المعري "أنا الشيخ المفترى عليه" 3
المعري "أنا الشيخ المفترى عليه" 3
أحمد الغنام
يذكر د. السعيد السيد عبادة في كتابه " أبو العلاء الناقد" عن اعتقاد المعري وذلك في معرض حديثه عن العوامل الخاصة للمعري قيذكر أن اعتقاد المعري من أكثر جوانبه غموضا وخفاء ، إن لم يكن أغمضها وأخفاها ، حتى غدى أرحبها مجالا لاختلاف الرأي ، واضطراب الرؤية قديما وحديثا . فلم يكد يصل مؤرخو شخصيته –على كثرتهم-إلى تحديد قاطع أو متفق عليه لطبيعته وصفته ، بل تفرقت آراؤهم فيه مذاهب شتى ، بلغت في كثير من صورها حد التناقض ، وصدر كل منها عن رؤية صاحبه الخاص .
فكان من صفاته عند من أساؤا الظنّ بما رأوا أو سمعوا : كفر ، زندقة ، إلحاد ، تعطيل ، شك ، حيرة ، اختلاف عقيدة ، يقابلها عند من أحسنوا الظنّ به : إيمان صحيح توبة وارعواء عما سبق منه . وعند من ربطوا بينه وبين بعض الطوائف : تشيع ، اعتزال ، برهمة ، جبر ، قرمطة ، درزية . (( لو كان يعتقد مثل هذا الاعتقاد أو شيء منه لكان دعا إليه )) ولما أحفاه )) ! . مني
هكذا بدا أبو العلاء عند مؤرخيه : كافر ومؤمن ، بل متشيع ومعتزل وجبري ، على هذا النوع من التناقض العجيب . ولم يكن أبو العلاء كذلك في الواقع ، لاستحالة اجتماع هذه الصفات في شخص .
ولم يكن هذا الغموض وما نشأ عنه إلا أثرا لجملة من العوامل نلاحظها في آثاره وتاريحه على النحو التالي :
أولا : تحرر عقله من قيود الرغبة والرهبة في نقد الحياة والسخرية منها ، منذ اقتنع بغرورها واعتزالها بتأثير اتجاهه الفلسفي ، حتى جاء ماتناول الدين من نقده وسخريته موهما تجاوزه الحد ، ومؤديا إلى ماكان من سوؤ الظنّ والاتهام .
ثانيا : صياغته كثيرا من آرائه شعرا له نسقه الخاص في اللغة والتجوز والبديع ولزوم ما لا يلزم ، مما أدى إلى اضطراب الرؤية والفهم عند كثيرين ممن تناولوه ، لا سيما من تقصر بهم همتهم العقلية والذوقية عن مستواه ومستوى المشتبه منه خاصة . على نحو ماتجد في ( زجر التابح ) الذي ألفه المعري للدفاع عن بعض ما اتهم به في ( اللزوميات ) ، وكان أخص ما التفت إليه بالدفاع ما ضل فيه المعترض سبيل التأويل ، لسوء قصده أو لجهله بأساليب النظم ، حتى وجدناه كثيرا ما يصدر دفاعه بنحو قوله : " المعنى كذا " أو يعقب عليه بقوله : "فإنما ذلك – أي إنكار المنكر-بغباوته وضلاله عن أساليب القول " ،أو يسرف في ضرب الأمثال لكلامه من القرآن والحديث والشعر والنثر .
ثالثا : جزئية النظر في كثير من صفاتهم السابقة ، لاسيما حكمهم بتشيعه واعتزاله وقرمطته ودرزيته وبرهمته ، واتهامهم له بإنكار النبوات والبعث والجن والملائكة ، إذ بنوا هذه الأحكام والاتهامات على أبيات موهمة أو غامضة ، وأعرضوا عن أضعافها من شعره ونثره الواضح الدلالة على ضد ماحكموا وما وصفوا .
رابعا : تحريف كثير من شعره في حياته قصدا لإيذائه ، وبعد مماته تأييدا لمقالة السوء فيه ، ففي حياته ذكروا أنه أنشأ ( رسالة الضبعين ) دفاعا عن بيتين حرفا من اللزوميات ، وبعد مماته كان من مؤرخيه من حرفوا بعض أبياتها ، وهم أبو الفدا والذهبي وابن الشحنة . على أن هذا الديوان رغم طبعه عدة طبعات حتى الآن لم يحقق تحقيقا علميا دقيقا ينقيه مما به من تصحيف وتحريف .
خامسا : اتجاه بعض تلامذته وغيرهم إلى وضع الأشعار على لسانه يضمنونها أقاويل الملاحدة قصدا لهلاكه وإتلافا لنفسه . ولعل بعض مانسبه إليه مؤرخوه من أبيات ليست في ديواني السقط واللزوميات وكانت حجة لبعض الدارسين مما وضعه هؤلاء .
وإذا كاان أن نقطع بذلك في جميعها ، لضياع الشطر الأكبر من شعره إلى الآن ، فإن بعضها قد قطع ابن العديم – وهو حجة في تاريخ أبي العلاء – بوضعه ، لأنه لم يجده في شيء من دواوينه التي رآها وتتبعها .
