(أم ربيعة الرأي) مصنع الرجولة
(أم ربيعة الرأي) مصنع الرجولة؟؟؟
د. صلاح الدين بن عباس شكر
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوان الأفاضل : هذه الحلقة الخامسة من إضاءات في عالم المرأة المسلمة سبقها أربع محاضرات : كانت الأولى منها (عمل المرأة الحقيقي في الإسلام ) والثانية ( خدمة المرأة لزوجها ) والثالثة والرابعة (نماذج من الإضاءات في عالم المرأة المسلمة في قسميها الأول والثاني ) وفي هذا اليوم نحن مع (القسم الثالث من هذه الإضاءات ) . أبدأ بقصة ا التابعي : فروخ أبو عبد الرحمن القرشي التيمي : ففي السنة الواحدة والخمسين للهجرة ، وكتائب المسلمين تضرب فجاجَ الأرض مشرِّقةً مغرِّبةً، إلى أن عم الهدى بقاع الأرض ، لقد كان المسلمون رعاةً للبقر ، فأصبحوا قادةَ الأمم ، وحينما انكمشوا وآثروا الراحة والسكون غُزُوا في عقر دارهم.
ويمضي الصحابي الجليل الربيع بن زياد الحارثي أمير خراسان ، وفاتح جسستان ، القائد المظفر، على رأسِ جيشه الغازي في سبيل الله ، ومعه غلامه الشجاع فروخ . هذا الصحابي الجليل عزم بعد أن أكرمه الله بفتح جسستان وغيرها من الأصقاع أن يختم حياته الحافلة بعبور نهر سيحون ، ورفع رايات التوحيد فوق ذرى تلك الأصقاع ، والتي كانت تسمى وقتها بلاد ما وراء النهر . وكانت الفتوحات الإسلامية في عهد عملاق الإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وصلت إلى أذربيجان . فأراد هذا الصحابي الجليل أن يفتح بلاد ما وراء النهر ، فأعد للمعركة عدتها ، وفرض على عدوه زمانها ومكانها ، ودائما الأمم الضعيفة والمخذولة تُفرَض عليها المعاركُ فرضاً في أمكنتُها وفي أزمنتها وفي أسلحتها، ولما نشَبَ القتالُ أبلى هذا القائد الربيع وجنده بلاءً ما يزال يذكره التاريخ بلسان نديٍّ بالحمد ، وأظهر غلامه فروخ في ساحات الوغى من ضُروب البسالة ، وصنوف الإقدام ما زاد الربيع إعجابًا به ، وإكباراً له ، وا نجلت المعركة عن نصر مؤزَّرٍ للمسلمين ، فزلزلوا أقدامَ عدوهم ، ومزقوا صفوفه ، وفرقوا جموعه لأن الله مع المؤمنين . ثم عبَروا النهر الذي كان يحول دونهم ودون الانسياح في بلاد الترك ويمنعهم من الاندفاع نحو أرض الصين ، والإيغال في مملكة الصغد ، فلمااجتازوا النهر وصلوا إلى معاقل الأتراك في أصل موطنهم ، وإلى بلاد الصين ، وامتدَّت الفتوحات إلى أقصى المشرق ، وما إِنْ عبَر القائدُ العظيمُ النهرَ ، واستقرَّتْ قدماه على ضفته الثانية حتى بادر وتوضأ هو وجنوده من مائه ، فأحسنوا الوضوء ، واستقبلوا القبلة ، وصلوا ركعتين شكراً لله واهب النصر . ثم كافأ هذا القائد غلامه فروخا على حسن بلائه فأعتق رقبته ، وأصبح حراً ، وأعطاه نصيبَه من الغنائم الكثيرة الوفيرة ، ثم زاده من ماله الخاص شيئاً كثيراً ، ولم تَطُلْ حياةُ هذا الصحابي الجليل كثيرا فقد وافاه الأجلُ المحتومُ بعد سنتين اثنتين من تحقيق حلمه الكبير ، فمضى إلى ربه راضيا مرضيا . أما الفتى الباسل الشجاع فروخ فقد عاد إلى المدينة المنورة ، يحمل معه سهمه الكبير من غنائم الحرب ، ويحمل فوق ذلك حريَّته الغالية ، لقد أصبح حراً ، ويحمل ذكرياته الغنية بروائع البطولات المكللة بغبار المعارك ، ممتلئا فتوة وفروسية وحيوية ، وقد عزم فروخ أن يتخذ لنفسه منزلاً يستقر فيه ، وزوجةً يسكن إليها ، فاشترى داراً في أوسط دور المدينة ، واختار امرأة راجحة العقل .
