الأبعاد التربوية لمؤتمر بورجيه

جمال المعاند * -إسبانيا

[email protected]

-  ثمة جدلية بين الخطاب التربوي الدعوي والواقع، فالحياة العصرية مترعة بالمغريات،  يضاف إليها كون الأمة الإسلامية تعيش فقه الاستضعاف، هذه الأمور فرضت تحديات جمة، وجعلت الالتزام يتطلب جهوداً تتخطى العلاقات المباشرة والأطر المحلية التي تستعصي على ما استخدمه سلفنا من الأساليب  .

فكانت ولادة الحركات الإسلامية لينوء كاهل القائمين عليها بأحمال وأثقال الذود عن بيضة المنهج الإسلامي، في تعبدٍ حركي، يضع نصب عينيه هم الفرد والجماعة من المسلمين، والمحور الرئيس للعمل الإسلامي هوالتربية، مع رفده بمسارات تتسق والشخصية المعاصرة واهتمامها، وتوظيف تلك المسارات في بلورة تجمعات إسلامية تدل بوضوح أن الإسلام بمناهجه الرباني صالح لكل زمان ومكان وإنسان .

وكانت التربية الفردية نقطة ارتكاز عبر مجموعات من الأفراد تـُلقِن المعلومة، وتصقل الفهم، وتضيف الخبرة، ومن خلال انتظام عقد تلك المجموعات تكون التربية الجماعية لتعوض فقد وازع السلطان، وتدرأ منكر الأخلاق، بإيجاد مساحات لممارسة السلوك الإسلامي، فوضعت تلكم الحركات مصطلحات عصرية لمناشط معروفة من مثل الرحلات، وقيام الليل والذي دعي بلقاء الكتيبة، والإفطارات الجماعية....الخ .

وتمضي الحركات الإسلامية تستمطر الفيوض الربانية في هبات المساعدة للقيام بهذه المهمة، وتبعاً لموقع الحركة الإسلامية جغرافياً تكون المناشط وكثرتها وتميزها .

والحركة الإسلامية في الغرب ترفل بثوب الحرية الفضفاض شأنها شأن كل من يقيم في هذه النواحي من العالم، مما أتاح لأعضائها فرصة العمل والاستعداد والتفكير الحالم الواعد، فأنجزت أموراً هامة، والأيام حبلى بمشاريع تحاكي التميز .

واتحاد المنظمات الإسلامية في أوربة، مؤسسة دعوية أسست من أول يوم على هذه المعطيات الحركية الإسلامية،

فعمدت للعمل المؤسساتي الذي يقدم التصورات الإسلامية مشفوعة بتطبيقات عملية أملَها دورها الخدمي للأقليات الإسلامية،  تلك الممارسات وإن بدت خدمية في ظاهرها غير أن الوعي الحركي يلاحظ في التخطيط

استثمار أي منشط معرفياً وتربوياً وإعلامياً...  .

وفي فرنسا بملايين المسلمين المقيمين فيها، كان اتحاد منظماتها الإسلامية قد تخطى منصة النجاح ويدلف للتفوق على أترابه من باقي المنظمات الإسلامية الأوربية .

لقد أنجز مسلمو فرنسا الكثير بدءاً من الاعتراف بالدين الإسلامي ثانياً، بعد المسيحية ديانة أهل فرنسا، إلى إنجازات يصعب سردها في هذه العجالة، بيد أن منشطاً إسلامياً لاتحاد منظماته الإسلامية بز أقرانه في الغرب عامة، ولا يزال يعتلي منصة التتويج في سباق العمل الحركي بلا منازع، ذلك هو مؤتمر الجمعيات الإسلامية، المسمى مـؤتمر بورجيه .

بورجيه ضاحية من ضواحي باريس الشمالية، تستضيف كل عام فئاماً من الناس يـُذَكِرون كل مسلم بأيام الحج في مكة كثرة، فالأعداد تتخطى المئة والخمسين ألفاً من المقمين والوافدين من أنحاء أوربة والعالم، في تجمهر إسلامي يبرهن لكل ذي عنيين قوة الإسلام منهجاً وتطبيقاً .

وقدر لي المولى جل ثنائه، أن اتلقى دعوة كريمة من إخوة مدينة مرسليا، لأشارك في المؤتمر الذي يحمل الرقم الثامن والعشرون، والذي رفع القائمون عليه شعار ( أخلاقيات الإسلام في مواجهة تحديات العصر) ، ويا له من تحدٍ  يقوم به اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، تحدٍ حضاري يقوم على مقارعة الحجة بالحجة، ومعالجة الخطل بالصواب، واظهار حق المثل أمام زيف الباطل .

