الاستبداد يعلن الحرب على الحرية في سورية
بعد مجزرة أخرى.. في حمص الأبية
نبيل شبيب
ما الذي يعنيه نزول القوات
الأمنية علنا وليس في شكل عصابات مسلحة وشبيحة سوداء وقناصة مدرّبين، لارتكاب مجزرة
أخرى، في حمص الثائرة الأبية، كالتي ارتكبها من قبل في درعا واللاذقية وبانياس
ودوما وغيرها؟..
ما الذي يعنيه إعلان وزارة
الداخلية ووزير الخارجية في وقت واحد، أنّ مرحلة مواجهة "التخريب" قد بدأت، وسيُفرض
"الاستقرار" في جميع أنحاء البلاد دون تهاون؟..
ذاك هو إعلان الحرب رسميا
ضدّ الشعب الثائر، بعد أن كان النظام الحاكم يمارسها عمليا طوال الأسابيع الأولى من
عمر ثورة شعب سورية.. مع محاولات التمويه المفضوح عليها.
كلمة "إعلان الحرب" عنوان
مجازي لوصف موقف النظام الحاكم في سورية ابتداء من يوم 18/4/2011م، فإعلان الحرب
على الحرية كان منذ اليوم الأول لوصول النظام الاستبدادي إلى السلطة، وشملت جولات
الحرب عبر 48 سنة جميع ما تنطوي عليه كلمة "شعب"، من فئات واتجاهات، من طوائف
وأديان، من معارضة سياسية ومنظمات حقوقية، وشملت جميع ما تنطوي عليه كلمة "إنسان"،
عبر غسيل دماغ جماعي في المدارس والجامعات، والمهرجانات والمعسكرات، والصحف
والإذاعات، والتلفزة ومؤسسات "الدولة".. وهدف الحرب هو صناعة قطيع مطيع، وفق لعبة "التسعات"
في الانتخابات، والتهريج والتصفيق فيما يسمّى مجالس "شعبية ونيابية"، وما شابه ذلك
من مسرحيات استبدادية هزلية.. ولم يصدّق عاقل أنّ حملة 48 عاما قد حقّقت فعلا ما
يستحيل تحقيقه، وأنّه لم يعد يوجد شعبٌ في سوريةِ الحضارة والكرامة والعزة والمجد،
ولئن لم يصدّق عاقل فإن النظام نفسه صدّق نفسه، فلا غرابة أنّ ثورة شعب سورية وضعته
بين ليلة وضحاها أمام حقيقة صارخة في وجهه مفجِعة لعجرفته، تكشف عن مدى إخفاقه
الذريع.. وضعته في الزاوية، فطفق يتخبّط في محاولة تفسير ما يجري، ومحاولة بيع
تفسيره للعالم.. وهو يفتقد من يصدّقه.
أصبحت القائمة معروفة:
عصابات مسلحة تطلق النار
وليس عناصر القمع الحاكم..
شبيحة يعبرون الحدود
ويظهرون في الوقت المناسب في المكان المناسب كالأشباح، وليس أزلام القمع الحاكم..
مؤامرات خارجية من لبنان
المجاور ومن جانب القوى الصهيونية الأمريكية ومن العراق –ومن المريخ على حدّ تعبير
الثوار- وليس الشعب مَن يريد سقوط الاستبداد الحاكم..
أسلحة قاتلة في كل مكان
خارج قدرة الحاكم تسلب الحاكم –بزعمه- احتكاره هو للقمع الآثم..
طائفيون، إخوان مسلمون،
مجرمون، متآمرون، مندسون.. فأي وصف من هذه الأوصاف المتتابعة المتقلّبة تنطبق على
"الأطفال" في درعا الذين خرجوا من معتقلات الاستبداد الحاكم وعلى أجسادهم آثار
التعذيب الهمجي الآثم؟!..
ثم لعبة "تقديم التنازلات"
و"تلبية المطالب" و"دراسة تعديل القوانين" و"لجان التحقيق" وفي الختام "تطوير إعداد
الشرطة" وكأن خدعة إنهاء الاستبداد تنازل، أو أن خدعة تلبية المطالب هبة من هبات
الزعيم الملهم، أو أن ما يسمّونه "قوانين" لم يصدر من قبل بمراسيم يوقعها الزعيم
الأوحد الملهم –المعشوق- أو أنّ الحديث عن إعداد الشرطة إعدادا جديدا لحماية الشعب
ليس اعترافا بأن إعدادها (مع بضع عشرة مؤسسة استخباراتية قمعية) قد كان إذن لقمع
الشعب طوال 48 سنة قمعا آثما، أو كأنّ في الإمكان أن يحقّق المجرم في المسؤولية عن
الجرائم التي يرتكبها وهو يرتكب المزيد عليه!..
