الكلام ديوان العرب
م. أسامة الطنطاوي
يعرف تراث أمتنا منذ الأزل بعنوان عريض نفتخر به جميعا ألا وهو(الشعر ديوان العرب)،
حيث يعتبر المكون الأساسي في تراث العرب الأدبي في عصرهم الأول.
بالإضافة إلى الخطابة ولكن بمقدار أقل، فقبل انتشار الكتابة واتصال العرب بغيرهم من الأمم كان الشعر هو المعبر الأول عن خوالج الإنسان العربي وعن أفراحه وأتراحه وهزائمه وانتصاراته،
ومن أجل ذلك يعد الشعر وثيقة مهمة يمكن الاعتماد عليها في استقصاء ما يمكن استقصاءه عن مختلف جوانب حياة العرب آنذاك، وبعد انتشار الكتابة واتصال العرب بغيرهم من الأمم وفدت إليهم بقية الفنون الأدبية الأخرى.
ولكن على مر الأزمان ابتليت الأمة بكثير من الانتكاسات على صعيد العادات الاجتماعية و الفتن التي هي وليدة البعد عن القيم و الاخلاق الرفيعة ومن أكثرها انتشارا ظاهرة الجدال ولاسيما مع ظهور الكثيرمن مواقع التواصل الاجتماعية المسموعة والمرئية والمكتوبة، وغيرها من المنتديات والتجمعات الادبية التي صاحبت التقدم التقني في مجال الاتصالات الحديثة ، حيث يلاحظ في الكثير من المجالس وقنوات الحوار المختلفة من ينافق ويجادل بغير بصيرة و لا فائدة ترجى ممن يتصدرون الاحاديث في اللقاءات والندوات، وكثيرا من الذين يتفيهقون ويجادلون، لا على حق إنما لأجل مصلحة شخصية أو حزبية ضيقة، أو من أجل الحقد والبغضاء، أو حبا للشهرة وفقا للحكمة: خالف تعرف.
ولهذا تجد المنافق والمجادل، لا ترتاح نفسه إلا بالمجادلة والنفاق، فيقمع صاحب الحق بأكاذيبه، وافتراءاته، حتى يقال إنه على حق.
إن مثل هذا الذي يجادل ويمتري بغير حق، مصيره لا يدوم كثيرا، فقد قال الإمام النـووي (رحمه الله): (مما يـذم من الألـفاظ المـراء، والجدال، والخصومة).
وعلى ذلك، فصاحب الجدال جداله مذموم إن كان بغير حق، ولذلك قال الإمام النووي : (واعلم أن الجدال قد يكون بحق، وقد يكون بباطل)، قال الله تعالى : ( ولا تجادِلوا أهل الكِتاب إلا بالتي هي أحسن). فإن كان الجدال الوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان جدالا بغير علم يكون مذموما. وعلى هذا التفصيل تنزيل النصوص الواردة في إباحته وذمه.
نعم إن الجدال مولد للخصومة، بل لا تجد شخصا يجادل بغير حق إلا وكره الذي يجادله بحق.
فالأفضل البعد عن تلك المجالس والمنتديات التي يكثر فيها الجدال، فإن جادلك شخص عنيد لا يريد الحق، ففر منه، فهذا يكون فيه مرض، قد يعديك مرضه.
وأعلم، قول الأوزاعي : ( إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل)، وجاء في الأثر أن عمر بن عبدالعزيز (رضي الله عنه) قال : (من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل)، وقال عبدالله بن الحسين بن علي (رضي الله عنهم): ( المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلا يأتيك بالغضب).
وقال محمد بن علي بن الحسين (رضي الله عنهم): ( الخصومة تمحق الدين، وتنبـت الشحـناء في صـدور الرجال). وقيـل لعبـد الله بن الحسن بن الحسين : (ما تقول في المراء ؟ قال : يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن يكون دريئة للمغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة). وتجد المجادل يتهم الغير بألفاظ رديئة لذلك قال الإمام الشافعي (رحمه الله) عن المجادل: قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لِبابِ الشر مفتاح ، والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرف وفيه أيضا لصون العرض إصلاح ) .
وفي ثقافة الأمم الأخرى وفي خطبة النصر حين انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء قال القائد البريطاني والسياسي المخضرم ونستن تشرشل : (لو للكلام قوة لاحتلت العالم «أمة الكلام») . لا تزن «أمة الكلام» إلا مثقال وزن الهواء الذي كون الكلام.
ولربما تتغير الأحوال إذا توقفنا عن الكلام وركزنا جهودنا على العمل، فلغة القوة هي العمل والعلم لا الكلام وفق قوله تعالى: {وقلِ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. يحثـنا الإسلام على أهميـة العمـل وعلى تـرك الكلام ورفـع شأن الأمة بالعمل.
وحيث أن من أشهر ماتميّزنا به بين الأمم - بصفتنا عرب - هو الخطابة والفصاحة، فنحنُ أمة لا تُجيد سوى الكلام حسبما أدعى أحدهم ، فقلتُ له: عفواً، أي كلام تتحدث عنه !. صدقني يا صاحبي، نحن أمة تراثها الكلام ، بل حتى الكلام لم نعُد نجيد، فمابالك بالعمل؟.