استقيموا يرحمكم الله
بدر محمد بدر
أشعر بالأسى والأسف أحيانا عندما أتأمل واقع نفر من الكتاب العلمانيين وبقايا الماركسيين واليساريين في مصر، الذين يملأون وسائل الإعلام ومنابر الثقافة صراخا وعويلا وضجيجا، وأسأل نفسي في هذه الحالة: ما هو رد فعلك إذا وجدت أن جهدك ذهب أدراج الرياح، وأنك تحرث في الماء وتحارب طواحين الهواء، وأنك بعد كل هذا العناء لم تحقق في حياتك الفكرية أي هدف ذا قيمة، ولا ترى بصيصا من الأمل لتحسن هذا الوضع مستقبلا؟
بالتأكيد سوف أشعر بإحباط نفسي شديد، وربما يداهمني إحساس بعدم الرغبة في استمرار الحياة، وربما أشعر كذلك بالهزيمة النفسية والفكرية، فأصرخ بأعلى صوتي وأملأ الدنيا صياحا، واتهم الآخرين بشتى أنواع الاتهامات، لأقنع نفسي بأنني لازلت حيا، وبأنني لازلت صاحب قضية، وأن الناس هم الذين لا يفهمون أفكاري وآرائي واجتهاداتي.
وهذا بالضبط ما يفعله الآن سدنة العلمانية وفلول الشيوعية وبقايا الماركسية في مصر، من خلال المناصب والمنابر الإعلامية والثقافية الرسمية، التي لا تزال تماما تحت سطوتهم وسلطتهم، رغم التغيير الذي أحدثته ثورة التحرير الرائعة.. اتهامات وتفزيع وترويع وصراخ وعويل دائم، وترهيب وتخويف من الظلاميين الإسلاميين والمتأسلمين، ومن تجار الدين الذين يلبسون عباءته ويخلطونه بالسياسة، مع أنه أسمى من ذلك!.
أقرأ وأتابع وأشاهد هذا يوميا، في مقالاتهم وندواتهم وحواراتهم وأدبياتهم، بشكل يدعو إلى الشفقة، وبإلحاح يثير الغثيان، وبطريقة شديدة الملل، مع أنهم كانوا من أشد أعوان النظام السابق، وأكثر من ظاهروا الاستبداد والفساد، وأبرز من تصدروا المشهد الثقافي والإعلامي والسياسي طوال 60 عاما، أراها ضائعة من عمر الوطن، بل ردتنا إلى الوراء كثيرا.
لم نعرف يوما أن هؤلاء من أنصار حرية الرأي، أو من دعاة الديمقراطية الحقيقية، أو من الذين يحترمون الرأي الآخر، وإن تشدقوا دوما بكل ذلك وأكثر، وكلنا يعرف أنهم اعتمدوا ـ ولا يزالون ـ أسلوب الإقصاء والتخوين، وافتعال المعارك الوهمية، واتهام النوايا ضد خصومهم، خصوصا إذا كانوا من أنصار الفكرة الإسلامية ودعاة التيار الإسلامي.
أدرك تماما أن رسائل "ثورة التحرير" باغتت هؤلاء القوم، فلم يحسنوا قراءتها أو استيعابها أو التعامل معها، بعد أن تنعموا طويلا في العهد البائد، وحافظوا كثيرا على مكاسبهم ومناصبهم، وأدرك كذلك أن التدين الوسطي الرائع للشعب المصري (مسلمين ومسيحيين)، الذي ظهر واضحا في أثناء الثورة، أفزع بعضهم وأربك حساباته، فاستعانوا ب "الفزاعة" الدائمة التي استخدمها النظام المنهار، فزاعة التخويف من الإسلام والإسلاميين.
إن مصر الأزهر الشريف والكنيسة القبطية والإخوان المسلمين وعلماء الأوقاف والجمعية الشرعية والمدرسة السلفية وأنصار السنة والتبليغ والدعوة والصوفية الحقة وغيرها، مصر محمد عبده وحسن البنا والشعراوي والقرضاوي والغزالي وسيد سابق ومحمد عمارة وسليم العوا وطارق اليشري وفهمي هويدي وغيرهم، لم ولن تكون يوما دولة علمانية تقصي الدين وتهمشه، أو ماركسية تكفر بالأديان وتزدريها، أو تائهة بلا عقيدة أو مبدأ، وأبدا لن تكون بعيدة عن روح الدين السامية، أو مهمشة لمبادئه الربانية، أو سائرة خلف دعاة إقصاء الدين من الحياة.
أقول لكل هؤلاء الذين أرهقونا كثيرا وصدعونا وأتعبونا طويلا، تأسيا بقول الإمام الجليل، الذي يخاطبنا قبل أداء الصلاة بقوله: "استقيموا يرحمكم الله"، وأعيدوا حساباتكم من جديد، وانحازوا إلى عقيدة وإيمان هذا الشعب الواعي، واحترموا تاريخه وتدينه وقيمه، أو اتركونا نصنع مستقبلنا بالطريقة التي تعبر عنا، وأريحوا هذا الشعب المسكين الذي تحملكم سنين طوالا، وابحثوا لكم عن ميدان آخر تحرثون فيه، أو معارك أخرى تصارعون فيها طواحين الهواء!.