الموت السياسي والتحنيط بالبارود
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
مع بداية القرن الماضي بدأت تتعاظم قوة الاتحاد السوفييتي حتى
أخذت موقعها المضاهي للولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم وأخذت تتحاصص معها
في مناطق النفوذ والاستقطاب، حتى صارا يقرران معا وسويا مصير الدول الأخرى
ومستقبلها من خلال نفوذهما ومن خلال حربهما الباردة .
ومع طغيان القوة للقطبين المتصارعين في ذلك الوقت أخذ المحللون
والمفكرون يستقرئون الغيب ويستشرفون المستقبل لكلٍ منهما، وقد توقع العديد من
المفكرين الإسلاميين أن انهيار الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى سيسبق انهيار
الإتحاد السوفييتي ؛ وقد عزوا ذاك الانهيار المتوقع لمدى الانهيار الأخلاقي
والاجتماعي الذي تحمله في فكرها الليبرالي . ولكن حدث عكس ذلك ؛ فكان الانهيار
الاقتصادي للاتحاد السوفيتي قويا بحيث لم يمنعه سطوة الحزب الواحد المتمكن عسكريا
وسلطويا.
لو كانت قوانين البقاء تخضع لمدى القوة العسكرية والتمكن من
السلطة لما كان بالإمكان أن تنهار قوة الاتحاد السوفييتي بذلك الشكل السريع والمريع
الذي ترك أمريكا تتفرعن كحاكم وحيد وأوحد للعالم. ولكن الذي حدث أن انهارت تلك
القوة العظمى على الرغم من امتلاكها كما هائلاً من الرؤوس النووية والتكنولوجيا
العسكرية الفائقة، وعلى الرغم من دخولها سباق التسلح من أوسع أبوابه حتى وصلت لسباق
حرب النجوم !!
لقد ذهبت تلك القوة العظمى لتدخل سباق حرب النجوم ... وجماهيرها
تصطف في طوابير مهينة تنتظر حصتها من الخبز أو اللحم !! وصار علماؤها يبيعون
أرشيفهم ليعتاشوا ، ويبيعون أدمغتهم ليتمعشوا ببناء ترسانات للآخرين حتى لو كانوا
أعدائهم !!
لقد كان الاتحاد السوفييتي في آخر أيامه كأسد ٍ محنط ترتع في
جمجمته الجرذان وتعشش فوق رأسه العناكب. وهذا الحال ينطبق على كثير من الدول و
الأنظمة والأحزاب والحركات التي قامت بتجويع شعوبها في سباق حرب تسلحها مع نظيراتها
، ولكنها اليوم مفلسة سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا .... فكثير من الأنظمة والأحزاب
والحركات قد فشلت وضاعت شعاراتها الثورية والتحررية أدراج الرياح، وصارت عبئاً
جاثما على صدور الناس ، تمتص دماءهم وترهبهم بسطوة سلاحها ولكنها و رغم ما يحيطها
من سلاح ، هي أعجز من أن تطلق طلقة على عدوها الحقيقي ... حتى باتت كدمى لأسود
محنطة بالبارود ، وستنهار وتتلاشى مع أي اهتزاز يحدثه الجماهير التي قد تتخطى حاجز
الخوف من البارود.
وفي هذا الزمان الذي نحياه بقيت أمريكا فرعون زمانها ، لا ترى
من يقف أمامها ، وتصدر أوامرها لمن تحتها من الحلفاء المستعبدين لسياستها.... وتحشد
تحالفاتها لتعيد تشكيل العالم وتصميم الدول ... فتخلع ذاك الحاكم وتزرع آخر ...
وتسحق ذاك النظام و تبدع غيره ... حتى بات لزاما على أي نظام أو حزب أو زعيم يطمع
بالسلطة في بلده أن يقدم أوراق اعتماده لدى السفير الأمريكي ليحظى بالعناية والقبول
!
لاشك أن أمريكا امتلكت زمام العالم بما تمتلكه من قوة اقتصادية
وعسكرية عظمى، ولكنها أيضا كأي نظام عالمي وأي إمبراطورية مرت عبر التاريخ تحمل في
طيات تركيبتها عوامل تفككها وتدميرها. ولكن تلك العوامل التدميرية لن تقوى إلا في
ظل نظام جديد يقابل نظامها ويحمل في طياته عدالة تدحض أكذوبة العدالة التي تحملها
ليبرالية الغرب و نظام اقتصادي متحرر من عبودية اقتصادها.