سادسا : نسبة بعض الأبيات المنحرفة إليه قصدا أو خطأ للتشنيع عليه بها – مع أنها بالتحقيق من شعر غيره- على نحو مافعل السبكي ، وأبو الحسن الجزار وغيرهما .
سابعا : ضياع كثير من آثاره ، لاسيما كتبه التي دفع فيها ما اتهم به ، ببيان ما قصد إليه ، وهي : ( زجر النابح) ، ( نجر الزجر ) ، و ( رسالة الضبعين ) . وكلها مما دافع به عن ( لزوم مالا يلزم). والمطلع على ما بقي من ( زجر النابح ) يدرك مدى أهمية هذا الضائع في فهم ما قصد إليه .
ثامنا : إلى جانب ذلك كله نجد في آثار أبي العلاء التي وصلت إلينا والتي لم تصل ووصفت ما هو مغمور بالشعور الديني السليم ، لاسيما ما ألفه خالصا للوعظ والإرشاد ، أو لتمجيد الله الذي جلّ عن التمجيد ، وهو كثير نذكر منه – على سبيل المثال لاالحصر- ( الفصول والغايات ) مائة كراسة – و ( الأيك والغصون ) – ألف ومائتا كراسة – و ( تضمين الآي ) أربعمائة كراسة ) - و ( تاج الحرة) – أربعمائة كراسة – وغيرها كثير .
كما نجد في سلوكه أبان عزلته ما يؤكد هذا الشعور ، فقد زهد وتنسك ولزم بيته ، وتوفر على ذكر الله والصلاة والصيام له ، وهو القائل :
وعالمٌ خالقي أن الصلاة له *** ألذ عندي من درّي وياقوتي
ويقول أيضا :
أنا صائمٌ طول الحياة وإنما *** فِطري الحِملمُ ويوم ذاك أعيّدُ
هذه العوامل مجتمعة ، وما يبدو من تفاوت بين آثاره التي غمرت بشعوره الديني السلبيم ، وآثاره التي غمرت بتحرره وجرأته ، مع الجهل بتاريخها جميعها على الترتيب ذلك هو الذي يفسر لنا مايبدو من غموض اعتقاده واضطراب السابقين فيه ، بل يقتعنا بتعذر القطع فيه برأي ، حتى نظهر على جميع هذه الآثار ونحققها وننقيها من التزييف ، ثم ندرسها ونوازن بينها .
ومهما يكن من أمر هذا الاعتقاد وصفته ، فإنه – كما ترى-واضح المعالم في حياته وآثاره ، قوي التأثير فيهما ، وكذلك كان في نقده الأدبي ، إلا أنه فيه على وجهين :
عام : وهو ما يشارك نقده فيه سائر آثاره ، من حيث ساء رأي بعضهم فيها ، وكثر إعراضهم عنها ، لسوء القالة في دينه . وإنما ذلك بالنسبة إلى نقده من ابن الأثير واين معقل كما سيأتي .
وخاص : وهو نوعان :
نوع لم تزايل المعري في إبدائه روح الجد والصدق والصراحة – وهو الأكثر – إذ تردد في معظم كتبه التي ألفها في عزلته على امتدادها منذ ( الفصول والغايات) أول ما ألف فيها .و حتى ( الضوء ) آخر تأليفه كما سيأتي ...
ونوع اكتنفه من السخر والجرأة في العرض ما زهد الكثيرين طويلا فيه من المعروض جملة ، كتفضيله نعيم الجنة على جزاء التكسب في الدنيا ، وجعله الشعر الذي يمجد الله سبحانه وقيم الدين سببا للغفران والتكريم في الجنة ، وإن كنت أميل إلى تصديقه وتقبله لأمور :
منها : ماصدر من نقده عن حسه الديني البعيد عن مظنة السخرية ، لأنه يعني أصالة هذا الاتجاه عنده .
ومنها : ظروف المعري في إبدائه حوالي سنة 424 هـ -تاريخ إملاء الغفران – وهي ظروف اتهامه بالكفر والزندقة ، لما أبداه من آراء جريئة في ( اللزوميات ) التي انتهى من نظمها ونشرها في الناس حوالي سنة 421 هـ .
فإن مثل هذه الظروف وما قاساه فيها من عنف الاتهام كما يبدو في ( زجر النابح ) ، حتى اضطر أن يدافع عن نفسه بهذا الكتاب وكتابين آخرين ، تمثل ذلك يرجع عندي جده في الحديث عن الغفران ، والتوسع في أسبابه من توبة ، وشفاعة ، وشعر ديني ، أملا منه في عفو الله عما بدر منه بما له من ذكر وتمجيد .
ومنها : أنه في مقدمة اللزوميات التي بين فيها ما رفض من الشعر وما لم يرفض جعل رفضه فقط لما استجيز فيه الكذب . أما الكائن عظة للسامع فهو إن شاء الله مما لم يلتمس به الثواب كما قال .
على أننا بالنظر في النوع الأول من حيث ملابسة بعض صوره لصور النقد الديني الذي أخذ بسببه في ( اللزوميات ) ومن حيث تردد صوره خلال عزلته كلها ، يمكننا أن نرجح غلبة اليقين الديني السليم على قلبه ، وعمق جذوره في نفسه مهما لابسه أحيانا من عوارض اليأس والسخط التي تأتي وتزول .