الدولة الإسلامية.. دعوة لفهم التميز الحضاري

الدولة الإسلامية..

دعوة لفهم التميز الحضاري

أ. د. سليمان صالح

الشرق القطرية 14/5/2011

ضلل المستشرقون الكثير من المفكرين العرب، ودفعوهم إلى التفكير باستخدام المرجعية الأوروبية وباستخدام مصطلحات تم انتزاعها من واقع مختلف.

الأخطر من ذلك أنه حدث نوع من الارتباك الذي أصاب الكثير من قادة التيار الإسلامي بسبب رغبتهم في تحقيق الوفاق الوطني وبناء الديمقراطية وتحقيق استقرار الدول وزيادة مساحة الاتفاق مع التيارات الأخرى الليبرالية واليسارية.

لذلك اتجه الكثير منهم إلى التأكيد على عدم الرغبة في بناء دولة دينية، وأنهم يريدون إقامة دولة مدنية، وشجع هذا الاتجاهات السياسية الأخرى على استغلال أي تصريح للهجوم على التيار الإسلامي بحجة أنه يريد إقامة دولة دينية.

ومن الواضح أن حرب المفاهيم والمصطلحات سوف تؤثر بشكل كبير على مستقبلنا السياسي، ولذلك فإنه لابد من تحرير المصطلحات، وإعادتها إلى سياقها التاريخي الذي نشأت فيه، وعدم التفكير بمرجعية أوروبية، ورفض التبعية وعدم الخضوع للاستعمار.

ولكي يمكن أن نحقق اتفاقا يجب أن نتحاور على أرضية الاستقلال الوطني، وعلى أساس هدف عام هو بناء دولة حديثة وديمقراطية تحقق النهضة والتقدم والحرية، من على هذه الأرضية يمكن أن نقرأ تاريخنا بشكل صحيح وبرؤية علمية وباحترام لإرادتنا وحريتنا.

وعندئذ سنكتشف الكثير من الحقائق التي حاول الاستعمار أن يحجبها عنا ومن أهمها أن الدولة الإسلامية لم تكن دولة ثيوقراطية، كما أنها لم تكن دولة علمانية، ولكنها دولة إسلامية متميزة.

وأنا أتحدى أي مؤرخ يثبت لي بأدلة علمية ظهور حالة واحدة للإقطاع في التاريخ الإسلامي، ولقد استخدم مصطلح الإقطاع بعد ثورة 25 يناير في مصر ليشير إلى أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة في مصر، وكان هذا الاستخدام يشكل خطأ تاريخياً، فالإقطاع الأوروبي كان يمتلك الأرض ومن عليها، أما أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة في مصر فلم يكونوا يمتلكون سوى الأرض أي أنهم مجرد بورجوازيين أغنياء يعملون بالزراعة.

لم يحدث في التاريخ الإسلامي وفي أي منطقة في العالم الإسلامي ظهور الإقطاعي الذي يمتلك الأرض والبشر الذين يعملون عليها، فمصطلح الإقطاعي هو مصطلح خاص بالتاريخ الأوروبي.

يضاف إلى ذلك أن أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة في مصر قبل ثورة 25 قد حصلوا على هذه المساحات في ظل دولة أقرب إلى العلمانية وفي ظل سيطرة الاحتلال البريطاني، وقد حصلوا على هذه الملكيات إما عن طريق الشراء وإما كهبات من خلفاء محمد علي مثل السلطان حسين كامل والملك فؤاد.

وبهذا يتضح أن أحد أهم أركان التحالف الذي ظهر في أوروبا والذي شكل الدولة الثيوقراطية لم يظهر أصلاً في الحضارة الإسلامية.

الأمر الثاني أنه لم يكن هناك احتكار للمعرفة في الإسلام، وليس هناك كهان أو قساوسة أو رجال دين، والعلماء في الإسلام يقومون بتعليم الناس وينشرون المعرفة كجزء من وظيفتهم المجتمعية، وكل مسلم ينشر المعرفة ويعلم الناس عبادة الله، لذلك يعتبر المجتمع الإسلامي في المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مجتمع معرفة في التاريخ، ويمكن أن تعتبر المدينة في عهد الرسول جامعة كبرى.

ومن هنا تتضح أهمية إشارة ربعي بن عامر في رده على كسرى: جئنا لنخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام.

كان ذلك يشير إلى أن هذا المسلم يفهم بشكل جيد الواقع في عصره، وأن الأديان تستخدم في الجور، وأن أباطرة الرومان القياصرة كانوا يستخدمون الدين لتبرير ظلمهم واستبدادهم.

لذلك فإن من أهم الإنجازات الحضارية للمسلمين والتي يجب أن يفتخروا بها على البشرية أنهم أسقطوا الإمبراطورية الرومانية بكل ظلمها وقسوتها واستبدادها.

لكن استخدام الدين في الجور انتقل من الإمبراطورية الرومانية إلى أوروبا التي تشكل امتدادا حضارياً وتاريخياً لهذه الإمبراطورية، ولذلك تمت صياغة الحياة على أساس الخضوع التام لهذا التحالف بين الملك والكنيسة والإقطاع، ذلك أن الكنيسة لم تكن تعطي الناس سوى القليل من المعرفة التي تزيد في خضوعهم واستسلامهم لكي يكونوا طيبين ويستحقون الذهاب إلى السماء (الجنة).

أما في الإسلام، فكل مسلم يلتزم بأن يتعلم ويعلم طوال حياته، والمعرفة حق لكل إنسان، والدولة ملتزمة بتوفير المعرفة وفرص الحصول عليها لكل إنسان.

المجال مفتوح لكل إنسان لكي يتعلم وينقل ما تعلمه إلى غيره، وهو يتاجر ويسافر ويجاهد ويعمل كما يريد في أي مهنة، ولا يستطيع أحد أن يتحكم في حياته.

أما الحاكم فإنه يتم اختياره بإرادة الأمة، وهو يعتبر خادماً للأمة، ولم يقل أي حاكم في الإسلام أنه ظل الله على الأرض، أو أن قراره وحي من السماء، فالوحي قد انقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما يفعله الحاكم أن يطبق الشريعة ويقيم العدل ويحقق مصالح الأمة.

من هذا يتضح أن الدولة الإسلامية دولة متميزة، ويجب أن يتم فهمها في ضوء هذا التميز... وهي بالتأكيد ليست دولة ثيوقراطية، كما أنها ترفض العلمانية والديكتاتورية والشمولية وكل المصطلحات الغربية الغامضة.