فالليبرالية التي تتشدق بها أمريكا وتحاول تصديرها لنا عبر
وسائل مختلفة وعبر أنظمة و أدوات ومؤسسات وأحزاب تخلقها بيديها ، هي أداتها وعصاها
السحرية التي تقلب بها المنطقة وتغيير ملامحها وتستعمر الشعوب وتستحمرها عسكريا
واقتصاديا بدعوى الليبرالية وشعار الحرية الفضفاض.
من ينظر لشعار ومبدأ الليبرالية يجده جذابا ... براقا ومغري،
ولذا كثير من الأحزاب والائتلافات الشبابية الجديدة والثائرة تحمل في أبجدياتها
أبجديات الليبرالية القادمة من الغرب ، ولذا لا تجد لها شعارا قوميا أو وطنيا بقدر
ما تجد لها شعارات ليبرالية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ...
نعم تلك مطالب كل الشعوب التي تطمح للحرية والخلاص من الاستبداد
ونحن معها ونناضل من أجلها، ولكن هذه الشعارات إذا ظلت خارج الإطار القومي والحضاري
لمنطقتنا فستغدو أدوات استعباد للنظام الأم والقطب الأوحد الذي ابتدعها كوسائل
حديثة لغزونا... وهو يحكم العالم ويستعبده اقتصاديا وعسكريا، وهو الآن يسعى لإتمام
استعباده بتطبيق أنظمته السياسية و الاجتماعية على كل المنطقة.
أمريكا التي تتشدق بالحرية والعدالة دمرت وسرقت العراق
وأفغانستان والصومال والسودان وتجمع حلفائها عربا وعجما لضرب ليبيا وغيرها من الدول
العربية والإسلامية، تقف اليوم في خانة العداء الواضح والصريح لشعبنا الفلسطيني
وحقوقه الشرعية والتاريخية ، وتجاهر بأنها ستصوت ضد حقنا بالاستقلال وبالدولة ....
فأي ليبرالية وأي حرية وأي عدالة هذه ... بل أي عهرٍ هذا !!!
لقد باتت أمريكا حصانا خاسرا لكل من راهن عليها في بقائه، وقد
وضحت بشاعتها ووجها القبيح لكل من كان يجهلها ، وقد بدا خوف حلفاؤها منها واضحا
وجليا وهم يرددون "المتغطي بأمريكا عريان" .... ونحن نستغرب أن البعض اليوم يبحث عن
رضاها ويقدم أوراق اعتماده لديها في الوقت الذي كان ينكر على غيره مجرد علاقته
الدبلوماسية معها ويصفها بالشيطان الأكبر !!!
قد تبدو أمريكا اليوم في أوج عظمتها وطغيانها وجبروتها ، ولكن
وقوفها ضد قضيتنا الفلسطينية بشكل واضح وضد إجماع دولي بحق دولتنا في الوجود، هو
السيف الذي سيقصم ظهرها وسيذل جبروتها وسيخلع حلفائها وسيحرق كل خرائطها التي
رسمتها للمنطقة بل وللعالم.
اليوم يكتمل سقوط أمريكا السياسي والأخلاقي ... ولن تحميها
سطوتها وجبروتها وعظمة قوتها من غضب الجماهير عليها وعلى حلفائها ..... وستسقط كما
سقطت كل الممالك وكل القوى العظمى التي سبقتها رغم ترسانتها وأساطيلها ...
واليوم ستتضح معالم الشرق الأوسط الجديد على خلاف ما رسمته
أمريكا وحلفاؤها في المنطقة ، وكلمة السر والرقم الصعب فيها هو "فلسطين" .... وأكثر
من سيدفع الثمن هو الإدارة الأمريكية وحلفاؤها في المنطقة الذين أصبحوا في موت
سياسي وليسوا أكثر من دمى محنطة ومفخخة بالبارود وغارقة بالنفط .... وحتما سترميهم
الجماهير بأعواد الثقاب التي ستكتب نهايتهم ... كما نهاية كل الطغاة وممالك البغاة
السابقين ... البائدين ...
فدوما السقوط السياسي والأخلاقي يسبق السقوط الكبير ... واليوم
بدأت أمريكا تكتب سقوطها الكبير...فلا أسف عليها.