الحركة الإسلامية بين الاصطفاف الاضطراري والاصطفاف الاختياري
الحركة الإسلامية
بين الاصطفاف الاضطراري والاصطفاف الاختياري
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
إذا كان لا بد للحركة الإسلامية في تعاملها مع الأحداث المتسارعة من حولها وتغيّر المعطيات في ساحة الحراك السياسي والاجتماعي ، أن تفقه اللحظة جيدا ــ كما قلنا في مقال سابق ــ وتختار من المواقف والخيارات والاجتهادات ما يناسب ذلك ويتوافق معه ، وأن تخلفها عن هذه اللحظة بما تحمله من زخم ، وتباطأها وترددها في بلورة رؤية واضحة وتصور سليم يمكّنها من تحديد الفعل المناسب في حينه ، يؤدي حتما إلى تراجع وعائها الجماهيري وتقلّص امتدادها الشعبي الذي هو رأس مالها وسر بقائها ــ بعد حفظ الله ــ ونقطة قوتها في تدافعها السياسي والفكري مع خصومها ومنافسيها .
إن هناك تحولات كبرى حدثت وتحدث وستحدث على مستوى المنطقة بأسرها لا يمكن أن تخطأها عين أو ينكرها عقل ، أهم ما يميّزها ارتفاع صوت الشعوب على حساب الأنظمة ، تمثل ذلك في طلاقها البائن لكل أساليب الخنوع والاستسلام واللامبالاة ، ودخول مصطلح جديد لقاموسها عنوانه :(الشعب يريد) ، ومن ثم رفع سقف تطلعاتهاومطالبها السياسية والاجتماعية ، ورفضها المطلق لكل صور الإصلاح الصوري والجزئي والمؤقت ، بل أصبحت لا ترضى عن الإصلاح الجذري بديلا .
وكل نظام استطاع أن يدرك هذه الحقيقة ويعي هذا التحول ، وتناغم معه بحق واستجاب له بصدق ، وبإجراءات عملية عميقة ، تلبي هذه التطلعات وتجسد هذه الرغبات ، في مشاريع وبرامج وخطوات شجاعة ، لتجاوز الترهل السياسي والغبن الاجتماعي ، الذي كان سائدا ، والانتقال الحقيقي إلى أجواء سياسية صحية ، أكثر حرية وأكثر تعبيرا عن الإرادة الشعبية وأكثر نزاهة انتخابية وأكثر حيادا للإدارة وأكثر حضورا وفعالية للمؤسسات المنتخبة وأداء دورها الرقابي كاملا غير منقوص وبعيدا عن ديمقراطية الواجهة والديكور وأكثر فصلا بين السلطات.
وكذلك الانتقال إلى أجواء اجتماعية سليمة ، أكثر صرامة في محاربة الفساد والضرب على أيدي ناهبي المال العام والعابثين بمقدّرات الشعوب والأوطان وأكثر إنجازا لمشاريع تنموية دائمة وأكثر عدلا في توزيع الثروة وأكثر عزما وتصميما في القضاء على كل مظاهر البؤس الاجتماعي ، على مستوى الفقر والتشغيل والسكن والصحة والتعليم وهكذا.
كل نظام استطاع ويستطيع تحقيق كل ذلك بنسب مرتفعة أو مقبولة على الأقل ، وتجاوز من غير رجعة الحلول الترقيعية والمؤقتة على المستويين السياسي والاجتماعي ، إلى حلول أكثر جذرية وعمقا وديمومة وملامسة لحاجيات شعبه وتطلعاته ، تجعله يستشعرــ أي الشعب ــ الثمار الإيجابية لهذه الإجراءات والخطوات فعلا وممارسة لا قولا وإدعاء.
فإذا ما فعل أي نظام كل ذلك ، فإنه قد استطاع فعلا أن ينجح في تجاوز المرحلة وتعدّيها بأقل الخسائر والتكاليف بل بأرباح حقيقية لا ظنية ، وأن يضمن عبورا آمنا له ولشعبه إلى مرحلة جديدة أكثرا إشراقا وأكثر إيجابية وأكثر مردودا وأثرا طيبا على الأوطان والشعوب ، والنجاة بذلك من ظاهرة تسونامي الشعوب التي أصبحت تميز خارطة المنطقة وواقعها هذه الأيام.
ومن ثم تعميق عناصر التناغم والانسجام ، وتقوية أواصر الثقة بين الشعب ونظامه ، خاصة عندما يتأكد الشعب أنه هو الصانع لهذا النظام فعلا وممارسة ، بكل حرية ونزاهة وشفافية وديمقراطية ، وليس مفروضا عليه بالقهر والاستبداد والتزوير .
فإن فشلت هذه الأنظمة في القراءة الصحيحة لرسالة شعوبها ، ووضعت رأسها في الرمال ، واستمرت بنفس طريقة التعامل والمعالجة ، وبقيت فاتحة أذنيها لوسوسة العرابين والانتهازيين والوصوليين ، عوض أن تفتحها مباشرة لأصوات شعوبها ، وأن تبقى تتجاوب فقط عمليا مع هذه الفئات المخملية المستفيدة وغير المفيدة ، والتي تقتات من الوضع القائم لا غير ، بدل أن تتجاوب مع تطلعات شعوبها وهمومها واهتماماتها ، فإن الطلاق بين هذه الأنظمة وشعوبها حادث لا محالة ، يبدأ رجعيا ثم يتطور شيئا فشيئا ليصبح بائنا في النهاية.
