الحرية الدينية والإعلان الدستوري لثورة 25 يناير
الحرية الدينية
والإعلان الدستوري لثورة 25 يناير
أ.د. محمود السيد داود
أستاذ السياسة الشرعية المشارك
بجامعة البحرين وجامعة الأزهر
لقد جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 المصرية، ثورة للحرية والديمقراطية، وإطاحة للاستبداد والدكتاتورية، تلبية للشعار المصرى الذى أعلن أثناء الثورة، والذى يحدد أهم مطالبها " حرية. كرامة . عدالة اجتماعية "، وحينما أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الإعلان الدستورى بتاريخ 30/3/ 2011، فى المؤتمر الصحفى الذى حضره اللواء أركان حرب ممدوح شاهين عضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة و اللواء أركان حرب إسماعيل عتمان مدير إدارة الشئون المعنوية عضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة، جاء هذا الإعلان ملبيا لروح الثورة المصرية الغالية، مركزا فى صدره على أهم مطالبها الممثلة فى الحرية الكاملة التى ينبغى أن يعيشها الشعب المصرى، والتى حرمها لعقود ماضية.
والناظر فى الإعلان الدستورى المراد، يستطيع أن يقرر أنه قد جاء متفهما لمكانة هذه الحرية وأهميتها فى حياة المصرية، لدرجة أنها استغرقت منه ما يزيد على ست مواد دستورية فى هذا الإعلان الدستورى القصير، الذى قصد منه فقط إدارة الحياة المصرية فى هذه الفترة الانتقالية التى ستتم فيها الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية، ثم تتهيأ بعد ذلك مصر لوضع الدستور الكامل الذى يتناسب مع حجم ونظافة ومطالب هذه الثورة العظيمة، وإذا كان الإعلان الدستورى يتضمن ما يزيد على ست مواد دستورية لترسيخ قيمة الحرية بين المصريين، فما بالكم بالدستور الجديد القادم إن شاء الله الذى سيولد على مائدة الحرية ذاتها أو سيخرج بالأحرى من رحمها .
لقد تضمن الإعلان الدستورى فيما تضمن النص على مهم من الحريات العامة ، لعل من أهمها :
ـ الحرية الشخصية فى المادة رقم 8 بقولها : " الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس , وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع , ويصدر هذا الأمر من القاضى المختص أو النيابة العامة , وذلك وفقا لأحكام القانون ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطى"
ـ.كما نص على حرية الصحافة والطباعة ، فى م 13 بقولها : " حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة, والرقابة على الصحف محظورة, وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور , ويجوز استثناء فى حالة إعلان الطوارئ أو زمن الحرب أن يفرض علي الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة فى الأمور التى تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومى , وذلك كله وفقا للقانون."
ـ كما نص على حرية الاجتماع ، فى م 16 بقولها : " للمواطنين حق الاجتماع الخاص فى هدوء غير حاملين سلاحا ودون حاجة إلى إخطار سابق. ولا يجوز لرجال الأمن حضور اجتماعاتهم الخاصة , والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة فى حدود القانون" .
ـ وفى مقدمة هذه الحريات جميعا تأتى الحرية الدينية أو حرية العقيدة التى ينص عليها الإعلان الدستورى فى م 12 بقولها: " تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية .وحرية الرأي مكفولة , ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون , والنقد الذاتى والنقد البناء ضمانا لسلامة البناء الوطنى "
والحرية الدينية تعد من أقدس وأعرق الحريات، والتى يجب ألا يمسها انتهاك ولا يعتورها نقص، بل وتعد جانبا خاصا، أو هى أهم جوانب الحريات العامة فى معناها الواسع، والتى تشملها الحماية الدستورية والدولية لحقوق الإنسان اليوم، فضلا عن حماية الشريعة الإسلامية لها منذ مجئ الإسلام .
