التعليم: المحنة والمستقبل

التعليم: المحنة والمستقبل!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أعجبني تأكيد الدكتور عصام شرف في أحد تصريحاته على أهمية التعليم بوصفه حجر الزاوية في الإصلاح وتطور الدولة .وأنه القضية الأولى التي يجب أن تكون المحور الأساس للحركة والعمل في المرحلة القادمة .

 والحق أن التعليم هو أس المشكلة وأساس الحل، فما جرى في مصر على مدى ثلاثين سنة مضت كان إفسادا للتعليم بمنهجية وتخطيط مسبقين ، وشارك في هذا الإفساد خبراء أجانب – من أميركا تحديدا !- ونفذ هذا الإفساد وزراء ومسئولون من أعوان النظام البائد ، وللأسف فقد أنفقت السلطة على هذا الإفساد أموالا كثيرة من دم الشعب المصري البائس المسكين ، كما تقاضى الفاسدون المفسدون المخربون ، المعادون لله ورسوله والوطن والأمة جميعا مكافآت تدفعها هيئات المعونة الأجنبية .،

في السنوات الثلاثين الماضية كتبت ُ كما كتب غيري عن فساد التعليم وإفساده ، لدرجة أن وزيرا سابقا كان يتولى التعليم العام والتعليم العالي استدعاني في يوم مشهود اهتزت له أركان الجامعة التي أنتسب إليها ؛ ولكني بفضل الله لم اهتز ، وواجهت الوزير بما أراه صوابا ، وطالت المواجهة حتى أقرّ أن ما يحدث يتم بأوامر أعلى !

انهيار التعليم كان أمرا مخططا ومقصودا ، وهو ما نرى معالمه سائدة في المدارس العامة من تفشي الدروس الخصوصية في كل المواد عدا التربية الدينية والتربية الرياضية ، وفراغ المدارس الثانوية من الطلاب – خاصة طلاب الفرقتين الثانية والثالثة - على مدى شهور الدراسة ، وضعف المستوى العام في التعليم الأساسي لدرجة أن بعض الطلاب لا يحسنون الكتابة ولا القراءة ، ويضاف إلى ذلك انكماش النشاط المدرسي أو تلاشيه تماما .

والأمر في الجامعة لا يختلف كثيرا عن التعليم العام ، فضعف الطلاب مسألة لا اختلاف عليها ، وكان للنظام الفصلي واختفاء النشاط الثقافي – في الكليات النظرية خاصة -  أثرهما في التكوين السلبي للطلاب ، ويضاف إلى ذلك ضعف مستوى هيئات التدريس ومنح الماجستير والدكتوراه لذوي المستويات غير المؤهلة ، وانشغال كثير من أعضاء الهيئات بالبحث عن الرزق بعد تدني المرتبات ، وخروج العناصر المؤهلة من هيئات التدريس إلى العمل في الخارج لسنوات طويلة بحثا عن عائد من الرزق يوفر لأصحابه حياة كريمة وفرصة لتوفير مصادر البحث ومراجعه  .. وفي الوقت ذاته تحولت الجامعة إلى لعبة بيد أجهزة الأمن ترفع من تشاء إلى المناصب الإدارية العليا ، وتحرم من تشاء ، واشتعلت الصراعات في الأقسام والكليات بين العناصر الضحلة علميا وسلوكيا ؛ وغالبا ما تكون قد باعت نفسها للأمن ، وبين العناصر الأخرى التي ما زالت تتشبث بقيم الجامعة التي كانت ، وصار التقرب إلى الحزب الحاكم ورموزه أمرا عاديا بين الأطراف التي باعت نفسها لأجهزة الأمن ، فالقرب من الحزب والأمن يهيئ لمزيد من المناصب داخل الجامعة وخارجها ، وبالتالي يمنح صاحبه مزيدا من الدخل والشهرة في ظل تردي المرتبات الجامعية وتدني المكافآت الخاصة بالبحث العلمي ، ولذا كانت النتيجة انهيار معظم التقاليد والقيم الجامعية لصالح السوقية والعمالة والانحطاط القيمي !

في الوقت نفسه كانت الخسارة الأكبر في مجال التعليم هي ضياع الهوية ، وانهيار القيم الدينية والخلقية والوطنية ، وصار الطالب في التعليم العام أو الجامعي لا يعرف شيئا عن دينه ولا أخلاق أمته ولا قيم وطنه ، وصار كائنا ماديا يأكل ويشرب ويستمتع بما يستمتع به الكائن الحي الذي لم يرق إلى درجة الإنسان الفاعل والمؤثر بفكره وعقله وإبداعه .. فقد تم تحييده ، ومنحه إجازة مفتوحة لا يستطيع فيها أن يخدم وطنه وأمته خدمة حقيقية إيجابية .

لقد ألغي تدريس التربية الإسلامية عمليا بعد أن صارت حصة واحدة في الأسبوع ، وألغي تدريس التاريخ الإسلامي واقعيا ، ولم تعد هناك تربية وطنية ولا قومية لأن السلام المزعوم مع العدو يمنع الكلام حول تحرير القدس وفلسطين ، وكان إلغاء هذه المناهج ، بالإضافة إلى تفريغ مناهج اللغة العربية من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ووقائع التاريخ المتعلقة بالفتوح الإسلامية ، استجابة للتمرد الطائفي المجرم الذي تقوده الكنيسة في مصر ، وتنفيذا لإرادة العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة ، وقد امتدت عملية التفريغ الهمجية إلى الإذاعة والتلفزيون والصحافة ونشاطات وزارة الثقافة ؛ لدرجة أن بعض هذه النشاطات احتفلت بعدوان فرنسا على مصر في حملة السفاح الاستعماري الصليبي عام 1798م ، وعدّ القائمون على هذه الاحتفالية الاحتلال الفرنسي على مصر " علاقات ثقافية !" ، ورصدوا لذلك ملايين أنفقت تحت سفح الهرم في احتفال ماجن يهين مصر وشعبها وحضارتها ومقاومتها !

