ولا تنازعوا فتفشلوا
حسام مقلد *
من أبسط مقتضيات الديمقراطية احترامنا للرأي الآخر واحتوائه فيما بيننا حتى لو اختلفنا معه، وليس مطلوبا من أي صاحب رأي أن يتنازل عن آرائه وقناعاته للتسليم بآراء الآخرين، ولكن بالمثل ليس مقبولا منه أن يفرض آراءه عليهم بالإجبار والقوة سواء المادية أو المعنوية، فبدهي أن ذلك ليس من الديمقراطية في شيء بل هو عين الديكتاتورية والتسلط والاستبداد والقمع!! وحقيقة لا يعقل أبدا أن يحاول كل صاحب رأي أن يفرض رأيه على الآخرين في جماعة ما أو حزب معين وإلا ينشق عنهم ويخرج عليهم!! فلو سلمنا بذلك فستصبح الجماعة الواحدة جماعات والحزب أحزاب، ولن يستقيم الأمر بتاتا لأي أحد، ولن تنجز نهضة أو تبنى أمة، ولن يحقق أي تقدم يذكر في أي مجال من مجالات الحياة؛ إذ ستتآكل قوانا وتتبدد طاقاتنا وتتبعثر جهودنا وينفرط عقدنا وسنظل نسعى في لا شيء!! وطبعا لا يستقيم ولا يعقل أبدا في العلاقات الأسرية والاجتماعية أن كل ابن يرفض والداه تنفيذ بعض رغباته أن ينشق عنهم ويترك لهم الأسرة ويستقل بنفسه عن أهله وذويه ويقاطعهم ويناصبهم العداء، وبالمثل لا يستقيم ولا يعقل أبدا في الحياة العسكرية أن ينشق كل ضابط عن كتيبته إذا رفضت بعض أفكاره، وكذلك هي الحياة السياسية فلا يستقيم أبدا، وليس من المنطق في شيء أنه كلما رفضت الغالبية أفكار أي قيادي بارز في حزب أو جماعة أن يستقل مباشرة عن حزبه أو جماعته ليؤسس له حزبا خاصا به، فهذا لا يعني سوى التشرذم والتمزق وضياع القوة والهيبة، وبالتالي فقدان ثقة الجماهير.
ومن المحزن أن نرى حالة التشظي والانقسام هذه في صفوف المصريين اليوم، خاصة الإسلاميين، فهؤلاء أخوان، وأولئك سلفيون وهؤلاء منشقون عن الأخوان من أتباع الأخ (س) وأولئك من أنصار الأخ (ص)، أما هؤلاء فمن سلفيي القاهرة، بينما أولئك من مدرسة السلفية السكندرية، أما هؤلاء فهم من أتباع الشيخ فلان، بيد أن أولئك من أنصار الشيخ علان!!
أيها الأحباب لماذا لا نتحد ونكون جميعا على قلب رجل واحد؟! لماذا نضيع الغايات الكبيرة الواضحة أمامنا جميعا جريا وراء أوهام المجد الشخصي، أو بحثا عن بعض المنافع البسيطة الجزئية التي تتراءى لنا هنا وهناك؟ ألا نتعلم من التجارب السابقة؟! ألا يحسن بنا أن نفيق قبل فوات الآوان؟! لماذا نحب الجري وراء السراب؟! لماذا نعشق التشتت والتمزق وإهدار الجهود والطاقات؟! لِمَ نغبن أمتنا، ونظلم قومنا، ونفجع أهلنا بنا، وقد وثقوا فينا وعلقوا علينا آمالا عريضة وها هم ينتظرون منا أن نحقق لهم العزة والحرية والكرامة والتقدم والرفاهية والازدهار؟! فلِمَ نخذلهم ونكسر قلوبهم؟! لماذا نتفنن في حقن شعوبنا العظيمة بجرعات قاتلة من اليأس والإحباط؟! لِمَ نغتال الأمل في نفوس الناس ونزرع بدلا منه الأسى والحسرة؟! لِمَ نقتل البسمة على شفاههم ونحيلها صرخة رهيبة تمزق أضلعهم؟! وبأي حق نصادر حق الأجيال الجديدة في حياة حرة كريمة؟!
فرق كبير بين حرية الرأي وحرية الاختلاف في الرأي وبين رغبة كل واحد في السيطرة على الآخرين وفرض رأيه عليهم، أو ينشق عنهم ويحاربهم ويتصدى لهم إن هم لم ينصاعوا له وينفذوا رغباته ويقتنعوا بآرائه ويستجيبوا له ويطيعوه في كل ما يريد!! ولا أدري أين ذلك من شعارات الحرية التي نرفعها جميعا هذه الأيام؟! وبكل صدق وإخلاص أقول إن المطلوب الآن من جميع القوى في مصر وعلى رأسها الإسلاميون بكل أطيافهم وتنويعاتهم أن يعلوا مصلحة مصر وشعبها فوق الجميع، وأن يفرقوا بين شئون السياسة وما فيها من مخاتلة ومناورة ومداورة وبين مصلحة مصر العليا، وعلى أهل الإعلام وأصحاب الكلمة أن يتقوا الله في مصر ويكفوا عن إثارة الفرقة والنزاع والإحن والأحقاد والضغائن والانشقاقات بين المصريين أيا كانت توجهاتهم السياسية أو مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية!! وفي هذه المرحلة التاريخية الحاسمة بالغة الدقة والحساسية ينبغي ألا ينشق عن الصف كل من له رؤية مختلفة عن غيره من زملائه داخل أي حزب أو جماعة، وينبغي كذلك ألا نقصي أي أحد من المصريين أو نهمش دوره لاختلافه معنا في الرأي، مهما كانت رؤيته السياسية ومرجعياته الفكرية أو الدينية، وينبغي أن يسود بين الجميع حسن الظن والتسامح وسلامة القصد والنية.
علينا جميعا مهما كانت قناعاتنا ومهما اختلفت أحزابنا، ومهما تباعدت رؤانا أن نتحد ونتعاون معا من أجل مصر وإعادة بنائها، وينبغي أن نبدأ مسيرة الإصلاح والنهضة على أسس متينة ودعائم راسخة قوية دون فرقة أو تنازع، وعلى جميع القوى السياسية في مصر وبخاصة الإسلاميين أن يضربوا لنا القدوة الصالحة والمثل الأعلى في التضحية والإيثار، وتقديم مصلحة مصر وأمتها العربية والإسلامية؛ لأنها مصلحة باقية دائمة بإذن الله على كل المصالح الشخصية الزائلة والمؤقتة، وليتنا نشكل ائتلافاً واسعا من كل الأطياف وكافة التوجهات لرسم خارطة طريق واضحة المعالم تحدد كيف تنهض مصر؟ وكيف نبني ديمقراطيتنا الحديثة ودولتنا المدنية ذات المرجعية الإسلامية(فكرا وحضارة وثقافة) على أسس راسخة ودعائم قوية من المشاركة الإيجابية وقبول الرأي والرأي الآخر دون فرقة ونزاع؟ قال تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال:46] وقال عز وجل: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا" [النحل:92] "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].
* كاتب إسلامي مصري