أيها الإخوان : أول حق وأقدس حق لأولادك عليك أن تحسن اختيار أمهم، فالمرأة العاقلة لا تقدَّر بثمن ، إنك إن اخترتَ امرأة عاقلةً ضمنتَ أسرة ناجحة ، وضمنتَ أولادا مهذبين ، يكونون أعلامَ المجتمع ، فاختار فرُّوخ امرأة راجحة بالعقل ، كاملة الفضل ، صحيحة الدين ، تقاربه في السن ، واقترن بها . ولقد نعم بهذه الزوجة ، ورأى في صحبة امرأته هناءة العيش ، وطيبة العشرة، ونضارة الحياة ، وفوق ما كان يرجو ويأمل ، ولكن الإنسان الذي يعرف لماذا خلق في الحياة ، والذي يعرف قيمة الوقت ، لا يركن للنعيم في الدنيا ، التافهون وحدهم الذين يركنون إلى الدنيا ، بيت واسع ، مفروش بأحدث الأثاث ، دخل كبير ، شاب في رَيعان الشباب ، زوجة شابة ، مركبة فخمة ، مكان آخر بالمصيف ، ماذا فعلت؟ أقول لك : ما فعلت شيئاً ، هذا وقت ثمين ، هذا الوقت يجب أن ينفق إنفاقًا استثماريًّا ، لا إنفاقًا استهلاكيًّا ، أكلنا ، وشربنا ، ونمنا ، وعملنا ، واستمتعنا ، وتنزهنا ، هذا استهلاك لرأس مالك الثمين . أما إذا جلست في البيت وعملت الأعمال الصالحة ، وتأتي عند الله عز وجل لعله يرحمك بهذه الأعمال . فالإنسان لا يستمرئ النعيم في الدنيا إلاّ إذا كان ضيق الأفق ، ضعيف العقل ، فحينئذ يستمرئ نعيم الدنيا لأنه مؤقت ، انظروا في قول النبي عليه الصلاة والسلام : ((يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلـوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها ، واحذروا لذيذ فطامها ، واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها ، ولا تسعَوْا في عمران دار قد قضى الله خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين )) . ( كنز العمال والديلمي عن ابن عمر ) . فهذا فروخ أبو عبد الرحمن رغم أن البيت في المدينة ، والزوجة كاملة العقل ، وصالحة الدين ، وحياة مريحة ، ومعه ثروة طائلة ، على الرغم من كل هذه الشروط الرائعة التي توافرت له ، بعد أن أعتقه سيده ، وبعد أن أبلى بلاءً حسناً في الجهاد ، وتلك الزوجة الصالحة ، على كل ما حباها الله من كل كريم الشمائل ، وجليل الخصائل لم تستطِع أن تغلب فروخاً على حنينه إلى خوض المعارك ، وإنّ خوض المعارك فيه رقيّ ، وميل الإنسان إلى الراحة ، والقعود للتمتع ، والأخذ من طيبات الحياة الدنيا ، فإنه بهذا يستهلك رأس ماله ، ألا وهو عمره الثمين ، وهذا سيجعله يوم القيامة فقيراً ، ضعيفاً ، لهذا قيل : الغنى غنى العمل الصالح ، والفقر فقر العمل الصالح . فاشتاق فروخ : إلى سماعِ وقعِ النصالِ على النصالِ ، وولعَ لاستئناف الجهاد في سبيل الله ، فكان كلما ترددتْ في المدينة أخبارُ انتصارات الجيوش الإسلامية الغازية في سبيل الله ، تأجَّجت أشواقُه إلى الجهاد ، واشتدّ حنينُه إلى الاستشهاد ، وذات يوم من أيام الجمع سمع فروخ خطيبَ المسجد النبوي الشريف يزفّ للمسلمين بشرى انتصارات الجيوش الإسلامية في أكثر من ميدانٍ من ميادين الحرب ، ويحضّ الناسَ على الجهاد في سبيل الله ، ويرغِّبهم في الاستشهاد إعزازاً لدينه ، وابتغاءً لمرضاته ، فعاد إلى بيته ، وقد عقَد العزمَ على الانضواء تحت راية من رايات المسلمين المنتشرة تحت كل نجم ، وأعلن عزمه لزوجته فقالت : يا أبا عبد الرحمن لمَن تتركني ؟ وتترك هذا الجنين الذي أحمله بين جوانحي ، فأنت هنا رجل غريب ، ولا أهل لك فيها ولا عشيرة ، فقال : أتركك لله ، أمّا علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام دعاءالسفر ؟ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ يَقُولُ : (( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا ، اللَّهُمَّ إني أعوذبك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، ومن الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْر وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَمِنْ سُوءِ المنظر في الأهل والمال )) رواه الترمذي . ثم إني خلفت لك ثلاثين ألف دينار ، ثروة كبيرة ، جمعتها من غنائم الحرب فصونيها وثمّريها ، وأنفقي منها على نفسك وولدك بالمعروف حتى أعود إليك سالماً غانماً ، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمنّاها ، ثم ودّعها ومضى إلى غايته ، وضعت السيدة الرزان حملّها بعد رحيل زوجها ببضعة أشهر ، فإذا هو غلام مشرق الوجه ، حلو القسمات ، ففرحت به فرحاً عظيماً ، كاد ينسيها فراق أبيه ، وأطلقت عليه اسم ربيعة ، بدت على هذا الغلام الصغير علامات النجابة منذ نعومة أظفاره ، وظهرت أمارات الذكاء في أفعاله وأقواله ، فأسلمته إلى المعلِّمين ، وأوصتهم بأن يحسنوا تعليمه ، واستدعت له المؤدبين وحضَّتهم على أن يحسنوا تأديبه . وأنا لا أرى أعقل من أبٍ وأم يعطيان كل جهدهما لتربية أولادهم ، إنهم كسبهم الحقيقي ، إنهم استمرارهم من بعد موتهم ، إنهم الصدقة الجارية التي لا تنقطع بعد الموت ، فما لبث هذا الغلامُ حتى أتقن الكتابة والقراءة ، ثم حفظ كتاب الله عز وجل ، وجعل يرتِّله ندياً طرياً كما أنزل على فؤاد محمد صلوات الله عليه ، ووَعَى ما تيسّر من أحاديث رسول الله ، واستظهر كلام العرب ، وعرف من أمور الدين ما ينبغي أن يعرف ، وقد أغدقت أمُّ ربيعة على معلمي ولدها ومؤدبيه المال والجوائز إغداقاً ، فكانت كلما رأته يزداد علماً تزيده براً وإكراماً . وإنه لمن الحكمة البالغة والعقل الراجح أن تكون علاقة ولي أمر المتعلم طيبة جداً بمعلمِي أولاده ، لأن فلذة كبده بين أيديهم ، إن أحسنوا تعليمه فاز فوزاً عظيماً ، وهناك آباء يقسون في تعاملهم مع معلمي أولادهم أو يكيلون لهم كلاماً قاسياً في غيبتهم على مسمع من أولادهم ، وهذا ليس من الحكمة في شيء .