سقطت جميع هذه الأقنعة
الشفافة الفاضحة التي كان النظام الحاكم الآثم يحاول بها -خلال مواجهة ثورة الشعب
بالنار والأكاذيب وبالقمع والتعذيب وبالاعتقال والترهيب- إقناع البشر العاقلين أنّه
"نظام" حقا وليس عصابة مسلّحة مترفة آثمة.
أصبح واضحا –على سبيل
المثال دون الحصر- أن اللعبة الإجرامية المتكررة اعتقالا للمتظاهرين ثم إطلاق
سراحهم أو سراح بعضهم، في مدينة ثائرة بعد مدينة، وعقب مقابلة انفرادية مع "الوجها"
بعد مقابلة.. لم تكن في واسقعها إلا من وسائل إرهاب الشعب الثائر، باستعراض ما
تعرّض المعتقلون له من تعذيب همجي في أقبية الحكم الآثم استعراضا علنيا..
أخفقت أساليب التضليل
والترهيب جميعا، وظهرت "خطوات الترغيب" على حقيقتها أنّها ليست سوى جزء من عمليات
التضليل والترهيب.
لم يكن الشعب الثائر جاهلا
من اللحظة الأولى أنّه لن يصل إلى أهدافه المشروعة العادلة إلا بسقوط النظام الحاكم
الآثم.. وتعلو اليوم الهتافات صريحة واضحة جلية: الشعب يريد إسقاط النظام.
وكأنّما كان التركيز من
قبل على هتافات "حرية حرية" يعطي فرصة أخيرة للاستبداد، رغم عدم توقع أن يستفيد
الاستبداد الحاكم منها، أو لعلّها تطرح على الملأ، لا سيما على أولئك الذين
يتحدّثون من خارج واقع سورية شعبا وإرادة ووطنية وعروبة وإسلاما وحضارة، وما زالوا
يتحدّثون عن "خصوصية الاستبداد في سورية" تحت عناوين "الممانعة أوالمقاومة".. فكان
في نداء "حرية حرية" والجواب بالرصاص الحيّ دليلا آخر ليدرك كلّ من لديه بقية شكّ،
أنّ النظام الحاكم في سورية يجسّد استبدادا دمويا آثما لا يمكن بحال من الأحوال أن
يكون في صالح قضية فلسطين.. فهي قضية تحرير لا يخدمها مَن يمارس "استعباد شعب شقيق"
بأبشع الصور، أو أن يكون في صالح قضية المقاومة.. فالمقاومة قضية مواجهة احتلال
واغتصاب وعدوان، مواجهة "عدوّ"، ولا يمكن أن تجتمع في بلدٍ واحد –بما يتجاوز
الكلام- مع قمعٍ وإجرام لا يختلفان عمّا يصنعه عدوّ يمارس الاحتلال والاغتصاب
والعدوان.
إذا كان النظام الحاكم
الآثم يحسب أنّه بإعلان "الحرب" رسميا على شعب سورية الثائر، سينال من ثورته، أكثر
ممّا جناه عبر ممارسة الحرب فعليا طوال شهر مضى، فليس في ذلك سوى ارتكاب خطيئة أخرى
تضاف إلى ما سبقها، وتصنع مزيدا من الوقود لثورة لن تنطفئ شعلتها قبل أن ترتفع في
سماء كل بقعة من بقاع أرض سورية راية التحرر من الاستبداد الحاكم الآثم.
من يريد الدليل فلينظر إلى
حمص وأخواتها وما ستصنع يوم 19/4/2011م –أثناء كتابة هذه الكلمات- بعد مجزرة "قوات
الأمن القمعية" في اليومين السابقين.. هذا إذا كانت لا تكفيه الأدلة المتتابعة التي
كتبتها الثورة في سجل التاريخ خلال 4 أسابيع مضت، وقد تحوّلت من شعارات تخطّها
أنامل الأطفال على الجدران في درعا.. إلى ثورة في درعا، وتحوّلت من مواجهة ثوار
درعا لقمع الحكام.. إلى مواجهة الثوار في كل مدينة وقرية لإجرام الحكام.
مَن لا يزال يتحدّث عن
"خصوصية الاستبداد في سورية" فلينظر كيف تصرّف الاستبداد الحاكم من اللحظة الأولى
على طريق سقوطه، مرة بعد أخرى، بصورة طبق الأصل عمّا صنعه ويصنعه المعاصرون من
رفاقه المستبدين، وإن اختلفوا على بعض التسميات وبعض الوسائل:
تجاهلا وإنكارا لحقيقة أنّ
الثورة ثورة..