فإذا ما حدث هذا التباين ، فأين ينبغي أن يكون مكان الحركة الإسلامية ؟
وكيف يكون محلّها من الإعراب يا ترى ؟
ــ هل تكون فاعلا مرفوعا ، أم مفعولا به منصوبا ، أم اسما مجرورا ؟
أم تبقى نائبا للفاعل أم مفعولا معه أم مفعولا فيه أم مفعولا لأجله أم ظرف زمان أم ظرف مكان ؟
ــ وهل تصبح فعلا ماضيا أم تكون فعلا مضارعا أم فعلا أمرا ؟
ــ وهل تستمر فعلا لازما أم تصير فعلا متعديا ؟
ــ وهل تواصل وضعية الفعل المجرد أم تنتقل إلى درجة الفعل المزيد ؟
ــ وهل تكون اسما ممنوعا من الصرف ، ويبقى سقفها في مرتبة المضاف ، أم تحدث نقلة نوعية نحو المضاف إليه؟
ــ وهل تفقه اللحظة بحق ، ومن ثم تصبح أداة نصب ونفي وجزم وجر ، وتتخلص من وضعها كأداة إثبات أو منزلة الذي لا محل له من الإعراب ؟
المفروض أن لا تقع الحركة الإسلامية في هذه الموازنة أصلا ، لأن محلّها الطبيعي هو التخندق مع الشعوب ، لأنها ولدت من رحمها .
بالمناسبة فإن المفارقة إن حدثت ، فإنها ستحدث بين الأنظمة والشعوب ، وليس بين الدول والشعوب ، لأن التخندق مع الشعب هو في الحقيقة تخندقا مع الدولة ، فلا يمكن أن يقع تضاد أو تصادم بين مصلحة الدولة ومصلحة الشعب ، لأنهما شيء واحد .
ولهذا السبب فإن الحفاظ على الدولة في أمنها واستقرارها وسيادتها وقوتها ووحدتها وازدهارها ، ينبغي أن يكون ديدن الجميع ــ وفي مقدمتهم الحركة الإسلامية ــ ، لكن لا يجب الخلط بين الدولة والسلطة بأي حال من الأحوال ، فيصبح السعي والحرص للحفاظ على الدولة واستقرارها ، هو في حقيقته حرص للحفاظ على السلطة واستمرارها.
فلا يمكن مطلقا أن تتنافى مصالح الدول مع مصالح شعوبها ، لكن ممكن جدا أن تتنافى مصالح الأنظمة مع مصالح الشعوب وتتعارض ، كما وقع في تونس ومصر وغيرها.
فإذا ما حدث هذا التباين والتنافي ــ كما قلنا ــ فإن الحركة الإسلامية خيارها الطبيعي أن تصطف مع تطلعات ومصالح الشعوب ، وبما يضمن الحفاظ على الدول ، على أن يكون هذا الاصطفاف اختياريا في زمنه ولحظته وفعله ، لأن ذلك هو ما ينسجم مع طبيعتها ورسالتها ومشروعها وأهدافها من ناحية ، ويحافظ على رصيدها ويقوّيه ويدعمه من ناحية أخرى.
أما إن كان اصطفافها اضطراريا أو تنتظر الركلات الترجيحية كما قال الشيخ أبو جرة ، فإن ذلك دليل على أنها كانت فعلا بعيدة عن الشعب وهمومه من ناحية ، وأن خيارها انتهازي تنتظر لمن ستكون الغلبة فتصطف معه ، بدل أن يكون مبدئيا من ناحية أخرى ، وستخسر عند ذلك الكثير من مصداقيتها وجماهيريتها ، وكذلك ستفقد الكثير من بريقها وقبولها واحترامها والاطمئنان لها ولمشروعها ولرجالها لدى فئات واسعة وعريضة من شعوبها ، وتكون بذلك قد حكمت على نفسها بالإعدام السياسي والاندحار الاجتماعي والاندثار السنني والانحدار القيمي وحتى الانكسار التنظيمي ــ لا قدّر الله ــ
فالمفروض أن الحركة الإسلامية لا تقع لديها الموازنة أصلا بين الخيارين ، فإن اضطرت إلى ذلك ، فإن خيارها الذي يتناغم مع طبيعتها ــ كما قلنا ــ هو الاصطفاف مع الشعب من دون تلكؤ أو تقاعس أو تثاقل ، على أن يكون هذا الاصطفاف اختياريا وعلى طيب خاطر وعلى سبق إصرار وترصد ، لا اضطراريا ومكرها أخاك لا بطل ، حتى يؤتي أكله ويحقق هدفه ويحفظ للحركة مكانتها ويرفع لها رصيدها ويثبت عمليا أهلية تمثيلها.