رياح التغيير 1

رياح التغيير

(1)

أسس بناء الدولة في الإسلام

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

ما يشهده العالم العربي في هذه الأيام من ثورات تنادي فيها الشعوب بالحرية والعدالة، يجعلنا نبحث في عدة قضايا تتعلق بهذا التغيير، من خلال هذه السلسلة من المقالات التي اخترت لها عنوان "رياح التغيير".

وأبدأ في الحديث عن أسس بناء الدولة في الإسلام حديثا مجملا، معتمدا في ذلك على القرآن والسنة، وما ورثناه في عهد الخلافة الراشدة، وما تناولته كتب الفكر في الفلسفة والسياسة وغيرها مما يخدم حديثنا حول المشكلات التي تواجهنا في هذه الأوقات، مثل حرية إبداء الرأي، وحرية الاعتقاد والانتقال من دين لآخر، وحرية الملكية الخاصة والعامة ...إلخ المشكلات التي أثارتها الثورات العربية.

إن بناء الدولة في الإسلام يرتكز على أن يحظى الإنسان في الدولة الإسلامية بالحرية في كل شيء: حرية في اختيار الدين، وحرية في الإبداع، وحرية في التكلم، وحرية في البيع والشراء والزواج...إلخ هذه الأشياء التي يكون للإنسان فيها قرار، فالإنسان ولدا حرا، ولهذا كانت العبارة الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار).

وقد جاء الإسلام فعالج مشكلة العبودية تدريجيا، حيث فتح أبوبا للتحرر عديدة، فعتق الرقبة من الكفارات التي يقوم بها المسلم إذا فعل خطأ ما، بل جعل ثواب فك الرقاب كبيرا عظيما، يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه الحرية في الإسلام ص5: "اتخذ الإسلام الحرية الفردية دعامة لجميع ما سنه للناس من عقائد ونظم وتشريع، وتوسع في إقرارها، فلم يقيد حرية الفرد إلا في الحدود التي يقتضيها الصالح العام أو يدعو إليها احترام حرية الآخرين، وعمد إلى كل نظام يتعارض مع هذه المبادئ فألغاه مرة واحدة إن كان لا يترتب على إلغائه زلزلة أو اضطراب في الحياة الاجتماعية، أو ألغاه على مراحل وقيده بقيود تكفل القضاء عليه بالتدريج إن كان في إلغائه مرة واحدة ما يؤدي إلى هذه النتائج"

إن الحرية في الإسلام لها معالم تبدأ منها وتنتهي إليها، وتحتاج إلى مراقبة ومحاسبة في تطبيقها، حتى لا يجور أحد على أحد، ومن هنا يأتي الأساس الثاني المتمثل في العدل الذي هو أساس الملك، كما هو شائع على لسان الناس "العدل أساس الملك"، فالدول الظالمة لا تنصر أبدا، "فالله يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً".

والعدل يحتاج في تطبيقه إلى أمانة تتعدد مفاهيمها لتبدأ من توسيد الأمر إلى أهله، كي يزنوا الأمور بالقسطاس المستقيم. فإذا ما كان هناك عدل بين الناس في مراقبة الحرية الممنوحة لهم وأمانة في هذه المراقبة والمحاسبة، فإن الأمن ينتشر بين الناس، ذلك الأمن الذي يدفع بعجلة الإنتاج إلى الأمام، فالأمن في الإسلام قبل الإيمان، إذ الأمن تترتب عليه أن يمارس الإنسان حياته بحرية، دون خوف ولا وجل، وقد امتن الله به على قريش فقال: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

إن المجتمع لو عاش تحت ظل هذه المبادئ فإن مشكلاته ستقل؛ لأن كل واحد سيعرف حقه فلن يطلب أكثر منه وسيعرف واجبه فلن يقصر في أدائه، وهذا ما حدث في عهد سيدنا أبي بكر، حيث إنه لما ولي الخلافة ولى القضاء لسيدنا عمر الذي مكث عاما كاملا لم تأته قضية واحدة، فذهب يطلب الإعفاء من منصب القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟

إن هذا المجتمع الذي كان حرا في تصرفاته، عرف حدود حريته، ثم أيقن أن هناك عدلا وقانونا سيطبق، فكانت الأمانة بكل صورها متوفرة في الراعي والرعية، فطبق النظام واستراح المجتمع المسلم، فلم تكن بينهم نزاعات، وصفت نفوسهم وتفرغوا لعبادة الله ونشر دينه في ربوع الأرض، ولم يشغلوا أنفسهم بالعداء فيما بينهم، فتضعف شوكتهم، وتذهب ريحهم، ويكون مطمعا لكل عدوا.

تلك المبادئ الثلاثة: الحرية، والعدل والأمانة –في رأيي- هي الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام، وهي أسس عامة تحتها تفاصيل كثيرة، وتفريعات عديدة، ومسائل دقيقة، ونظرات عميقة سنتناول منها القضايا التي ظهرت على الساحة وفرضت نفسها بقوة، مثل هل يجوز العفو عن الحاكم إذا أخطأ في حق المحكوم، وهل يمكن أن ينتقل الإنسان من الإسلام إلى ديانة أخرى؟ وما الفرق بين المراقبة والتلصص؟ وما آليات اختيار الحاكم في عهد النبوة والخلافة الراشدة؟ وهل تعد المظاهرات خروجا على الحاكم وتجاوزا لخطوط الحرية؟ وكيف يشكو المحكوم الحاكم؟ والفرق بين الديمقراطية والشورى؟ وما معنى الدولة الدينية والمدنية؟ إنها قضايا في السياسة الشرعية تحتاج إلى نظر ودراسة نأمل أن نوفيها حقها إن شاء الله.