إفساد التعليم كان أمرا مقصودا لخدمة التمرد الطائفي في مصر ، والاحتلال النازي اليهودي في فلسطين المحتلة ، فضلا عن القوى الاستعمارية ، ويضاف إلى ذلك أن هيمنة الولايات المتحدة على مصر طوال ثلاثين عاما أو يزيد أسست لبلورة نخب متوحشة في عداوتها للإسلام ولمستقبل مصر ، مع أنها تردد كثيرا مصطلحات الحرية والاستقلال والتطور والتقدم ، وقد صنع كثير منهم فيما يسمى مراكز تطوير المناهج ما لم يفعله غلاة الغزاة الذين احتلوا مصر في القرون الماضية بتخريب مناهج التعليم وتحويلها إلى أشتات لا تصنع هوية ولا تبني عقلا ولا تقيم فكرا .

كيف يقيم العدو النازي اليهودي  بناءه التربوي على أسس توراتية ، ويخصص للتخصص في لتعليم الديني اليهودي امتيازات تحقق لطلابه الرفاهية والتفوق ، بدءا من المخصصات المالية حتى الإعفاء من الخدمة العسكرية ، وهو الكيان القائم على القتال الدائم والحروب المستمرة ، ونحن نتنازل مجانا عن هويتنا وديننا وحضارتنا؟

ثم إن الكنيسة بعد أن تحولت إلى كيان منفصل داخل الدولة تتولى تربية أتباعها تربية كنسية على مدار الساعة ، وتستفيد بالأوقاف والمنح والعشور في تهيئة الفرصة لتجعل الأتباع على صلة دائمة بالإنجيل ، فضلا عن تحقيق غايات التمرد الطائفي بالانفصال ، وعدّ المسلمين المصريين غزاة ، واللغة العربية لغة محتل ، وتعميق فوبيا الاضطهاد الإسلامي للطائفة مما يستوجب المقاومة إلى حد الاستشهاد !

في مقابل ذلك لا وجود للإسلام في التعليم أو الإعلام أو الثقافة إلا بصورة سطحية ، لا قيمة لها ولا تأثير ، لدرجة إلغاء البرنامج الأسبوعي لتفسير القرآن الكريم الذي كان يقدمه الشيخ الشعراوي ، ويبثه التلفزيون المصري ، وكان يحظي بنسبة مشاهدة عالية ، ويتعرف المشاهد من خلاله على بعض قيم الإسلام وتشريعاته . 

وبصفة عامة فإن انهيار التعليم بشقيه : العام والجامعي ، يستلزم بعد الثورة التركيز على النقاط التالية :

أولا : استعادة الهوية العربية الإسلامية ، وإعادة مادة التربية الدينية ؛ إسلامية ومسيحية ، إلى الامتحانات الجادة ، وإضافتها إلى المجموع في الفرق جميعها ، وكذلك التاريخ الإسلامي ، وتاريخ مصر القديمة.

ثانيا : إعادة الاعتبار للغة القومية ، وإعطائها أولوية قصوى وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي ، فضلا عن وسائط الإعلام والتعبير .

ثالثا : إعداد مدرس المرحلة العامة إعدادا حقيقيا يقوم على قبول الطلاب المتفوقين في كليات دار العلوم واللغة العربية والعلوم والفنون الجميلة في كليات التربية، بما لا يقل التقدير العام  للطالب عن جيد ، وجيد جدا في مادة التخصص ، للدراسة التربوية والعملية لمدة سنتين ، يعين بعدها الطالب في إطار التكليف ، مقابل مرتب مجز ، على أن يتم التخلص من كل من يمارس عملا غير التدريس ، أو يتعاطى العمل بالدروس الخصوصية .

رابعا : استقلال الجامعة ورفع مرتبات الأساتذة بما يحقق المستوى الكريم لحياتهم ، ودفع مكافأة ثابتة سنويا للكتاب الجامعي ، على أن تتولى الجامعات طبع المقررات وتوزيعها على الطلاب بأسعار محددة ، ونزع فتيل الصراعات بين الأساتذة التي تدور حول المناصب الإدارية والجداول التدريسية والأساتذة العاملين وغير العاملين ، فضلا عن وضع ضوابط واقعية للارتقاء بالبحث العلمي والترقيات ورفع المستوى العلمي لهيئة التدريس.

خامسا : تشجيع الهيئات الأهلية ، وخاصة الحركة الإسلامية على إنشاء المدارس الأهلية – وليس الخاصة التي تتغيا الربح والتجارة – لتعوض القصور في المدارس الحكومية ، وأيضا ينبغي أن يتوقف السماح بإنشاء الجامعات الخاصة والأجنبية التي تحولت إلى مؤسسات لها أهداف غير تعليمية بالدرجة الأولى ، لتتقدم الجامعات الأهلية التي يسهم في إنشائها جموع المواطنين ، وخاصة في المواقع الصحراوية أو قليلة السكان .

سادسا : صار توحيد التعليم في المرحلة الأساسية أمرا ضروريا ، فوجود مدارس انجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو غيرها لم يعد مقبولا لبناء المواطنين المصريين ،ويمكن أن يسمح للجاليات الأجنبية وحده بإنشاء مدارسها إذا كانت هنالك أعداد تقتضي ذلك ، على ألا يدخلها مصريون مهما كانت الأسباب .

والله الموفق وهو المستعان .