عندما تتبدل موازين القوى

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

إن ديمومة الحياة وصيرورتها المتجددة تقول بأنها قائمة على صراع دائم بين القوى .  هذا الصراع المستمر والسرمدي، هو سر البقاء والدفع المستمر للحياة.  صراع صنفه الناس بفطرتهم على أنه صراع حق وباطل؛ مع أن أهل الباطل نفسه لا يعتقدون أنهم على باطل  ويرون أنفسهم أنهم أهدى الناس وأحق الناس بامتلاك الحق والحقيقة. وهذا هو سر ديمومة هذه الحياة .

القوة قاهرة ، والناس يخضعون قهريا للقوة الغالبة. وحكمة الله تقول بأن ميزان القوة بين البشر باقي التأرجح ليوم الدين، ودوام الحال  لثقل كفة على كفة هو من المحال .  

هذا التبدل في القوة وثقلها، سواء في الأفراد أو المؤسسات أو الأنظمة ، يدفع الممتلكون لها والقاهرون بها لأن يشعروا بالغلبة والظهور ومن ثم المركزية والوحدانية في الحكم؛ والتي تولد الطغيان أو ما يعرف في القرآن الكريم ب"النموذج الفرعوني".

 فالقوة التي يمتلكها الفرد أو المؤسسة أو النظام الحاكم هي نفس القوة التي تحكم طبيعة الأشياء والمادة في ناموس هذا الكون ، وكما تعرف القوة  في علم الفيزياء على أنها مؤثر يؤثر على الأجسام فيسبب تغييراً في حالته أو اتجاهه أو موضعه أو حركته؛ وأيضا هكذا القوة التي يمتلكها الفرد أو المؤسسة أو النظام ؛ هي المؤثر الذي يغير في اتجاه وموضع وحركة  "الفرد، الأسرة، المجتمع، القضية ، الوطن ، ....الخ".

ولذا عندما يحتكر طرف واحد لنظام القوة لفترة زمنية طويلة "النموذج الفرعوني" ، تشعر وكأن ميزان القوة في الكون معطوب، وان خللا واضحا يظهر في اتجاه وحركة وموضع الفرد و المجتمع بين الأفراد والمجتمعات الأخرى. وكل ما يقوم في المجتمع من أشكال الطاعة هو عبارة عن نظام قهري يخضع للقوة الطاغية عنوة.

وأشد ما يميز الطغيان والنموذج الفرعوني هو الجهاز الإعلامي الموجه الذي يستخدمه هذا النظام المتأله ، والذي يتكون من مجموعة من سحرة اللغة و البيان والتصوير، أولئك الذين يحترمون الظاهر القاهر بقوته.

 وهؤلاء ، سحرة الإعلام الموجه، هم نموذج نفعي متطفل ، قديم متكرر ومصاحب  لكل الأنظمة القهرية التي تحتكر سمع الناس وبصرهم وتقمع كل من يحاول أن يقشع الغشاوة عن عيونهم أو يقرع الأجراس قريبا من أذانهم المضروب عليها في كهف النظام الفرعوني منذ سنوات وسنوات.

{وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } (قرآن كريم،  الأعراف113)

وجمهور الناس وعامتهم ، و من قديم الزمان ، يتبعون الغالب الظاهر القاهر، ويخضعون لمن يتحكم بمصالحهم ويسير شؤونهم . ولذا هم وعيونهم في رقابة دائمة للسحرة وأدواتهم. فسحرة الإعلام هم الدليل على  ميزان القوة  ولمن سترجح الكفة ، ولا يبدؤون بالتهليل والتصفيق للغالب، إلا عندما تجلس كفة الميزان وتستقر بدون تأرجح.

{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } (قرآن كريم، الشعراء39،40)

فالإعلام وسحرته ومردة شياطينه، وبفعل القوة التي يسجدون لها ، هم من يوجهون حركة الشارع ويزرعون صورة الميزان الراجح للقوة في عقول الناس ويخوفونهم ويخضعونهم لها، بأخبارهم ونشراتهم وتقاريرهم و مقالاتهم و أفلامهم و مسلسلاتهم وحواراتهم ..... :

{قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } (قرآن كريم، الأعراف116)

{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } (قرآن كريم، الشعراء44 )

ومن فضل الله علينا وعلى الناس ، أننا عاصرنا وشاهدنا في زماننا هذا أحداثا تاريخية عصفت بمنطقتنا العربية، و تبدلت فيها موازين قوى الأنظمة والأحزاب ، فانهارت قوة أنظمة وصعدت أخري، وكان الميزان قائمٌ  في الميدان ...