نشرا للاتهامات والأكاذيب
المكشوفة المتناقضة مع بعضها بعضا..
تعبئة القمع الإجرامي في
مواجهة الإرادة السلمية الشعبية..
الإجراءات الترقيعية
المضلّلة عن حقيقة ما يطالب به الشعب بعبارات واضحة جليّة..
محاولات مستميتة لتجزئة
الشعب الثائر إلى فئات وإشعال "فتنة حرب أهلية"..
محاولات مفضوحة للتمييز
بين رأس النظام وحاشيته وإصلاحه وفسادهم..
من أراد أن يستوعب ما
تسجّله هذه الحقبة من تاريخ سورية بمداد من دماء فلينظر فيما يصنعه الثوّار في
سورية.
إنّه جيل الثورة، جيل
المستقبل، نشأ في "محاضن الاستبداد" منذ ولادته وعبر أعوام وأعوام من نشأته شبابا
وشابات، فظنّ الحاكم المستبد أنّه "احتضنهم" وجهل –وجهل كثير آخرون- أنّ جيل
المستقبل عرف ذلك الاستبداد الحاكم من داخل تلك المحاضن معرفة مباشرة كافية وافية،
وعرف الطريق إلى إسقاطه.. بالثورة الشاملة النقية السلمية الحضارية التي خاضها
ويخوضها، وقدّم ويقدّم التضحيات تلو التضحيات ويكتسب ثقة جميع فئات الشعب دون
استثناء.
ولا يكتم كاتب هذه السطور
من جيل الماضي القريب، أنّ شيئا من قوالب التفكير التقليدية المتوارثة عبر عقود
مضت، جعلته يحسب عند ميلاد ثورة شعب سورية.. أنّ طاقات القمع لدى النظام القائم مع
شيء ممّا بدا أنّه يميّزه عن سواه تحت عناوين "الممانعة والمقاومة" (بل وشيء من
العقلانية الاستبدادية بالمقارنة مع ما لا يعتبر نظاما أصلا كما هو الحال في ليبيا)
سيجعل الثورة معرّضة لخطر يختلف عن الأخطار التي تتعرّض لها الثورات الشعبية في
بلدان أخرى..
كلاّ..
إنّها حرب خاسرة تلك التي
مارسها ثمّ أعلنها –رسميا- الاستبداد الآثم في سورية، على الحرية، على شعب سورية،
على مستقبل سورية، على "الإنسان" الذي يأبي أن يكون كما يريده الاستبداد.. يدبّ على
أربع ولا ينظر إلى العلياء، في قطيع يقوده الاستبداد كيف شاء وحيث شاء، وهو يطعن
بتاريخ سورية وحاضرها ومستقبلها، ويوجّه الطعنات بذلك إلى القضايا المصيرية تاريخا
وحاضرا ومستقبلا في آن واحد.
إن جيل المستقبل الثائر
ومعه شعب سورية يعلّمنا كما يعلّمنا جيل المستقبل في بلدان أخرى، أنْ هكذا تُصنع
الثورات، وأنّ الثورة الشعبية الشاملة في سورية ستنتصر لا محالة، وأن الاستبداد
سيسقط لا محالة.
يا شباب سورية وفتياتها،
في حمص وما حولها، في درعا والصنمين والحوران، في اللاذقية وبانياس والساحل، في دير
الزور والحسكة والجزيرة، في كل مدينة وقرية وساحة وحارة..
يا ثوار سورية، فتيانا
وفتيات، رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، أمّهات وأطفالا.. إنّكم وأيم الله منتصرون..
منتصرون..
وإنّكم لتعلّموننا التضحية
التي لم تخلُ منها خطبة من خطبنا، والثبات الذي لم يفتقده بيان من بياناتنا، والوعي
الذي كان عنوانا لكافة مقالاتنا وكتبنا.. كم ذا أعطينا من فكر ومداد، وأنتم تقولون
لنا وللتاريخ إنّ ثورة الشعب على الاستبداد الآثم تقوم وتنتصر بعطاء آخر.. بعطائكم
أنتم الذي جعل من كلمات التضحية والثبات والوعي والمقاومة والوحدة والعزيمة
والإقدام والفداء، واقعا حيّا في الصدور والنحور مع الألسنة، وجراحا يضمّدها مزيد
من البذل مع الأحزان، وشهادة على درب الجنان تحملها أكتاف الثائرين على درب النصر
الموعود..
الشعب يريد إسقاط النظام..
إسقاط الاستبداد الحاكم الآثم.. وما الله بغافل عمّا يعمل الظالمون، وسيعلم الذين
ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.