إن المعلم والطبيب كلاهما : لا ينصحان إذا هما لم يكرما
المعلم بين يديه أثمن شيء عندك ، وأنت أحياناً تقدِّم جهازًا للتصليح ، تخاف عليه أنْ يصيبه شيء ، فأيهما أغلى جهاز في بيتك أمْ ابنك ، فيجب أن تختار له أفضل مدرسة ، وأفضل معلم ، والنفقات الباهظة التي تنفقها من أجل تعليم ابنك ، ليست استهلاكاً ، إنما هي استثمار . وشعور الأب حينما يرى ابنه في أعلى مرتبة أخلاقية ، و علمية ، و دينية ، شعور لا يوصف ، بل يمتلىء قلبه سعادة ، وقد قال الله عز وجل : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) . ( سورة الفرقان : 74 ) . يعني من سعادتك الكبرى العظيمة أن يكون ابنك صالحاً . وكانت أم ربيعة : تترقب عودة أبيه ، وتجتهد في أن تجعله قرّة عين لها وله ، لكن فروخاً طالت غيبته ، ثم تضاربت الأقوال فيه ، قال بعضهم : إنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء ، وقال آخرون : إنه مازال طليقاً يواصل الجهاد ، وقال فريق ثالث عائد من ساحة القتال : إنه نال الشهادة التي تمناها ، فترجح هذا القول الأخير عند أم ربيعة لانقطاع أخبار زوجها ، فحزنت عليه حزناً أمضى فؤادها ، ثم احتسبته عند الله تعالى . أيفع ربيعة ، ودخل مداخل الشباب ، واستكمل ما ينبغي لفتًى مثله أن يستكمله من القراءة والكتابة ، وزاد على أقرانه فحفظ القرآن وروى الحديث ، واختار لنفسه العلم . واختارأن يكون عالماً ، وعزم على أن يعيش متعلماً ومعلماً ما امتدت به الحياة ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، لذلك أقبل ربيعة على حلقات العلم التي كان يزخر بها مسجد المدينة ، كما يقبل الظمآن على الموارد العذاب ، ولزم البقية الباقية من الصحابة الكرام ، وعلى رأسهم أنس بن مالك خادم رسول الله ، هذا كان أكبر أستاذ له ، وأخذ عن سعيد بن المسيب ، ومكحول الشامي ، وسلمة بن دينار ، وواصلَ الليلَ بالنهار ، إقبالاً على العلم ، وطلباً له ، واحتواءً له ، وإذا كلمه أحد ودعاه إلى الرفق بنفسه كان يقول : سمعنا أشياخنا يقولون : العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً ، ولذة العلم لاتحصل إلا بالتعمق فيه ، فعدم التعمق بالعلم عبء ومللٌ ، لذلك ضعفُ طلابنا في هذه الأيام قد يكون في مادة يكرهونها كراهية شديدة ، أما إذا أتقنوها أصبحتْ متابعتها متعةً لهم .
ثم ما لبث ربيعة مجدا في طلب العلم حتى ارتفع ذكره ، وبزغ نجمه ، وكثر إخوانه ، وأولِع به تلاميذه ، وسوّده قومه ، وإذا حضر الرجلُ مجالس العلم ، وطلبه بصدق وبإخلاص فهذا الإنسان من حقه على الله ، ومن كرامته على الله أن ييَسِّر له سبيل نشر العلم ، ويرزقه القدرة على ذلك . سارت حياة هذا العالم الصغير في دروب العلم فكان شطرٌ من يومه في داره لأهله وإخوانه ، وشطر آخر لمسجد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، للعلم وحلقاته . و في أحد الأيام ، وفي عشية من عشيات الصيف ، وصل إلى المدينة المنورة فارس في أواخر العقد السادس من عمره ، ومضى في أزقتها راكباً جواده ، قاصداً داره ، وهو لا يدري إن كانتْ دارُه ما تزال قائمة على عهده بها ، أم أنّ الأيام قد فعلت بها فعلها ، فمضى على غيابه عنها ثلاثين عاماً . وفي طريقه إلى المدينة كانت تتوارد على ذهنه أسئلة كثيرة : ماحال زوجته الشابة هل وضعت حملها ، وهل كان ذكراً أو أنثى ، وإذا كان ذكراً فما حاله اليوم . ولما وصل إلى داره عرفها ورأى الباب مفتوحًا فدخل ، وأحس ولده ربيعة بدخول شخص غريب يدخل إلى بيته دون استئذان. وحدثَتْ مشادة بينه وبين ابنه دون أن يعرفا بعضهماواستيقظت الزوجةُ على الضجيج فعرفت زوجها . ونادت ابنها ربيعة فقالت : يا بني إنه أبوك ، وحينما سمع ربيعةُ أنّ هذا أبوه طفق يعانقه ويقبِّل يديه ، وعُنُقَه ، ورأسَه ، ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ً أنه حيٌّ على وجه الأرض ، بعد أن انقطعت أخباره مدةً طويلة ، جلس فروخ إلى زوجته وطفِق يحدِّثها عن أحواله ، ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره ، ولكنها كانت في شغلٍ شاغل عن كثير مما يقول ، لقد نغص فرحتها بعودته ، واجتماع شملها به خوفُها من غضبه على إضاعة المال الكثير الذي أودعه عندها ، فقد ترك لها ثروة طائلة تعادل في أيامنا الملايين ، كانت تقول في نفسها : ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير ، وقد أنفقته كله على ابنه ربيعة ، حتى صار عالما يشار إليه بالبنان ، ماذا سيكون لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء ، أيقنعه قولي : إنني أنفقته على تربية ابنه وتعليمه ، وهل تبلغ نفقة ابنه هذا المبلغ الضخم ، أيصدِّق ذلك ! في داخلها صراع مع نفسها ، فرحت بلقاء زوجها ، لكنها خافت من موضوع المبلغ الكبير ، وفيما كانت أم ربيعة غارقة في هواجسها التفتَ إليها زوجُها ، وقال : لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي أودعته عندك وضمِّيه إليه ، ونشتري بالمال كله بستاناً ، أو عقاراً ، نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة ، فتشاغلتْ عنه ولم تجبه بشيء ، أعاد عليها الطلب ، وقال : أين المال حتى أضمّ إليه ما معي ؟ قالت : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع في المكان الصحيح ،
وسأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله ، وقطع صوت المؤذن عليهما الحديث ، فهبَّ فروخ إلى إبريقه فتوضأ، ومضى نحو الباب يقول : أين ربيعة ؟ فقالت : سبقك إلى المسجد ، منذ النداء الأول، ولا أحسبك أن تدرك الجماعة ، وصل فروخ المسجد ووجد أن الإمام قد فرغ من الصلاة ، فأدّى المكتوبة ، ثم مضى نحو الضريح الشريف فسلم على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم انثنى نحو الروضة المطهرة ، فقد كانت في فؤاده أشواق إليها، ولما همّ بمغادرة المسجد وجد باحته قد غصّت على رحبها بمجلس من مجالس العلم ، لم يشهد له نظيراً من قبل ، ورأى الناس قد تحلَّقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة ، حتى لم يتركوا للساحة موطئًا لقدم ، وأجال بصره في الناس ، فإذا فيهم شيوخ معمّرون ومعمّمون ، وذو أسنان ، ورجال متوقرون ، تدلّ هيأتهم على أنهم ذو أقدار ، وشبان كثيرون قد جثّوا على ركبهم ، وأخذوا أقلامهم بأيديهم ، وجعلوا يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تلتقط الدرر ، ويحفظونه في دفاترهم ، كما تحفظ الجواهر النفيسة ، وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ منصتين إلى كل ما يلفظ من قول ، حتى كأنَّ على رؤوسهم الطير ، وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة ، فلا يفوت أحد منها شيء مهماكان ، وحاول فروخ أن يتبيّن من هو الشيخ ، ولا يعرف أنه ابنه ، فلم يفلح في ذلك لبُعْدِه عنه ، لقد راعه منه بيانه المشرق ، وعلمه المتدفق ، وحافظته العجيبة ، وأدهشه خضوع الناس بين يديه ، وما هو إلا قليل، حتى ختم الشيخ المجلس ، ونهض واقفاً ، فهبَّ الناس متجهين إليه ، وتزاحموا عليه ، وأحاطوا به ، واندفعوا وراءه ، وهنا التفتَ فروخ إلى رجل كان يجلس في المجلس ، قائلا له : قل لي بربك : من الشيخ ؟ قال باستغراب ألا تعرفه ! ليس في المدينة كلها من لا يعرفه ، هو أعلم علمائها ، قال : اعذرني أنا لا أعرفه ، أنا كنت غائبا في الجهاد منذ ثلاثين عاما بعيدا عن المدينة ولم أعد إليها إلا بالأمس ، جئت حديثاً ، مَن هو الشيخ ؟ قال : لا بأس ، اجلس إليَّ قليلاً لأحدِّثك ، إنّ هذا الشيخ الذي استمعتَ إليه سيِّدٌ من سادات التابعين ، وعلَمٌ من أعلام المسلمين ، وهو محدِّثُ المدينة وفقيهها ، وإمامها ، على الرغم من حداثة سنه ، قال فروخ : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، وأتبع الرجل ، وإنّ مجلسه يضم كما رأيت مالك بن أنس ، وأبا حنيفة النعمان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، والليث بن سعد ، وهو فوق ذلك سيدٌ كريمٌ الشمائل ، موطأ الأكناف ، سخي اليد، فما عرف أهل المدينة أحداً أوفر منه جوداً لصديق وابن صديق، ولا أزهد منه في متاع الدنيا ، ولا أرغبَ بما عند الله ، قال فروخ : ولكنك لم تذكر لي اسمه ، يا أخي مَن هو هذا الشيخ ؟ قال : إنه ربيعة الرأي ، قال فروخ : ربيعة الرأي ، قال الرجل : نعم اسمه ربيعة ، لكن علماء المدينة وشيوخها دعوه ربيعة الرأي ، لأنهم إن كانوا لم يجدوا لقضية نصاً في كتاب الله ، أو حديث رسول الله لجؤوا إليه فيجتهد بالأمر ، ويقيس ما لم يرد فيه نص ، على ما ورد فيه نص ، ويأتيهم بالحكم فيما أشكل عليهم ، على وجه ترتاح له النفوس ، قال فروخ : لكنك لم تنسبه لي ، ابنُ من هو ؟ قال الرجل : إنه ربيعة بن فروخ ، المكنى بأبي عبد الرحمن ، لقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة مجاهداً في سبيل الله ، فتولَّت أمُّه تربيته وتنشئته ويقول الناس : إن أباه قد عاد الليلة الماضية ، عند ذلك تحدرت من عين فروخ دمعتان كبيرتان ، لم يعرف لهما سبباً .