كنت كبدوي يزور لأول مرة في حياته مدينة عصرية عامرة، تستلفت نظره  الصروح العلمية بنماذجها المصغرة، وتستهويه أنوار مشايخ ودعاة يشعون نورَ العلم والخبرة على من حولهم، فتارة أكون هنا وأخرى هناك،  أعمد لحقيبتي المحمولة لأخرج كراساً أدون فكرة، أو شذرة، أو أقف كرسام شده منظر فأخرج لوحته وأخذ يخط، فكانت هذه المقاربات التربوية لمؤتمر بورجيه .

البعد الأول: بدا لي أن اساسيات التربية كلها حاضرة في هذه المؤتمر، فمحاور التربية الرئيسة الثلاث وهي: (المعرفة، والوجدان، والمهارة)، يمكن تلمسها باليد، فللعلم ساحاته وورش عمله المستقلة، بما فيه الفتيا، بل حتى لو تجاوزنا المعلومة الشرعية نلاحظ أن القائمين على المؤتمر هيؤوا مكاناً لتبادل الخبرات والتواصل بين الدعاة، أما الوجدان رحم الدافعية التربوية الذي يلد الدوافع كان له أكثر من محضن، والمهارات التعبدية بما فيها قيام الليل، والبيوع وما يتبعها من معاملات لها أماكن للممارسة وللنظر والمتابعة، وإذا بحثنا عن أساليب التربية نجد منها التربية بالمصاحبة بين المربين وتلامذتهم، وبين العلماء وطلابهم، وبين قيادات الحراك الإسلامي وصفوفهم، وللتربية بالملاحظة واقع معاش خلال أيام المؤتمر الثلاث، وكذا التربية بالقدوة، ... الخ .

أما البعد الثاني تمثل بوحدة حال ومقام كل مسلم مشارك، بدأت هذه الوحدة بانتظام ما يربو على ثلاثمائة جمعية إسلامية، لكل منها كينونة ومشاركة، ترفد الإسلام وأهله ولا تفترق بشذوذ مستقل، وكان القائمون بدؤوا من أنفسهم  فدعو علماء ودعاة من مشارب دعوية متباينة، وأتاحوا لكل متذوق تجريب النكهة التي يحب،  ومناقشة كل صاحب مدرسة وتوجه، ومعاينة صوراً عن إنجاز أحضره منجزوه، ليترك للمسلم حرية العمل الدعوي وفق ميوله الدعوية، ومع التأكيد العملي أن تباين الأساليب ليس مدعاة للفرقة والتنازع  .

والبعد التربوي الثالث كان قضايا المسلمين وجروح تثعب من دمائهم، وحقوق مغتصبة، ولا يقف الأمر عند حد العرض والشكوى، بل يتعدى نحو المدارسة في نجاعة السبل العلمية والعملية والإعلامية في تسويق تلك القضايا

وتبادل الرؤى .

وكان البعد الرابع يمثل رقي الإسلام وثقته بتعاليمه ومنهجه، فأعطيت فسحة للأخر من غير المسلمين، ليناقش ويحاور ويعرض رأيه، من خلال محاضرات وندوات، تبدد حلكة المخاوف من الإسلام، وتصحح المعلومات المغلوطة التي عشعشت بفعل الموتورين على المسلمين  .

والبعد الخامس يحلق بالعمل الدعوي إلى أفاق الإعلام وفضاءا ته المفتوحة، فثمة وسائل إعلام إسلامية وغير إسلامية تنقل بالصوت والصورة وقائع حياتية دعوية لتجمع عشرات الآلوف من المسلمين وعلى مـدار الساعة إبان المؤتمر .

والبعد السادس  كان العمل الخيري، ذلكم الأسلوب الدعوي الفتي، بمؤسساته وكوادره الناشئة، في عرض صفقات الأجر على المسلمين، وفرصة بين بعضهم لتبادل الخبرات .

ورأيت بعداً سابعاً خفي على الكثيرين، هو بعد تربوي بامتياز – حسب رأيي المتواضع- فلقاء الدعاة في مكان واحد يتفيئون ظلال الإخوة، ليعطي أكثر من مقاربة، أولها تنمية دوافع العمل الدعوي، وثانيها التأصيل العلمي للطرح الدعوي، وثالثها اقتراح حلول لمعضلات دعوية  .

إن مؤتمر بورجيه يحتاج لأكثر من وقفة تربوية ودعوية حسبما لمست، فهو منهج تربوي يجمع بين التنظير والعمل،

وينقل العمل الدعوي عامة نقلة نحو أفاق أوسع من العمل الحركي في طريق الدعوة اللاحب .

                

 * عضو مركز المقاصد الشرعية في الجزائر .