ولقد كان نص الإعلان الدستورى على الحرية انعكاسا ضروريا لما كان يجرى فى ميدان التحرير أثناء الثورة ووقت مخاضها، ولهذا كان النص على هذه الحرية بالذات نصا من واقع مصرى ملموس، يؤكد هذا الواقع أن المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين قادرون على أن يعيشوا أجواء الحرية الدينية الكاملة، حينما يعتنق كل واحد منهم ما يريد من أفكار دون إجبار أو إنكار عليه من أحد أو سلطة، وحينما تمارس الشعائر والعابدات على أرض الواقع، فلقد رأينا المسلمين يؤدون صلاتهم فى خشوع وخضوع بين حماية مسيحية فى الميدان، وكذلك رأينا المسيحيين يؤدون طقوسهم وعبادتهم أيضا بين حماية مسلمة لهم فى الميدان، ورأينا المسيحى الذى يعين المسلم على عبادته والمسلم الذى يحمى المسيحى فى طقوسه، فى حرية واختيار تام بين الفريقين، ورأينا المسلمين الذين كانوا يحرسون الكنائس، بل ويساهمون فى إصلاح ما تم تخريبه أو هدمه فيها، لأن هذا التخريب جريمة وعدوان لا مبرر له وإن كان له من هدف فهو إشعال فتيل الفتنة الطائفية، وتفريق الشعب المصرى الأصيل . بل ورأينا شيخ الأزهر ذاته وهو يحتضن المسيحى الذى اعتدى عليه بقطع أذنه ، ويقوم بعلاجه على حسابة. هذه هى أجواء الحرية والتسامح التى تسرى فى دماء الشعب المصرى الأصيل، ولقد أخزى الله رؤوس النظام السابق حينما تبين للعالم أجمع أن ما حدث من تفجير لكنيسة القديسين فى الأسكندرية، ولعدد من أرواح المسيحيين هنالك ، إنما كان من أفعالهم ومما كسبته أيديهم، ليبرروا لأنفسهم اتهام الأمناء، ومحاكمة الأبرياء، وقتل الشرفاء من ناحية، وليوهموا العالم أجمع بأنهم هم القادرون على تحقيق الأمن وحماية البلاد من المتطرفين والإرهابين، وأنهم قادرون على كشف الفساد ومحاكمة المفسدين، ألا إنهم هم المفسدون وبذلك يشعرون ويوقنون .
ومن أجمل ما حرص عليه النص الدستورى الخاص بحماية العقيدة والحرية الدينية، أنه تكفل بحماية العقيدة بصورة عامة دون الدخول فى تفصيلات ومسائل الحرية الدينية الدقيقة والشائكة مثل حرية الدخول فى الدين وحرية الخروج منه، لم يتعرض النص لهذه المسألة ولا لغيرها، ولم يتضمن إلا كفالة الدولة لحرية العقيدة بصفة عامة، وذلك بعبارة " تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية "،وذلك لأنه ليست من مهمة الإعلان الدستورى أو حتى الدستور نفسه الفصل فى مدى جواز الخروج من الدين من عدمه، وإنما هى مهمة الدين نفسه أو مهمة كل دين على حده، ولا يجب أن ينفرد بها نص بعيدا عن الدين مهما كانت مكانة هذا النص .
إذ من السائغ عقلا أن يقدم كل نظام الأحكام الخاصة به، ولا يترك النظام الحكم فى مسألة من مسائله لنظام آخر يتحكم ويحكم فيه، ولم نر ذلك فى المسائل القانونية إلا فيما يتعلق بقواعد الإسناد التى تدرس فى نطاق القانون الدولى الخاص، إرشاد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المسألة المشتملة على عنصر أجنبي . لكن ترك الحكم فى المسألة لا يرجع فيما يخص قواعد الإسناد إلى عجز النظام الذى يحوى هذه القواعد عن الحكم فى هذه المسائل، وإنما يرجع إلى أن هذه المسائل تتعلق بعدد من الأنظمه، ويمكن إدخالها فى أكثر من نظام كالنظام الوطنى أو النظام الأجنبى، أما أن يكون للنظام وحده حق الاختصاص بالفصل فى المسألة ثم يتركها إلى غيره، فذلك عجز منه، ولا يقبل ذلك عقلا منه، وبالتالى فهو أصلا لا يستحق أن يكون نظاما.
ومن أولى المسائل التى يجب أن يختص الدين بالفصل فيها هى مسألة الخروج منه، ومدى جوازها أو حرمتها، ومحال أن يكون الدين صحيحا وهو غير قادر على الفصل فى هذه المسألة، قياسا على الأنظمة القانونية الوضعية، القديمة منها والحديثة على السواء، فإن كل نظام قانونى دائما يضع فى صدر أحكامه، حكم الخروج عليه، وبيان العقوبات الرادعة التى ينالها الخارجون والمتمردون، والنظام الذى لا يتضمن مثل هذا الحكم ولا يعالج قضية التمرد عليه والخروج منه، نظام يساعد على هدم نفسه قبل أن يبنى ما حوله، وسيكون قياس الدين على هذه الأنظمة الوضعية فى معالجة الخروج عليها قياسا من باب أولى، وهو ما يعرف عند الأصوليين بالقياس الأولى أو القياس الجلى.
وبذلك يتبين لنا أن مهمة الفصل فى حكم الخروج من الدين يجب أن توكل إلى الأديان نفسها، ولا يمكن أن تكون من مهمة الدساتير أو حتى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان لأنها ليست دينا، وهى لا تتحدث عن حكم الخروج عليها هى، بل تتحدث عن حكم الخروج على الدين أو الخروج منه.
وإذا كان لها من مهمة حقيقية فهى رعاية وكفالة حرية الدخول فى الدين وممارسته وتطبيقه والدعوة إليه وكل ما يتصل بذلك من غير قضية الخروج من الدين، لأن الفصل فى قضية الخروج من الدين سيكون تدخلا فى ما لا يعنيها، أو فى أمر خارج عنها.