ومضى يحثُّ الخطى نحو بيته، فلمّا رأته زوجته ، والدموع تملأُ عينيه ، قالت : مابك يا أبا ربيعة ؟ قال : ما بي إلا الخير ، لقد رأيت ولدنا ربيعة في مقام من العلم والشرف والمجد ، ما رأيته لأحد من قبل ، فاغتنمت زوجته الفرصة ، وقالت : أيهما أحبُّ إليك ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي بلغك عن ولدك من العلم والشرف ، فقال: بلى والله ، هذا أحبُّ إليَّ وآثرُ عندي من مال الدنيا كله ، فقالت : لقد أنفقت كل ما تركته لي على ولدك ، حتى صار عالماً ، فهل طابت نفسك بما فعلت ، قال : نعم ، وجُزِيتِ عني ، وعن المسلمين كل خير .
أيها الإخوان الكرام : هذه قصة امرأة مسلمة علمت ابنها وربته حتى أصبح من كبار العلماء وأشياخهم يشار إليه بالبنان هذه أم ربيعة الرأي ( مصنع الرجال ). فإذا استطعتَ أخي المسلم أنْ تجعل ابنك إنسانًا كبيرا وعالما عظيما في دين الله فأنت أسعدُ إنسان في العالم ، ولو أنفقت عليه ألوف و مئات الألوف ، فأنت الرابح ، فلو أنفقت عليه كل شيء ، وصار ابنك في هذا المستوى فأنت الرابح والفائز في الدنيا والآخرة . و لقائل أن يقول هذا زمان مضى ، ومضى أهله وأصحابه فزماننا غير زمانهم وأولادنا غير أولادهم . ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عماكانوا يعملون ) البقرة (141) . لا أيها الإخوة الأفاضل لكل زمان دولة ورجال . ورسولنا الكريم يقول : (( الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة )) . وهذه قمة من قمم أخواتنا الماجدات المؤمنات الصالحات في عصرنا الحاضر وأيامنا هذه التي نعيش فيها الآن تربين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إنها المربية المؤمنة الفاضلة ( أم حسين ) ، والتي وصفت - امرأة بألف رجل -
يقول أحد معلمي القرآن في أحد حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد : أتاني ولد صغير يريد التسجيل في الحلقة ، فقلت له : هل تحفظ شيئا من القرآن ؟ فقال : نعم ، فقلت له : اقرأ من جزء عم .. فقرأ ، فقلت : هل تحفظ سورة تبارك ؟ فقال : نعم ، فتعجبت من حفظه برغم صغر سنه .. فسألته عن سورة النحل ؟ فإذا به يحفظها فزاد عجبي .. فأردت أن أعطيه من السور الطوال فقلت : هل تحفظ البقرة ؟ فأجابني بنعم وإذا به يقرأ ولا يخطيء .. فقلت : يا بني : هل تحفظ القرآن ؟ فقال : نعم !! سبحان الله وماشاء الله تبارك الله عليه ..