كان سحرة الإعلام تهلل للنظام وتنشد له وتحذر الخارجين عن الطاعة، ثم ما لبثوا أن بدؤوا يمسكون العصا من المنتصف، حتى إذا قال الميدان كلمته .... خروا للغالب ساجدين ..!!

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } (قرآن كريم، الشعراء45 ،46)

ولا غرو أن هذه هي الحياة، وهكذا هم الناس دوما يخضعون قهرا، والناس كالناس و لكن الدنيا لمن غلبا...!   كما قال أبو العلاء المعري:

من ساءه سبب أو هاله عجب             فلي  ثمانون  عاما  لا أرى عجبا

الدهر  كالدهر و الأيام واحدة             و الناس كالناس و الدنيا لمن غلبا

فمن تزوجت شخصا على ميزان قوته الشخصية أو البدنية  أو المادية أو الاجتماعية ، اليوم تطلب الطلاق منه أو تركله بلا رحمة  حين يخونه الدهر ويطيش به ميزان القوى ... !!

والصحف والإذاعات والأحزاب  التي كانت تكيل مدحا  في النظام ، تسجد اليوم للكفة الراجحة في الميدان وتنظم شعرا ثوريا وتلعن ما كان ...!!!

قليلون هم الذين يثبتون مع الحق الذي يؤمنون به، حتى ولو طاشت به كفة ميزان القوة. وتلك أيضا سنة الله في خلقه.  فأتباع الرسل في بداية دعوتهم هم قلة مستضعفون، يخافون أن يتخطفهم الناس، و اليوم أتباع الرسل بالملايين والمليارات التي تعج بهم الدنيا، ولكن غثاء كغثاء السيل !!!

 والمسلمون الطلقاء يوم الفتح الأكبر بمكة ويوم ظهر الإسلام وقهر ، هم الذين حاربوا النبي الخاتم وأدموا قدميه وشجوا رأسه وكسروا رباعيته!

وسبط سيدنا محمد الذبيح في كربلاء ، كان المسلمون يقاتلونه وقلوبهم معه وتحبه  حبا على وجل، من محبة جده ، ولكن سيوفهم كانت على نحره !!

واليوم تتبدل موازين القوى  في المنطقة وتسقط أحزاب وتنهار أنظمة وحكومات ويخرج علينا سحرة الأنظمة الجديدة ليزينوا ويسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ويبثوا على مسامعنا وعيوننا سحرهم  الجديد ... العظيم ... الذي يأله الثوار الجدد ليصبحوا ... الحاكم المطلق والحق المطلق والفرعون الجديد والمطلق...!!

 مع أن الديمقراطية الجديدة تقول بأنه لا أحد يحتكر الحق المطلق . والثقة الممنوحة للحكام الجدد هي نسبية وقد تنزع منهم وتؤل لغيرهم وتنقلب الموازين سلميا بفعل الورقات الانتخابية.

قليل من الناس تدرك .... أن لميزان القوة  كفتان ، وهما بين أصابع الرحمن  يقلبهما كيف يشاء، وأن الحق المطلق هو العدل المطلق وهو القوة المطلقة التي لا توجد في البشر المتأرجحة موازينهم بين صراع القوى الدائم.

وما دام الحق في البشر نسبي والقوة متأرجحة، فإن الانتماء والانتساب  للحق المطلق هو خرافة فرعونية لاغتصاب حق الناس وحقوقهم وتعدي على حق الله وأنبيائه. ولكي لا تطغى كفة طرف على طرف فيتفرعن الذي بيده القوة ، كان هناك ميزان العدل والقسط بين الناس وهو من عند الله.

ومن عجائب زماننا أن عدونا يعاملنا بميزان القوة وفي داخل مجتمعه  يتعامل بميزان العدل. ونحن ، الذين نعتبر أنفسنا أهدى الناس سبيلا، نحتكم لميزان القوة ولا نعرف لميزان العدل طريقا ولم نهتدي إليه سبيلا.

فمجتمع عدونا الظالم الذي لم تعرف البشرية ظالما مثله،لا يجد حرجا في أن يقدم رئيس دولته السابق للمحاكمة والسجن لتعديه على حقوق أفراد من مجتمعه ، ونحن نجد أنه من العار أن نحتكم للقانون وللشعب.!؟

في الختام أقول؛ إن كان هناك خللا في موازين القوى التي تحكم من حولنا، فإن هذا لا يمنع أن نقيم ميزان العدل بيننا وفي مجتمعنا. فميزان القوة غالبا ما يكون مع الطاغية وقلما امتلكته الفئة الصالحة ، أما ميزان العدل فهو الهي وهو ميزان الله بين خلقه ولا يعرف للطغيان سبيل. ومن فقد العدل في مجتمعه فلا يحلم بأن يكون له نصيب في كفة موازين القوى من حوله.