأنه عاش في أذهان أجيال طويلة كوسيلة فاعلة للتعلم والتثقف والتسلية، ولذلك بقي على قيد الحياة حتى هذه الساعة!"

 و أوضح: " إنَّ مثل هذا السّؤال عاد متأخراً، لأنه لا يَنطبق على واقعٍ كما أرى، لأن رُؤيتي للواقع تؤكد لي دائماً اتساع آفاق القراءة، وكذلك الكتابة، بسَبب كثرة وسائلها مِمّا ذكرته لك قبل قليل، وأصْبحنا نقع على ثورة من المَعلومَات تقدَّم إلينا بأرخص الأثمان؟ ألا ترين معي هذا الرّكام الهائل من الكَـتَـبة وأسْمائهم المُفاجِـئة؟!، فعامّة الناس إذنْ لم يعزفوا عن القراءة، بل عزفوا عن شِراء الكِتاب. وما دُمنا بلا مشكلة فليسَت بنا حَاجة إلى الحل!.. أما مُشكِلة الكِتاب فهي مُشكِلة أخرى"