طلبت منه أن يأتي غدا ويحضر ولي أمره .. وأنا في غاية التعجب ! ! كيف يمكن أن يكون ذلك الأب ؟ ! ! فكانت المفاجأة الكبرى حينما حضر الأب ..! ! فرأيته وليس في مظهره ما يدل على التزامه بالسنة .. فبادرني قائلا : أعلم أنك متعجب من أنني والد هذا الطفل الصغير ( حسين ) .. ولكن سأقطع حيرتك . .. إن وراء هذا الولد امرأة بألف رجل !!! وأبشرك أن لدي في البيت ثلاثة أبناء كلهم حفظة للقرآن .. وأن ابنتي الصغيرة تبلغ من العمر أربع سنوات تحفظ جزء عم .. فتعجبت وقلت : كيف ذلك ؟ فقال لي : إن أمهم عندما يبدأ الطفل بالكلام تبدأ معه بحفظ القرآن وتشجعهم على ذلك ، وأن من يحفظ أولا هو من يختار وجبة العشاء في تلك الليلة .. وأن من يراجع أولا هو من يختار أين نذهب في عطلة الأسبوع .. . وأن من يختم أولا هو من يختار أين نسافر في الإجازة. وعلى هذه الحالة تخلق بينهم التنافس في الحفظ والمراجعة .
نعم هذه هي المرأة الصالحة التي إذا صلحت صلح بيتها ، وهي التي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم باختيارها زوجة من دون النساء ، وترك ذات المال والجمال والحسب، فصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال : (( تنكح المرأة لأربع : لمالها، وحسبها ، وجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) . رواه البخاري . وقال عليه الصلاة والسلام : (( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )) رواه مسلم .
فهنيئا لها حيث أمّنت مستقبل أطفالها بأن يأتي القرآن شفيعا لهم يوم القيامة ، قال عليه الصلاة والسلام : (( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة : اقرأ ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها )) . رواه ابن حبان .
فتخيل يا أخي الفاضل : تلك المرأة الغالية وهي واقفة يوم المحشر ، وتنظر إلى أبنائها وهم يرتقون أمامها وإذا بهم قد ارتفعوا إلى أعلى منزلة ، ثم جيء بتاج الوقار ووضع على رأسها ، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها ، فماذا سيُفعل بأبنائنا إذا قيل لهم اقرؤوا ؟؟ إلى أين سيصلون ؟؟ وهل ستوضع لنا التيجان ؟؟ إذا نصبت الموازين كم في ميزان أبنائك من أغنية ؟؟ وكم من صورة خليعة ؟؟ وكم من بلوتوث فاضح ؟؟ بل كم من عباءة فاتنة ؟؟ وكم ... وكم ...
كل هذا سيكون في ميزان آبائهم وأمهاتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) رواه البخاري .
فالله ما أعطانا الذرية حتى نكثّر من يعصيه ! ! ولكن ليزداد الشاكرون الذاكرون فهل أبناؤنا منهم ؟ فابدأ أخي الفاضل وابدئي أختي الفاضلة أعزكما الله ببرنامج هادف مع أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا ومن ولانا الله عليهم .. . ولتكن هذه الأحرف والآيات في ميزان أعمالنا ، صفقة لن نندم معها أبدا .. .وشهادة لنا يوم الحساب .. يوم يؤتى بقاريء القرآن شفيعا لأهله يوم القيامة ... يوم ارتقاء حفظة القرآن .. والارتفاع بهم لأعلى منزلة ..
أيها الإخوة أملنا الكبير في أولادنا وفلذات أكبادنا ، والمعول عليه وهم في الصغر . ورحم القائل : العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، والعلم في الكبر كالنقش على الكدر ، وكل واحد منا له ابن يحتاج من وقتك الشيء الكثير ، ومن مالك الشيء الكثير ، وقدِّم له كل ما تملك ، ليكون كما يريد الله عز وجل ، فهذا زادُك عند الله ، وهذا الذي يبقى لك ذخرا بعد موتك وانقطاع عملك (( وولد صالح يدعو له )) . فهذا مجاهد "فروخ أبو عبد الرحمن "، وابنه عالم "ربيعة الرأي "، فنال المجد من طرفيه ، وقد فتح هو البلاد، وابنه فتح قلوب العباد . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ألقيت هذه المحاضرة في منتدى رياض الصالحين ( مجلس الدكتور : محمد العامودي ) .